علي حرب: لست من أصحاب المشاريع

قاد حربا شرسة ضد التطابق والواحدية وخطاب الحقيقة

علي حرب
علي حرب
TT

علي حرب: لست من أصحاب المشاريع

علي حرب
علي حرب

بينما بيروت تحتدم بصراعاتها، وتنخرط بتناقضاتها، والحرب الأهلية على أشدّها، يثمر القلق الكبير الذي عاشه الكاتب اللبناني علي حرب - عبر مسيرته الفلسفية الممتدة لأكثر من أربعين سنة - عشرين كتابًا بدأها بالقراءات والمداخلات، وصولًا إلى التفسير والتأويل، لتبلغ الذروة من خلال ثلاثيته «نقد الحقيقة» و«نقد النص» و«الممنوع والممتنع»، وهي الكتب التي أنتجها في التسعينات من القرن الماضي، ليدخل بعد ذلك إلى مرحلة التفكيك والتجاوز منشغلًا بنقد الإنسان، عبر مساءلة الشعارات، ونقد تشومسكي، وحديثه عن «النهايات» منخرطًا بجدل الإرهاب والعولمة، فضلًا عن إعلانه «نهاية المثقف الشمولي» ونقده لفوكوياما وهنتنغتون، وانسجامه مع نصوص فوكو (التي قرأ بعضها في ذروة الحرب الأهلية) ومن ثم ليقوم بقراءة عميقة لجيل دلوز وفليكس غيتاري وذلك بكتابه: «الماهية والعلاقة - نحو منطق تحويلي».
تشكّل الكتابة عن نتاج علي حرب الفلسفي تحديًا؛ ذلك أنه نتاج متفجّر دائمًا، ويصعب القبض على بدايته أو نهايته، فهو إرثٌ ممتد يتطبّع بلحظته وزمنه، عدّته المفهومية ترتكز على قراءة المفاهيم، وفحص النصوص، ومخاتلة خطاب الحقيقة. انتقل جهده من البحث عن الحقيقة إلى نقد خطابها، ومن فهم النص إلى نقد النص، ومن كمال العقل إلى البحث في اللامعقول بالخطاب العقلي. أولى اهتمامًا واضحًا بالتصوّف وخطاب الحب وسجف الفناء.
استطاع أن يبدأ مرحلة أخرى من التناول الفلسفي، متجاوزًا التحذيرات المحافظة التي تعتبر الصراعات الفكرية الأوروبية والتجدد الفلسفي في فرنسا منذ الستينات «مجرد مواد استهلاكية»، كما يقول طه عبد الرحمن، ومُهْملًا جهود سدنة التراث الذين يعتبرون نقد التراث فكرة استشراقية لها خبثها وتنطوي على مخططها.
بدأ حرب بنثر عدة مفهومية كبيرة أغنت المجال الفلسفي العربي، ولا غرابة أن تكون كتبه التي لم تكن مترابطة في مجالاتها، أو موحّدة بمضامينها، موضعًا للدراسات الأكاديمية، ذلك أن قيمة ما كتبه علي حرب في شتاته، وفي تبعثره، وفي تشظّيه، وفي تناقضه أحيانًا، إذ التناقض ليس موضوعًا محرجًا، فالنص قد يطردك من الباب، لكنك قد تدخل إليه عبر الشباك. والمساحة لا تكفي للبحث في كل المجالات الجديدة التي اختطّها، فقراءته لجيل دلوز ونقده لكانط وتأثره بهيدغر وفوكو ونيتشه تحتاج إلى كتابٍ كامل، لكن سأوجز بذكر بعض ملامح نتاجه عبر ثلاثة ملامح:
