تبعات صعود اليمين القومي الإيطالي

فوز ممثليه بالغالبية البرلمانية انتصار للانغلاق الفكري

برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
TT

تبعات صعود اليمين القومي الإيطالي

برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)
برلسكوني (يسار) وعد بترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا («الشرق الأوسط»)

يتساءل كثيرون عما يجري في أوروبا، وبالتحديد، صعود اليمين القومي ما بين يمين الوسط واليمين المتطرف، وملامح انتهاء عصر اليسار المعتدل، الذي كان يحمل شعوراً إنسانياً متسامحاً. ولعل نظرة سريعة على الخريطة الأوروبية تُشعر المرء المراقب بالقلق على مصير الاتحاد الأوروبي برمته، إذا سيطر هذا التيار الشعبوي المتطرف على حكومات وبرلمانات دول بأكملها كحال المجر وبولندا، وفي دول أخرى كألمانيا، حيث حصل 100 من أعضاء حزب «البديل» على مقاعد في مجلس النواب «البوندستاغ». بل حتى في دول أخرى إسكندنافية، مثل النرويج والسويد، حيث ما كان المرء يتصور أن ينجح التطرف الأصولي بدخول حكومات ائتلافية تجمع الأصوليين والمعتدلين. أما أحدث فصول صعود اليمين الأصولي الأوروبي فقد شهدته إيطاليا، إحدى قلاع النهضة والتنوير الأوروبي، في مشهد يميل إلى الظلامية تجاه الآخر المغاير بنوع خاص، وهذه أعلى درجات الأصولية البغيضة، حين يعتقد المرء بامتلاكه الحقيقة المطلقة، محاولاً إقصاء الآخر من التاريخ أو الجغرافيا، وربما من كليهما معاً.
لعل أفضل مَن وصف ما جرى في إيطاليا عبر انتخابات مجلس النواب والشيوخ كانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، التي اعتبرت الأمر بمثابة «انفجار للشعبوية»، وبخاصة، بعد فوز حركة الـ«5 نجوم» وحركة «رابطة الشمال»، النسبة الأعلى لأصوات ناخبي يمين الوسط. ومع هذه النتيجة بدا كأن الإيطاليين أسندوا حكم بلادهم إلى قوى اليمين.
المؤكد أن نظرة سريعة إلى القيادات السياسية الإيطالية، لا سيما، تلك، التي فازت جماعاتها في الانتخابات، تعطينا مؤشراً على حالة الانغلاق الفكري والانطواء الذهني التي أصابت الإيطاليين وباتت مسيطرة عليهم. وإليك على سبيل المثال، لويجي دي مايو، مرشح حركة الـ«5 نجوم» لرئاسة الحكومة. وهو الشخص المناهض للحكومة وللنظام، الذي قاد حركته لتسجيل نتيجة متقدمة بلغت نحو 30.78% من الأصوات في مجلس النواب، و30.91% في مجلس الشيوخ. بعيداً عن القضايا السياسية الأوروبية – الأوروبية، أو الأوروبية – الآسيوية، أو الأوروبية – الأميركية، نرى مسألة الهجرة والمهاجرين في القلب من برنامج دي مايو الانتخابي. إذ أشار إلى أنه يتوجب على الاتحاد الأوروبي تمكين الناس من تقديم طلبات للمجيء إليه من الدول التي يعيشون فيها، وبهذه الطريقة «يمكننا غربلة الطلبات من نقاط الانطلاق لمعرفة مَن لديهم الحق كلاجئين سياسيين، وأولئك الذين لا يملكون هذا الحق كونهم مهاجرين اقتصاديين».
والواقع، أنه على الرغم من الأخطاء التي اقترفتها حكومات بلاده في ليبيا بنوع خاص، فإن دي مايو يترصّد بنوع خاص ضحايا الهجوم الأوروبي على ليبيا الذي أفقدها استقرارها حتى الساعة.
أما الملياردير سيلفيو برلوسكوني، رئيس الوزراء السابق ورئيس حركة «فورتسا إيطاليا» (إلى الأمام يا إيطاليا) -الذي تتموضع حركته في يمين الوسط وحظيت بـ14.18% في مجلس الشيوخ- فقد اعتبر الهجرة «قنبلة اجتماعية جاهزة للانفجار» في إيطاليا. وفي تعليقه على إطلاق شخص عنصري النار على 6 مهاجرين اعتبر أن «المسألة أمنية وليست تطرفاً أو أصولية».
برلوسكوني، وفي دغدغة للشارع الإيطالي لا تخطئها العين، وعد بأنه سيعمل على ترحيل 600 ألف مهاجر غير شرعي من إيطاليا في حال حصول ائتلاف اليمين والوسط على مقاعد في الحكومة. واليوم، بعدما تحقق هذا بالفعل، فإن الأسوأ قادم في الطريق لا محالة للمهاجرين البؤساء. وما يقلِق أكثر، أن ثمة وعداً بإسناد حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة الائتلافية العتيدة إلى الأمين العام لـ«رابطة الشمال» ماتيو سالفيني، وهو السياسي الإيطالي الأكثر تطرفاً في دعوته الصريحة لوقف ما يسميه «أسلمة إيطاليا» وإغلاق نحو 800 مسجد. وهو عينه الذي حذّر مما سماه «المحاكم الشرعية» التي زعم أنها صارت بديلاً للقانون المدني في بريطانيا.

