{العائدون من داعش} وإشكاليات المواجهة

نقص البيانات الواضحة عنهم يؤرق الدول

عناصر من «داعش» في الصحراء
عناصر من «داعش» في الصحراء
TT

{العائدون من داعش} وإشكاليات المواجهة

عناصر من «داعش» في الصحراء
عناصر من «داعش» في الصحراء

«العائدون من داعش» إشكالية كبيرة لا زالت تنشر القلق في أوروبا وأفريقيا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا إلى ليبيا وبعض الدول المجاورة... وبات السؤال الذي يؤرق الجميع، هل تتعامل معهم الدول باعتبارهم مُغرراً بهم ينبغي إصلاحهم ومناصحتهم ليعودوا للحياة من جديد، أم الحل في تصفيتهم؟
باحثون في الحركات المتطرفة وخبراء أمنيون قالوا لـ«الشرق الأوسط» إن «مشكلة الدول تكمن في وجود تخوفات من إقدام الفارين من «داعش» على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، خاصة مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء العائدين، واحتمالية تسلل تلك العناصر داخل الدول دون لفت انتباه أجهزة الأمن».
مراقبون يعتقدون أن فلول التنظيم سيعمدون لإنشاء تنظيم جديد من رحم «داعش» لشن عمليات عنف جديدة، فضلاً عن توجه بعضهم إلى تنظيم «القاعدة» الإرهابي... وهناك من يقولون إن «داعش» سوف ينتقل لحرب العصابات والذوبان في الصحراء، وهو أمر أكسبه خبرة خلال الفترة التي قضاها بالعراق.
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري؛ حيث نجح التحالف الدولي والقوات العراقية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية الميدانية وكذلك الإعلامية، وبناء على ذلك، لم يعد لمقاتلي التنظيم الأجانب موطئ قدم في العراق، وهذا ينطبق على سوريا أيضا.
اللواء كمال مغربي، الخبير الأمني والإستراتيجي في مصر، قال تمثل عودة الفارين من «داعش» إشكالية كبرى، حيث إن انضمامهم للتنظيم يجعلهم يمثلون خطورة على الصعيدين الفكري والأمني، فلقد كانوا مقتنعين تماما بأهداف التنظيم، وتلقوا تدريبات على استخدام الأسلحة، وعاشوا في أجواء العنف واكتسبوا خبرات قتالية، جعلت منهم خطرا دائما أينما حلّوا, مضيفا: تباينت الآراء بشأن هؤلاء المقاتلين، حيث يرى فريق أنه يجب تصفيتهم والتخلص منهم، وفريق آخر يرى منعهم من العودة أبدًا لدولهم، بينما يرى فريق ثالث أنه ينبغي السماح لهم بالعودة مرة أخرى إلى بلدانهم طالما تخلوا عن هذا الفكر المتطرف.
لكن الطرح الثالث، رفضه بعض الخبراء بقولهم: هناك تجارب سابقة تظهر مدى خطورة عودة هؤلاء، فقد شهدت المنطقة العربية من قبل ظاهرة العائدين من أفغانستان الذين كانوا قد تدربوا على استخدام الأسلحة وانخرطوا في القتال لفترات طويلة، ثم عاد بعضهم إلى بلدانهم وحاولوا رفع السلاح ضد دولهم، مدعين أنهم يسعون إلى تطبيق الشريعة.
جدير بالذكر أن مثل هذه التجارب تظهر أن هذه القضية شائكة للغاية، وتمثل تحديا كبيرا لجميع دول العالم؛ حيث إن الأساليب التي يتبناها هذا التنظيم متباينة وغير متوقعة، حيث يوجه أتباعه حول العالم للقيام بعمليات فردية يطلقون عليها «الذئاب المنفردة» ولا تتطلب هذه العمليات تنسيقًا مع التنظيم؛ بل التنظيم يوضح لهم فقط الخطوط العريضة، وكيفية التحضير لهذه العملية لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا... وهذا بدوره يجعل من كل من انضم لهذا التنظيم «قنبلة موقوتة» قد تنفجر في أي وقت وبأي مكان.
يشار إلى أن «العائدون من داعش» مصطلح شهد تغيراً كبيرًا بعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق؛ فقد كان يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافًا جذريًا عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم.
والآن، وبعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق، أصبح المصطلح يحمل معنى مغايرا تماما، إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء العائدين لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟، وقد أعربت الكثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء.
وسبق أن حذر مسؤولون في الاتحاد الأفريقي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من أن نحو 5 آلاف مقاتل يحاربون في الشرق الأوسط في صفوف «داعش» عادوا إلى القارة السمراء، بما ينذر بوجود تهديدات لهؤلاء العائدين محملة ‏بالأفكار ‏المتطرفة التي غرسها فيهم التنظيم، خاصة في ليبيا.
وفي فبراير (شباط) الماضي، أعلن مركز الدراسات الألماني «فيريل» أن عدد المقاتلين الذين يحملون جنسيات أوروبية وأميركية في التنظيم بلغ 21500 وأن العائدين إلى دولهم بلغ 8500 شخص.
