العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

أعاد إلى الأذهان قصة شبكة من المواقع السرية وفرت الحماية لهم خلال رحلتهم إلى الشمال الأميركي قبل أكثر من 150 سنة

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
TT

العثور على مأوى العبيد الهاربين في ولاية فيلادلفيا

منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)
منزل وليام ولتيتيا ستيل الذي كان مقرا لشبكة سرية لتهريب العبيد في ولاية فيلادلفيا (واشنطن بوست)

«هناك 3 عبيد هاربون هنا ويريدون الحرية» كانت الرسالة التي وصلت إلى ويليام ستيل، تدعوه إلى زيارة أحد فنادق فيلادلفيا في أقرب فرصة ممكنة. ولم تكن الرسالة مؤرخة، والتوقيع غير مقروء، غير أن ستيل أدرك الأمر.
كان العام هو 1855، وفيه صار ستيل، نجل العبيد المحررين، أحد أبرز مؤيدي إلغاء الرق والعبودية وزعيم «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهي شبكة من المواقع السرية كانت توفر الملجأ الآمن للعبيد على طريق رحلتهم نحو الشمال الأميركي. وكان العبيد الموجودون في فندق «بلودغود» هم جين جونسون وولداها. وكانوا هناك مع سيدهم، الذي اصطحبهم في رحلة إلى نيويورك مروراً بفيلادلفيا. وفي لحظة غفل فيها سيدهم همست جين في أذن النادل الأسمر بأنها من العبيد، وأنها تسعى لنيل حريتها.
وكان ستيل في طريقه لمنحها حريتها المنشودة.
وصل ستيل برفقة صديق له من أنصار إلغاء الرق، وكان رجلاً أبيض يُدعى باسمور ويليامسون، في الوقت المناسب، لرؤية جين وطفليها وهم يغادرون الفندق ثم يصعدون على متن إحدى السفن البخارية المتجهة إلى مدينة نيويورك من على أحد الأرصفة القريبة. وركض ستيل ورفيقه ويليامسون عبر رصيف الميناء، وقالا لجين في حضرة سيدها إنها في هذه الحالة تعد امرأة حرة، وإنها حتى تتمكن من كسر قيود العبودية كل ما عليها فعله أن تأتي معهما.
«تذكري جيداً»، كما قال لها مناصرا إلغاء الرق، على نحو ما سرده ستيل في كتابه الذي نشره بنفسه، «إن ضاعت منكِ هذه الفرصة فربما قد لا تواتيكِ فرصة أخرى مثلها أبداً».
وانتهزت جين الفرصة. وفي الوقت الذي كان ويليامسون يجادل مع مالك العبيد، سارع ستيل بإخراج جين وطفليها من السفينة إلى إحدى العربات التي كانت في انتظارهم، وهي التصرفات التي سوف تسفر لاحقاً عن إلقاء القبض على ستيل وتصنع منه بطلاً معروفاً على الصعيد الوطني ويظهر اسمه في الصحف في أرجاء البلاد كافة.
وكما صنع من قبل مع المئات من العبيد الساعين لنيل حريتهم فقد وفّر لجين وطفليها ملاذاً آمناً في منزله، وهو المكان الذي، كما وصفه مؤلف سيرته الذاتية في ما بعد، «أصبح معروفاً كمحطة آمنة ومريحة على طريق فرار العبيد نحو الشمال»، «ذي أندرغراوند ريلرود».
والآن، وبعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تلك الأحداث، يعتقد خبراء الحفاظ على التراث في فيلادلفيا أنهم قد عثروا أخيراً على المكان الحقيقي لذلك المنزل القديم.
وخلال الشهر الحالي، صوّتت لجنة ولاية فيلادلفيا التاريخية بالإجماع على تسجيل ذلك المنزل، الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، الذي عاش فيه ستيل، واستضاف فيه المئات من العبيد بين عامي 1850 و1855، كموقع يُدرج على سجل فيلادلفيا للأماكن التاريخية، وحمايته من الهدم أو التغيير الكبير في معالمه. ويعد هو العلامة الثانية في فيلادلفيا لأعمال ستيل مع شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». ويقول المحافظون على التراث إن قرار الحماية من الأهمية بمكان في المدينة التي تعد العلامات التاريخية الأفريقية - الأميركية فيها لا تتجاوز شواهد القبور التي تُركت في المواقع التي لم تعد المباني الأصلية فيها موجودة حتى الآن.
يقول جيم دوفين، أحد المحافظين على التراث، لصحيفة «واشنطن بوست»: «إنه اكتشاف هائل من وجهة نظري. ومن أصعب المشكلات في محاولة استعادة قصة «ذي أندرغراوند ريلرود» هو العثور على الوثائق التي تفيد بوجود مواقع إخفاء العبيد. وهذه من الفرص النادرة بشكل لا يصدَّق، حيث نعرف تماماً أن الموقع له صلة تربطه بشبكة (ذي أندرغراوند ريلرود) نظراً إلى ارتباطه بستيل».
