صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

ابن عائلة سياسية... ونقطة تقاطع علاقات وثيقة داخل النظام الإيراني

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد
TT

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

صادق لاريجاني... رئيس القضاء الطامح لخلافة المرشد

يعد صادق لاريجاني، رئيس القضاء الإيراني، أبرز المسؤولين المنصّبين من المرشد علي خامنئي، وفضلاً عن كونه أبرز المرشحين لخلافته، فإنه قد يكون أبرز المؤثرين في تعيين المرشد الثالث.
انطلاقاً من ذلك فإن صادق لاريجاني يعد أحد أكثر المسؤولين إثارة للجدل في إيران، ليس لدوره السياسي فحسب، بل أيضاً لثرائه الفاحش ورغبته الشديدة في الاحتفاظ بالسلطة وقوة قبضته في كتم أصوات المعارضين، بالإضافة إلى طبعه الحاد وعلاقاته الواسعة مع النخبة الأرستقراطية. وإلى جانب كل ما سبق، يمثل لاريجاني الجيل الثاني من المسؤولين الإيرانيين الذين صعدوا بعد الجيل الأول من قادة النظام. وهنا، يعد «الإخوة لاريجاني» أبرز النماذج لسطوة الأسرة المتنفذة في هيكل نظام كانت أبرز شعاراته تكريس المؤسسات في صلب الدولة وتمكين الدستور. لكن النموذج يُظهر كيف تعمل المؤسسات تحت تأثير أسر بعينها دون الانفتاح على الشعب، وهنا يمكن للقارئ تتبع منطق تداول السلطة في إيران.

«أداء كبار المسؤولين القضائيين والمظالم في هذا الجهاز من الأسباب الرئيسة للاستياء العام. إن التغيير الفوري لرئيس السلطة القضائية وتعيين شخص آخر وفق معايير مقررة دستورياً يمكن أن يهدّئ من خواطر الشعب».
كان هذا جزءاً من رسالة من الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إلى المرشد الإيراني قبل أسابیع قليلة، وهي رسالة اعتبرها البعض حدثاً تاريخياً. ورغم تراكم المطالب التي جاءت في الرسالة فإن «البطل الحقيقي» للقصة ما كان غير رئيس الجهاز القضائي الإيراني، الشيخ صادق لاريجاني.
صادق هو الابن الوحيد بين أبناء الشيخ هاشم آملي لاريجاني الذي سار على خطى أبيه وارتدى ملابس رجال الدين. وعلى هذا الأساس، بخلاف إخوته الذين يُعرفون باسم «لاريجاني»، اختار لقب «آملي» لنفسه، نسبةً إلى مدينة آمل في محافظة مازنداران بشمال إيران. وهو مع أنه لم يعش فيها، اعتمد بذلك طريقةً تذكِّر بسلوك رجال الدين الإيرانيين في الانتساب إلى المدن التي ينحدرون منها.

النشأة والبداية
وُلد صادق في النجف، مثل أغلب إخوته. وفي سن الخامسة اصطحبه والده المرجع الشيعي إلى حوزة قُم العلمية. وهناك بدأ تلقي الدروس الدينية بموازاة الدروس المدرسية.
لم يُعرف لاريجاني قبل منتصف التسعينات. بل بدأ تداول اسمه عندما كتب رداً على المفكّر الحداثي والليبرالي الإيراني عبد الكريم سروش. حينذاك كان أحد الطلاب الأكثر تطرفاً عند مصباح يزدي الذي يُعرف –بدوره- بالتطرف بين رجال الحوزات في قُم. أما قبل ذلك فلم يكن له أي أثر. وبالتالي، فغيابه عن النشاط الثوري إبان حقبة الخميني يشكل مادة للانتقادات الواردة له من منتقديه. وحقاً، ليس له أي سجل في أثناء أيام الثورة ولم يُلحظ وجوده في الحرب العراقية – الإيرانية. ولاريجاني يقرّ بذلك لكنه يبرّره قائلاً: «كنت أرجح الدراسة وتلقي العلوم».
دخل لاريجاني في سن الثامنة والثلاثين إلى «مجلس خبراء القيادة» بعدما ألّف كتباً في الرد على نظريات سروش حول قبض الشريعة وبسطها (في منتصف التسعينات) واختاره المرشد علي خامنئي بعد 3 سنوات كأحد فقهاء «مجلس صيانة الدستور». ومن ثم، أثار تعيينه كأحد فقهاء هذا المجلس انتقادات من الحوزات العلمية. ذلك أنه وفق المنتقدين ليس متخصصاً في الفقه، بل جاءت دراسته في مجال الكلام والدراسات الإسلامية.
هذا أيضاً ما استند إليه معارضوه عندما وقع اختيار خامنئي عليه ليكون رئيساً للقضاء خلفاً لمحمود هاشمي شاهرودي. فوفقاً للدستور الإيراني يجب أن يكون رئيس السلطة القضائية الإيرانية شخصاً بلغ في الفقه درجة الاجتهاد. وعلى هذا الأساس، طالب أحمدي نجاد في رسالته المفتوحة إلى خامنئي أن يختار شخصاً بدلاً من آملي لاريجاني «تنطبق عليه المواصفات التي ينص عليها الدستور الإيراني». وبدوره أشار الزعيم الإصلاحي مهدي كروبي في رسالته الشهيرة إلى خامنئي الشهر الماضي إلى هذه القضية ليتبين أنها نقطة توافق بين المنتقدين. لكن على ما يبدو أن هناك أهدافاً أخرى عند خامنئي، إلى جانب تبعية صادق، لتعيينه في منصب رئيس القضاء.