وتشير تقديرات الولايات المتحدة في عام 2016 إلى أن عدد مقاتلي «داعش» الذين تسربوا إلى سوريا والعراق بلغ 36500 مقاتل، بينهم 6 آلاف أجنبي (غير عربي)، فيما تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن عددهم يبلغ 30 ألفاً، بينهم 7 آلاف أجنبي، بحسب قائمة نشرتها الشرطة الدولية (إنتربول).... وتذهب الأمم المتحدة إلى أن ما بين 10 في المائة إلى 30 في المائة من مقاتلي «داعش» عادوا إلى أوطانهم قبيل الهزائم الأخيرة في العراق وسوريا.... وتجمع أجهزة الاستخبارات على أن «داعش» لديه 8 فروع رئيسية و50 تنظيماً منضوياً تحت لوائه في نحو 21 بلدا.
طرح آخر قدمه الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، مدير مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الإفتاء المصرية، قائلاً: «هناك تخوُف آخر يظهر في الأفق وهو احتمالية الانتقال لهؤلاء العائدين بين التنظيمات التكفيرية والإرهابية، كما هو الحال بين «القاعدة وداعش»، خاصة مع أفول نجم «داعش» وبروز قوة تنظيم «القاعدة» وإعادة لملمة صفوفه وتنظيم قوته»، مضيفاً: يعضد من هذا الاحتمال حالة الضعف الديني لدى العناصر الإرهابية، الأمر الذي أكدته العديد من الدراسات التي أجريت على أفراد انضموا لـ«داعش»، حيث أشارت دراسة حديثة لمكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، وشملت 43 عنصرا عائدا لوطنه من 12 دولة، أن أغلبهم يعاني من نقص المعرفة الأساسية بالإسلام ومبادئه؛ لكن أغرتهم العاطفة، مشيراً إلى أن الدراسة أكدت أن جميع من عادوا من «داعش» في مرحلة المراجعة والندم، أكثر منهم في مرحلة التحفز لعمليات جديدة؛ لكن لا ينفي هذا الاستعداد لاحتمال الخطر.
من جهته، قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات المتطرفة بمصر، لا شك أن العائدين من «داعش» ليسوا مجرد عناصر مهزومة فقط فمنهم من أصيب بخيبة أمل بعدما تبين لهم وهم «الخلافة المزعومة»، مضيفاً: هناك أيضا عائدون لأن أرض المعارك ضاقت بهم وانهزم تنظيمهم، على أمل العودة من جديد مستقبلاً؛ لكنهم لن يتخلوا عن «التكفير والتفجير» وأفكار التنظيم.
وعن مخاطر عودة الفارين من «داعش»، قال باحثون في مرصد الأزهر بالقاهرة، ‏إنه إذا نظرنا إلى المخاطر التي من الممكن أن تسببها عودة أولئك المقاتلين للدول، نجد أنه من ‏الناحية الفكرية والعقدية ومعاداتهم للوسطية سيكون تأثيرهم أقوى، وطريقة إقناعهم أسرع، فهم ‏من بويعوا من قبل وينظر إليهم على أنهم المهاجرون الذين هاجروا لنصرة الدين وإقامة ‏«الدولة المزعومة»؛ إلا أن الحظ لم يكن حليفاً لهم، وسيكون ذلك باعثا قويا للذين بايعوهم من قبل ومثيراً ‏لحماستهم أن يسعوا لإكمال المشوار من بعدهم.
وأضاف الباحثون أن من المخاطر التي يخشى على القارة ‏السمراء منها بعد عودة «الدواعش» الأفارقة إلى مواطنهم الأصلية وانضمامهم من جديد إلى ‏التنظيمات والجماعات الأفريقية هي نقل الاستراتجيات والتكنولوجيا التي كان يستخدمها «داعش» في سوريا والعراق إلى الجماعات الأفريقية، بالإضافة إلى ازديادهم في العدد، هذا في ‏حال استطاع العائد الانضمام.... أما إذا لم يستطع فيصبح بمثابة «خلية نائمة» بين ثنايا المجتمع، ‏يمكن لها أن تنشط في أي وقت إذا سنحت لها الفرصة.
الباحثون أوضحوا أنه من الناحية الاقتصادية يمثل العائدون من «داعش» عبئا اقتصاديا كبيرا على مجتمعاتهم، فدائما ‏ما تعتمد تلك الجماعات على أعمال القرصنة والسلب والاعتداء على ممتلكات الغير، فتمثل ‏تلك الزيادة في الأعداد زيادة في المتطلبات، والتي تساهم بشكل أو بآخر في زيادة عمليات ‏القرصنة والنهب والسلب. مراقبون يرون أن هذا الأمر يستلزم ضرورة رفع حالة التأهب ‏القصوى في مطارات ومنافذ وحدود الدول الأفريقية التي يتواجد بها تنظيمات وجماعات ‏إرهابية بشكل عام، وبالدول التي بها تنظيمات بايعت «داعش» بشكل خاص مثل «بوكو ‏حرام» في نيجيريا، والفصيل المنشق عن حركة «الشباب» في الصومال، وذلك للسيطرة على تلك ‏العناصر المتطرفة، ومعاقبة من تثبت إدانته، وإعادة تأهيله ودمجه في المجتمع من جديد لتفادي ‏الأضرار التي ستترتب على عودتهم.
وينشط عناصر «داعش» الفارون من سرت وبنغازي ودرنة في المناطق الصحراوية جنوبي غرب سرت وجنوبي بني وليد، حيث أعلن التنظيم في أكثر من مرة عبر مقاطع مصورة عن تواجده مجددا في المنطقة المحيطة بمدينة سرت التي تمتد لمساحات شاسعة.
وكانت منظمة الأمم المتحدة، حذرت في فبراير الماضي، من أن «داعش» ما زال مُصرا على إعادة تشكيل قدراته في ليبيا عن طريق تعزيز صفوفه بمقاتلين أجانب قادمين من العراق وسوريا.... ولا يزال يخطط وينفذ هجمات محددة في ليبيا ليبرهن للمتعاطفين معه أنه لا يزال يحتفظ بأهميته.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.