{العائدون من داعش} وإشكاليات المواجهة

نقص البيانات الواضحة عنهم يؤرق الدول

عناصر من «داعش» في الصحراء
عناصر من «داعش» في الصحراء
TT

{العائدون من داعش} وإشكاليات المواجهة

عناصر من «داعش» في الصحراء
عناصر من «داعش» في الصحراء

«العائدون من داعش» إشكالية كبيرة لا زالت تنشر القلق في أوروبا وأفريقيا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا إلى ليبيا وبعض الدول المجاورة... وبات السؤال الذي يؤرق الجميع، هل تتعامل معهم الدول باعتبارهم مُغرراً بهم ينبغي إصلاحهم ومناصحتهم ليعودوا للحياة من جديد، أم الحل في تصفيتهم؟
باحثون في الحركات المتطرفة وخبراء أمنيون قالوا لـ«الشرق الأوسط» إن «مشكلة الدول تكمن في وجود تخوفات من إقدام الفارين من «داعش» على ممارسة العنف والإرهاب داخل حدودها، خاصة مع عدم وجود بيانات تفصيلية لهؤلاء العائدين، واحتمالية تسلل تلك العناصر داخل الدول دون لفت انتباه أجهزة الأمن».
مراقبون يعتقدون أن فلول التنظيم سيعمدون لإنشاء تنظيم جديد من رحم «داعش» لشن عمليات عنف جديدة، فضلاً عن توجه بعضهم إلى تنظيم «القاعدة» الإرهابي... وهناك من يقولون إن «داعش» سوف ينتقل لحرب العصابات والذوبان في الصحراء، وهو أمر أكسبه خبرة خلال الفترة التي قضاها بالعراق.
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري؛ حيث نجح التحالف الدولي والقوات العراقية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية الميدانية وكذلك الإعلامية، وبناء على ذلك، لم يعد لمقاتلي التنظيم الأجانب موطئ قدم في العراق، وهذا ينطبق على سوريا أيضا.
اللواء كمال مغربي، الخبير الأمني والإستراتيجي في مصر، قال تمثل عودة الفارين من «داعش» إشكالية كبرى، حيث إن انضمامهم للتنظيم يجعلهم يمثلون خطورة على الصعيدين الفكري والأمني، فلقد كانوا مقتنعين تماما بأهداف التنظيم، وتلقوا تدريبات على استخدام الأسلحة، وعاشوا في أجواء العنف واكتسبوا خبرات قتالية، جعلت منهم خطرا دائما أينما حلّوا, مضيفا: تباينت الآراء بشأن هؤلاء المقاتلين، حيث يرى فريق أنه يجب تصفيتهم والتخلص منهم، وفريق آخر يرى منعهم من العودة أبدًا لدولهم، بينما يرى فريق ثالث أنه ينبغي السماح لهم بالعودة مرة أخرى إلى بلدانهم طالما تخلوا عن هذا الفكر المتطرف.
لكن الطرح الثالث، رفضه بعض الخبراء بقولهم: هناك تجارب سابقة تظهر مدى خطورة عودة هؤلاء، فقد شهدت المنطقة العربية من قبل ظاهرة العائدين من أفغانستان الذين كانوا قد تدربوا على استخدام الأسلحة وانخرطوا في القتال لفترات طويلة، ثم عاد بعضهم إلى بلدانهم وحاولوا رفع السلاح ضد دولهم، مدعين أنهم يسعون إلى تطبيق الشريعة.
جدير بالذكر أن مثل هذه التجارب تظهر أن هذه القضية شائكة للغاية، وتمثل تحديا كبيرا لجميع دول العالم؛ حيث إن الأساليب التي يتبناها هذا التنظيم متباينة وغير متوقعة، حيث يوجه أتباعه حول العالم للقيام بعمليات فردية يطلقون عليها «الذئاب المنفردة» ولا تتطلب هذه العمليات تنسيقًا مع التنظيم؛ بل التنظيم يوضح لهم فقط الخطوط العريضة، وكيفية التحضير لهذه العملية لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا... وهذا بدوره يجعل من كل من انضم لهذا التنظيم «قنبلة موقوتة» قد تنفجر في أي وقت وبأي مكان.
يشار إلى أن «العائدون من داعش» مصطلح شهد تغيراً كبيرًا بعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق؛ فقد كان يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافًا جذريًا عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى بلادهم.
والآن، وبعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق، أصبح المصطلح يحمل معنى مغايرا تماما، إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء العائدين لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟، وقد أعربت الكثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء.
وسبق أن حذر مسؤولون في الاتحاد الأفريقي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من أن نحو 5 آلاف مقاتل يحاربون في الشرق الأوسط في صفوف «داعش» عادوا إلى القارة السمراء، بما ينذر بوجود تهديدات لهؤلاء العائدين محملة ‏بالأفكار ‏المتطرفة التي غرسها فيهم التنظيم، خاصة في ليبيا.
وفي فبراير (شباط) الماضي، أعلن مركز الدراسات الألماني «فيريل» أن عدد المقاتلين الذين يحملون جنسيات أوروبية وأميركية في التنظيم بلغ 21500 وأن العائدين إلى دولهم بلغ 8500 شخص.