عن أخطاء أوروبا تجاه إيطاليا
دى البحث عن الأسباب التي قادت إلى هذه النتيجة المقلقة، هناك أكثر من رؤية ووجهة نظر، وبعضها يرى أن العواصم الأوروبية هي التي دفعت إيطاليا إلى هذا المصير. بين هذه الأصوات جيوزيبي سانتوليكيدو، الباحث والأكاديمي البلجيكي المنحدر من أصول إيطالية. أما السبب في ذلك، فيعزوه إلى قضية الهجرة التي شكّلت عصب الحملة الانتخابية الإيطالية على اختلاف توجهات الأحزاب. ثم يتهم أوروبا بأنها «لم تفعل شيئاً لمساعدة إيطاليا التي تستقبل منذ سنوات مئات الآلاف من اللاجئين على أراضيها سنوياً».
من ناحية ثانية، يقر الباحث الإيطالي الأصل بأن «الشعبويين والمتطرفين» هم الذين يقودون معظم الأحزاب الإيطالية الموجودة على الساحة السياسية من دون تمييز. وهو يقسمهم كالتالي إلى 3 أشكال مختلفة من الشعبوية: برلوسكوني «الذي يعد رائداً في هذا المجال»، ثم حركة الـ«5 نجوم» التي يصفها بأنها «حركة احتجاجية بامتياز»، ثم رئيس الوزراء السابق ماثيو رينزي (يسار الوسط)، «الذي لم يحقق أياً من وعوده الانتخابية في السابق».
ولعل المثير في التحليل السابق أنه يبيّن حالة الاضطراب التي تعاني منها أوروبا ككل، والتناقضات في الدينامية الداخلية المحرّكة لها. ويسوق مثالاً بسيلفيو برلوسكوني رئيس الوزراء الأسبق العجوز الثري. هذا الرجل الذي دُفع دفعاً منذ عدة سنوات من قبل بروكسل (عاصمة «الاتحاد الأوروبي») كي يتنحى ويفسح الطريق واسعاً حفاظاً على التماسك الأوروبي ومنع انهيار الاقتصاد الإيطالي، هو عينه الذي تأمل بروكسل اليوم عودته إلى الساحة السياسية الإيطالية، لمجرد الأمل بأن يكون أقل سوءاً في شطحاته الأصولية من قيادة الـ«5 نجوم».
والمؤكد أنه بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ذاته، كوحدة سياسية واقتصادية، حدثت ضربة موجعة للاتحاد الذي يعاني في الأصل من تفكك داخلي يكاد يقوده إلى التحلل الكامل. ومعروف أن «رابطة الشمال» والـ«5 نجوم» قد شاغلتهما من قبل فكرة الاستفتاء على الخروج من اليورو، قبل أن تتخليا عنها لاحقاً. ولكن الخط السياسي الشعبوي الذي تنتهجه الحركتان يرفض إجراءات التقشف الأوروبية على الدول التي تعاني من ارتفاع الدين، وتطالبان بضرورة مراجعة اتفاقيات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الاتفاق المالي الذي يضع قواعد أكثر صرامة إزاء الموازنة.