1- قراءة تتجاوز المنطوق: لا يخلو أي كتابٍ لعلي حرب من التجديد بوسائل «القراءة»؛ ذلك أن هذا المفهوم لا يتداخل فقط بالنص المكتوب، وإنما حتى في الجملة الرياضية، أو اللوحة الفنية، أو عرض الأزياء. والقراءة لا تفهم ما هو مكتوب، بل تتجاوز المنطوق والمكتوب من قبل الكاتب، وبالنسبة له فإن هذه الآلية قرأ بها فوكو ميشيل ديكارت عبر كشفه للعقل الآخر للنص الديكارتي مبينًا كيف أن خطاب العقل يخفي علاقة العقل باللاعقل، أي يتستّر على لا معقوليته. يضيف: «حتى التوسير الذي ادعى بقراءته لنص رأس المال تخليص فكر ماركس من الشوائب الآيديولوجية التي شابته، إنما تأول ماركس وقرأه قراءة جديدة مبتكرة، فاختلف بذلك عنه وقدّم نسخة جديدة عن الماركسية».
مفهوم القراءة هذا هو الذي تناول به حرب نصوص مجايليه مثل نصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم، ومحمد الجابري، وحسن حنفي. وحتى الشعراء مثل صلاح ستيته ومحمود درويش وسواهم.
2- نقد ديكتاتورية العقل: الأستاذ حرب وإن كان كانطيًّا في النقد بما يعنيه النقد من معرفة الممكن واستكشافه واستثماره فإنه ينفي كانطيته بمجال نقده لخطاب العقل، ذلك أن هذا الخطاب منذ ديكارت حتى كانط يحجب علاقته المزدوجة بلا معقوله من جهة، وبذاته من جهة أخرى، إنه بحسب حرب يحجب النصفين والشرطين، أي الفؤاد واللسان. وعن استراتيجية النقد الذي يتخذه يكتب: «الحقيقة والسفسطة، بهذه الطريقة أقرأ بدوري ما أقرأه من النصوص. إنني أتجاوز ما يريد المؤلف قوله، أو طرحه للكشف عما لا يقوله ولا يفكر فيه عندما ينطق ويفكر. هكذا قرأت ابن عربي مستكشفًا بذلك منطقه ولامعقوله، في حين أني انتقدت محمد عابد الجابري على نقده للصوفية بتبيان لاعقلانيته المتوارية وراء نقده العقلاني».
بهذه الصيغة يدخل على الخطاب الصوفي، بوصفه مكتنزًا بالدلالات والإشارات والعلامة، والأهم من ذلك «الإمكانات» التي يوفّرها. النص الصوفي غني بالإشارة والعلامة والوميض والرؤية، وربما تجاوز غنى الخطاب المغلق والمشروع المنجز، والحقيقة المطلقة.
3- كل تأويل هو إعادة تأوّل: هذه هي رؤيته للتأويل كما يفصّل في كتبه ومنها: «التأويل والحقيقة» و«لعبة المعنى» و«الممنوع والممتنع»؛ ذلك أن التأويل لديه يعني أن الحقيقة لم تقل مرة واحدة، وكل تأويل هو إعادة تأوّل. كما أن التأويل، بحسبه، هو فنّ الفهم كما يذهب إلى ذلك أرباب التأويل من المعاصرين، بالأخص هانز جورج غادامير. التأويل هو إعادة تعريف الأشياء، ومن ضمنها إعادة تعريف الفكر والعقل والحقيقة. استفاد حرب من مناهج التفكيك لدى دريدا، وأركيولوجيا فوكو وكلماته وأشيائه، وتعامل مع الفلسفة على طريقة جيل دلوز بوصفها نثار المفاهيم التي يعقد معها الفيلسوف الصداقات والمساءلات، وربما ساهم بنحتها أو خلقها، لتكون لعبة بين يديه، أو نموذجًا على أوراقه، أو صورة في خياله، أو عدة في درسه.
يستحق علي حرب أن يدرس كثيرًا، فهو أشعل الكثير من المعارك والسجالات، وامتنّ أرباب المشاريع له بنقده وفحصه وإحراجه، ومع كل ما يطرحه، غير أن أسلوب تأليفه ليس على طريقة نقاد التراث وأهل الرسالات، والمبشرين بالحقائق، ولطالما ردد كلمته المفضّلة: «لستُ من أصحاب المشاريع».



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.