شبكة العلاقات الثمينة
إنها أهداف يميل بعض المحللين إلى أن أهمها، ربما، حاجة خامنئي إلى دعم «شبكة» داعمي الرجل بين مراجع تقليد الشيعة والجماعات والقاعدة الشعبية التابعة لهم. إذ تجدر الإشارة إلى أن صادق -أو آملي لاريجاني- صهر المرجع حسين وحيد خراساني، وهو مرجع كان قد وجّه انتقادات لاذعة إلى خامنئي قبل تعيين صهره في منصب رئيس القضاء. إضافة إلى ذلك، تتمتع أسرة لاريجاني بشبكة علاقات عائلية واسعة مع أسر المراجع. فأخوه علي لاريجاني صهر مرتضى مطهري أحد أعضاء لجنة الثورة، وأخوه باقر لاريجاني صهر حسن زاده آملي، أحد مراجع قُم القدامى، وجوادي آملي أحد مراجع قُم متزوج من عمّة «الإخوة لاريجاني». كذلك، فإن الأخت الوحيدة لصادق لاريجاني زوجة مرجع شيعي هو محقق داماد. ومن يعرف تعقيدات نفوذ المراجع في إيران (السلطة والشعب) يعرف تماماً أن هذه الأسماء ليست سهلة. إنها شبكة من أفراد متنفذين في الحوزات العلمية الشيعية في إيران يحتاج خامنئي إلى دعمها. وهذه العلاقات الأسرية الواسعة نفسها بالضبط تفتح آفاقاً أخرى أمام صادق لاريجاني وتعزّز طموحه، وهو الذي يشغله هاجس خلافة خامنئي في منصب الولي الفقيه.
إلى جانب العلاقات العائلية الواسعة مع شخصيات متنفذة في الحوزة العلمية، يتمتع صادق بنفوذ واسع في مؤسسة خامنئي، كما أنه يعمل على بناء علاقات حسنة مع الحرس الثوري بواسطة الامتيازات التي يقدمها لأهم قادة الحرس الثوري، وكذلك عبر علاقات أخيه علي لاريجاني، رئيس البرلمان الحالي، وأحد أبرز الأعضاء القدماء في المكتب السياسي للحرس الثوري. كل ذلك يجعل صادق لاريجاني مرشحاً أساسياً لمنصب المرشد الثالث بعد خامنئي.
أضف إلى ما تقدم، أن الرجل يملك نفوذاً واسعاً الآن في «مجلس خبراء القيادة»، وهو المجلس الذي من مهامه الأساسية، وفق الدستور، اختيار المرشد. ويعتقد البعض أن لاريجاني حاول أن يكون رئيساً للمجلس لكن أغلب الأعضاء يعارضون ذلك؛ بل حتى أولئك الذين يُعدُّون من أنصاره كانوا يعتقدون أنه مع وجود أحمد جنّتي فإن حلة رئاسة «مجلس خبراء القيادة» فضفاضة على قامة صادق لاريجاني. مع هذا، لم يهتم الأخير كثيراً لذلك، بدليل أنه لم يترشّح للحفاظ على كرسي نائب رئيس المجلس في آخر انتخابات شهدها المجلس في الأسبوع قبل الماضي. وهو يدرك أن جنّتي يبلغ من العمر 92 سنة. وبالتالي، فهو متقدم جداً في السن ليكون خليفة المرشد. هذا إلى جانب العلاقات الوثيقة يين جنّتي ولاريجاني. وتفيد التقارير حالياً بأن نفوذ لاريجاني الملحوظ في «مجلس خبراء القيادة» يعزز موقعه كأحد المرشحين لمنصب المرشد الثالث. أما أهم ما يمكن أن يعترض طريقه فهي قساوته وتعطشه للاستبداد، وسوى ذلك من المآخذ التي يعددها خصومه.