الأصولية الإيطالية... وأوروبا
مما لا شك فيه أن نتائج الانتخابات الإيطالية الأخيرة باتت تهدد قولاً وفعلاً المشروع الفرنسي – الألماني لإصلاح الاتحاد الأوروبي، بعدما اكتسب زخماً مع التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية ألمانية. ولكن في كل الأحوال فإن الخطر الأكبر على الصعيد الاقتصادي يتجلى في زيادة روما نفقاتها على حساب الأنظمة الأوروبية، الأمر الذي سيتسبب في خلافات بين روما والمفوضية الأوروبية، ما سينعكس على الساحة السياسية الإيطالية من خلال ظهور الأحزاب الشعبوية والبيانات العنصرية التي تحثّ على الكراهية والتخويف من الآخر المهاجر أولاً، ومن بقية القيم الأوروبية تالياً.
ولعل تصريحات وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي (يسار وسط) الأخيرة، التي جاءت على هامش اجتماع مجلس شؤون الدفاع في بروكسل بعد نتائج الانتخابات بيومين، تعبّر تماماً عن حال أوروبا، إذ قالت بينوتي إن «الأسئلة من جانب نظرائي الأوروبيين حول الوضع في إيطالياً (تجاوزت بكثير) مظاهر القلق لديهم».
والحقيقة، أن ما يخيف في مشهد إيطاليا الأصولي القومي الشعبوي هو أنه لا يعير أهمية لبقية أصوات الأوروبيين. وهذا هو الملمح الأول للأصوليين والمتطرفين، وكان قد ظهر ذلك بقوة في تصريحات سالفيني، أمين عام «رابطة الشمال»، الذي قال خلال مؤتمر صحافي أخيراً: «إذا توليت مقاليد الحكم لن أحكم لستة أشهر بل لخمس سنوات». وأضاف متحدياً: «... إذا كان هناك شخص ما في بروكسل وبرلين وروما يفكر في اختراع حكومة تثني أولئك الذين فازوا في الانتخابات العامة الإيطالية، ولتنفيذ السياسات الجنوبية والانتحارية للاتحاد الأوروبي، فهو لم يستوعب شيئاً».
ومن هذه الكلمات نخلص إلى نتيجة مؤداها أن الأصوليين الإيطاليين عانقوا الديماغوجيين هناك. وعليه فإن فكر الوحدة والليبرالية، الذي حلم به الآباء المؤسسون للاتحاد الأوروبي، يترنح وينهار أمام الراديكاليات والقوميات الأوروبية الصاعدة بسرعة كبيرة جداً. ومعلوم أن البريطانيين كانوا قد سددوا ضربة قاصمة للاتحاد من خلال «بريكست»، وجنوح بولندا والمجر للتطرف المعادي لليبرالية.

الإنسانية تجابه الأصولية
في المسألة الإيطالية، كما يرى كثيرون، المهاجرون مجرد ذريعة، أما السبب الحقيقي فمجازفة المواطنين هناك كل يوم بالانجراف نحو الفساد لكي يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع. والمسألة الرئيسة تكمن في حتمية خلق عقلية تقدّر احترام الفرد، بل احترام حقوق الإنسان قبل أي شيء آخر. وهنا يذهب المسؤول الفاتيكاني سيلفانو تومازي إلى أن إيطاليا والإيطاليين «بحاجة إلى تحفيز علاقات أوثق بين المواطنين والدولة من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى، لكي يتمكن الجميع هناك من العيش بأمن وكرامة دون الحاجة إلى إيجاد اختصارات –أصولية– غير مقبولة من الناحية الأخلاقية».
أما البروفسور الإيطالي فلافيو شيابوني، من جامعة بافيا، الذي يعد من أبرز الباحثين في عمق الأصولية الشعبوية الحديثة، فيُرجع المد الشعبوي الإيطالي زمنياً إلى أوائل تسعينات القرن المنصرم حين انهارت الآيديولوجيات السياسية، وودع العالم حقبة «الحرب الباردة». ووفق شيابوني، فإن هذا التغيّر «جعل إيطاليا بقعة مواتية للشعبوية، وبخاصة، بعد عجز الديمقراطية الإيطالية عن تقديم البديل الجيد لمواطنيها. وبرلوسكوني مثال على هذا الإخفاق الجسيم... ذلك أنه منذ تبوَّأ سلطة البلاد عام 1994 تشكلت 13 حكومة، من بين 64 حكومة منذ 1946، نصفها حكومات أقلية، ولم يكن يومها حديث المهاجرين قد طفا على سطح الأحداث».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.