وتشير تقديرات الولايات المتحدة في عام 2016 إلى أن عدد مقاتلي «داعش» الذين تسربوا إلى سوريا والعراق بلغ 36500 مقاتل، بينهم 6 آلاف أجنبي (غير عربي)، فيما تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن عددهم يبلغ 30 ألفاً، بينهم 7 آلاف أجنبي، بحسب قائمة نشرتها الشرطة الدولية (إنتربول).... وتذهب الأمم المتحدة إلى أن ما بين 10 في المائة إلى 30 في المائة من مقاتلي «داعش» عادوا إلى أوطانهم قبيل الهزائم الأخيرة في العراق وسوريا.... وتجمع أجهزة الاستخبارات على أن «داعش» لديه 8 فروع رئيسية و50 تنظيماً منضوياً تحت لوائه في نحو 21 بلدا.
طرح آخر قدمه الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، مدير مرصد الفتاوى التكفيرية بدار الإفتاء المصرية، قائلاً: «هناك تخوُف آخر يظهر في الأفق وهو احتمالية الانتقال لهؤلاء العائدين بين التنظيمات التكفيرية والإرهابية، كما هو الحال بين «القاعدة وداعش»، خاصة مع أفول نجم «داعش» وبروز قوة تنظيم «القاعدة» وإعادة لملمة صفوفه وتنظيم قوته»، مضيفاً: يعضد من هذا الاحتمال حالة الضعف الديني لدى العناصر الإرهابية، الأمر الذي أكدته العديد من الدراسات التي أجريت على أفراد انضموا لـ«داعش»، حيث أشارت دراسة حديثة لمكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، وشملت 43 عنصرا عائدا لوطنه من 12 دولة، أن أغلبهم يعاني من نقص المعرفة الأساسية بالإسلام ومبادئه؛ لكن أغرتهم العاطفة، مشيراً إلى أن الدراسة أكدت أن جميع من عادوا من «داعش» في مرحلة المراجعة والندم، أكثر منهم في مرحلة التحفز لعمليات جديدة؛ لكن لا ينفي هذا الاستعداد لاحتمال الخطر.
من جهته، قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات المتطرفة بمصر، لا شك أن العائدين من «داعش» ليسوا مجرد عناصر مهزومة فقط فمنهم من أصيب بخيبة أمل بعدما تبين لهم وهم «الخلافة المزعومة»، مضيفاً: هناك أيضا عائدون لأن أرض المعارك ضاقت بهم وانهزم تنظيمهم، على أمل العودة من جديد مستقبلاً؛ لكنهم لن يتخلوا عن «التكفير والتفجير» وأفكار التنظيم.
وعن مخاطر عودة الفارين من «داعش»، قال باحثون في مرصد الأزهر بالقاهرة، ‏إنه إذا نظرنا إلى المخاطر التي من الممكن أن تسببها عودة أولئك المقاتلين للدول، نجد أنه من ‏الناحية الفكرية والعقدية ومعاداتهم للوسطية سيكون تأثيرهم أقوى، وطريقة إقناعهم أسرع، فهم ‏من بويعوا من قبل وينظر إليهم على أنهم المهاجرون الذين هاجروا لنصرة الدين وإقامة ‏«الدولة المزعومة»؛ إلا أن الحظ لم يكن حليفاً لهم، وسيكون ذلك باعثا قويا للذين بايعوهم من قبل ومثيراً ‏لحماستهم أن يسعوا لإكمال المشوار من بعدهم.
وأضاف الباحثون أن من المخاطر التي يخشى على القارة ‏السمراء منها بعد عودة «الدواعش» الأفارقة إلى مواطنهم الأصلية وانضمامهم من جديد إلى ‏التنظيمات والجماعات الأفريقية هي نقل الاستراتجيات والتكنولوجيا التي كان يستخدمها «داعش» في سوريا والعراق إلى الجماعات الأفريقية، بالإضافة إلى ازديادهم في العدد، هذا في ‏حال استطاع العائد الانضمام.... أما إذا لم يستطع فيصبح بمثابة «خلية نائمة» بين ثنايا المجتمع، ‏يمكن لها أن تنشط في أي وقت إذا سنحت لها الفرصة.
الباحثون أوضحوا أنه من الناحية الاقتصادية يمثل العائدون من «داعش» عبئا اقتصاديا كبيرا على مجتمعاتهم، فدائما ‏ما تعتمد تلك الجماعات على أعمال القرصنة والسلب والاعتداء على ممتلكات الغير، فتمثل ‏تلك الزيادة في الأعداد زيادة في المتطلبات، والتي تساهم بشكل أو بآخر في زيادة عمليات ‏القرصنة والنهب والسلب. مراقبون يرون أن هذا الأمر يستلزم ضرورة رفع حالة التأهب ‏القصوى في مطارات ومنافذ وحدود الدول الأفريقية التي يتواجد بها تنظيمات وجماعات ‏إرهابية بشكل عام، وبالدول التي بها تنظيمات بايعت «داعش» بشكل خاص مثل «بوكو ‏حرام» في نيجيريا، والفصيل المنشق عن حركة «الشباب» في الصومال، وذلك للسيطرة على تلك ‏العناصر المتطرفة، ومعاقبة من تثبت إدانته، وإعادة تأهيله ودمجه في المجتمع من جديد لتفادي ‏الأضرار التي ستترتب على عودتهم.
وينشط عناصر «داعش» الفارون من سرت وبنغازي ودرنة في المناطق الصحراوية جنوبي غرب سرت وجنوبي بني وليد، حيث أعلن التنظيم في أكثر من مرة عبر مقاطع مصورة عن تواجده مجددا في المنطقة المحيطة بمدينة سرت التي تمتد لمساحات شاسعة.
وكانت منظمة الأمم المتحدة، حذرت في فبراير الماضي، من أن «داعش» ما زال مُصرا على إعادة تشكيل قدراته في ليبيا عن طريق تعزيز صفوفه بمقاتلين أجانب قادمين من العراق وسوريا.... ولا يزال يخطط وينفذ هجمات محددة في ليبيا ليبرهن للمتعاطفين معه أنه لا يزال يحتفظ بأهميته.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.