تعامله عدواني وحاد
هؤلاء يقولون إن صادق لاريجاني عدواني وحادّ الطباع. ووفق مصطلح المتدينين، ليس له سعة الصدر ويُعرف بحقده بين الخاصة والعامة. ويعتقد محللون أن هذا الحقد من أسباب تنامي قوة ونطاق عمل جهاز استخبارات السلطة القضائية ليتحوّل من جهاز داخلي في السلطة القضائية إلى جهاز يقوم بأعمال استخباراتية موازية لوزارة الاستخبارات وجهاز استخبارات الحرس الثوري. ولعل اعتقال المنتقدين وممارسة الضغط والتعذيب بحقهم والبحث عن نقاط ضعف المنافسين والمنتقدين من بين أعمال جهاز استخبارات السلطة القضائية في زمن صادق آملي لاريجاني. وبالإضافة إلى ذلك، يرميه خصومه بالتطرف ونزعة الغضب وسرعة الانفعال. ويزعمون أنه لا يؤمن بالتنافس ويرى أن كل من يعارضه عدو. وهو يتهم راهناً أحمدي نجاد بالخيانة العظمى والشق عن مسار الثورة. وهذه حدة خُلقٍ أزعجت خامنئي مراراً. وفي سياق النزاع مع أحمدي نجاد، سعى مراراً إلى اعتقال الرئيس السابق، لكن محاولاته اصطدمت بمعارضة من المرشد الإيراني. مع هذا اقترب قليلاً من مبتغاه في عزل أحمدي نجاد خلال الأسبوع الماضي، باعتقال مساعديه اسفنديار رحيم مشايي وحميد بقايي.
تمكن ملاحظة هذا التطرف بوضوح في مرآة الأرقام. فعلى مدى السنوات السبع الأولى من رئاسته في القضاء جرى إعدام أكثر من 4300. إذ أعدم خلال الدورة الخمسية الأولى من رئاسته 2600 متهم، بينما صودق في العامين الأولين من فترة رئاسته الثانية على إعدام 1700.

انتهاك حقوق الإنسان
في نهاية مارس (آذار) 2012، أدرج الاتحاد الأوروبي اسم صادق لاريجاني ضمن قائمة تضم 17 مسؤولاً إيرانياً رفيعاً بتهمة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان. وقال الاتحاد إن فرض العقوبات ضد لاريجاني ومنعه من دخول الأراضي الأوروبية، جاء رداً على توقيعه أحكاماً بالإعدام والرجم وبتر الأعضاء والجلد ورشّ الحمض (الأسيد) في أعين المتهمين، إضافة إلى قمع احتجاجات «الحركة الخضراء» الإصلاحية بين عامي 2009 و2010. وفي منتصف يناير (كانون الثاني) 2018، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على 14 شخصية وكياناً إيرانياً لانتهاكها حقوق الإنسان، خصوصاً قمع المحتجين في أكثر من 80 مدينة إيرانية، وكان لاريجاني أبرز المسؤولين الإيرانيين.
صادق لاريجاني يقف اليوم على مشارف المستقبل؛ تماماً مثل النظام الإيراني برمّته. إنه ينتظر وفاة المرشد ليرى إن كانت مقامرته ستثمر أم ستفشل. رئاسته جهاز القضاء تعطيه مكانة سامية بين المتنافسين على خلافة خامنئي وبين التيار المحافظ، لكنه إذا فقد المنصب سيبتعد عدة خطوات عن السباق على خلافة المرشد، علماً بأن فترة رئاسته الثانية للقضاء ستنتهي في أغسطس (آب) 2019.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.