كان إعلاناً عن الحياكة في خمسينات القرن التاسع عشر هو الذي قاد جيم دوفين إلى موقع منزل ستيل.
وكانت المشكلة في سجلات الممتلكات في منتصف القرن التاسع عشر هي أنهم حددوا فيها الشارع الذي كان يعيش فيه ستيل، لكنهم لم يحددوا رقماً معيناً للمنزل الذي عاش فيه.
وقال دوفين، بعد مراجعته المضنية لسجلات وخرائط المدينة خلال القرن التاسع عشر: «كنت قاب قوسين أو أدنى من التخلي عن الأمر برمّته. ثم لاحظت إعلاناً بإحدى الجرائد من طرف زوجة ستيل».
وكانت ليتيا، زوجة ويليام ستيل، تعمل في حياكة الملابس. وفي إعلان نُشر عام 1851 عن الملابس التي تُصنع على أفضل طريقة من قبل ليتيا ستيل، وصفت بالتحديد أين يمكن للعملاء الوصول إليها في شارع «رونالدسون»، وبالتالي تمكّن جيم دوفين في نهاية المطاف من العثور على المنزل المنشود.
وعلى الرغم من إعادة تصميم المنزل على مر السنين، يقول لوني جي. بانش، مدير متحف «سميثسونيان» الوطني للتاريخ والثقافة الأفريقية - الأميركية: «إن الحس القوي بالارتباط بالماضي الذي ينشأ من موقع تاريخي محدد مثل هذا الموقع يحمل قدراً كبيراً من الأهمية والتقدير».
واليوم، يرتفع المنزل إلى 3 طوابق بواجهة من الطوب ذي اللون البني الفاتح مع الطوب الباهت القديم على الجدران الجانبية من دون نوافذ، وهو المنزل الأول في صف يضم 3 منازل أخرى على طول شارع ضيق. وهناك متجر للأغذية، ومقهى شهير، ومعرضان للأعمال الفنية تنتشر في المنطقة المحيطة التي عاش فيها ستيل ذات يوم، وهو الحي الذي وصفه في 1850 بأنه من الأحياء التي تضم الأميركيين الأفارقة بالدرجة الأولى، باستثناء متاجر الأثاث ومحلات الأجهزة المنزلية ومتاجر الحلوى التي ظهرت في الأعوام الأخيرة. والمرة الأخيرة التي تم فيها ترميم منزل ستيل -الذي يقع في شارع «رونالدسون» الذي يحمل الآن اسم شارع «ساوث دلهي»– كانت في عام 1920، وفقاً للسجلات المدنية، عندما حل الطوب ذي اللون البني محل الطوب القديم ذي اللون الأحمر.
لكن الدرجات الرخامية الأمامية في المنزل، كما يقول أوسكار بيسيرت، أحد المحافظين على التراث الذي كان أول من نظّم فريق العمل لتعقب موقع منزل ستيل، يبدو أنها الدرجات الأصلية للمنزل القديم.
وقال بيسيرت لصحيفة «واشنطن بوست»: «عندما ينظر الناس إلى هذه الدرجات الرخامية، فإنهم يرون الدرجات التي كان يقف عليها العبيد الهاربون عندما كانوا ينقرون على الباب محاولين الدخول».
وفي عام 1872، نشر ستيل المئات من قصص أولئك الهاربين في كتاب من تأليفه حمل عنوان «ذي أندرغراوند ريلرود»، وهو من بين أكثر الروايات الشخصية الأصلية الشاملة لشبكة «ذي أندرغراوند ريلرود» وأعمالها الحقيقية في مساعدة العبيد.
ويحتوي الكتاب، الذي يقع في أكثر من 840 صفحة، على قصة جين جونسون وكيف، حال محاولة ستيل وويليامسون تهريبها من على متن السفينة البخارية، جاءت جين للشهادة أمام المحكمة -التصرف الذي كان من النوادر في ذلك الوقت- بأنها كانت راغبة تماماً في الفرار بطفليها والسعي لنيل حريتها، الأمر الذي سمح في خاتمة المطاف ببراءة ستيل. ويضم الكتاب قصص العبيد الذين فروا من أسيادهم عن طريق تعبئة أنفسهم في صناديق خشبية صغيرة، ثم شحنهم على متن السفن البخارية على طول ساحل فيلادلفيا. وكتب ستيل أيضاً قصص العبيد الذين اختبأوا في أحد الكهوف لعدة أشهر بعد فرارهم من السجن وتعرضهم لإطلاق النار عليهم من جانب صائدي العبيد الفارّين في أثناء ركضهم عبر مجاهل الغابات، وكذلك قصة ذلك العبد الذي وصل إلى ستيل بناءً على التماس خاصّ من هارييت توبمان بعد دخوله السجن 10 سنوات كاملة بتهمة حيازة نسخة من رواية «كوخ العم توم» المناهضة للعبودية والرق في الولايات المتحدة. كما أنه كتب قصة ذلك العبد الذي، كما اكتشف ستيل لاحقاً، أنه هو شقيقه المفقود منذ زمن طويل!
وعلى الرغم من أن ستيل قد نشأ نشأة حرة في إحدى مزارع نيوجيرسي باعتباره الأصغر بين 18 طفلاً، كان لديه شقيقان لم يعرف عنهما أي شيء إلا من خلال القصص. ورغم أن والده قد سعى لسنوات طويلة لدفع ثمن حريته، اضطرت والدة ستيل إلى الفرار، مرتين. وفي المرة الثانية، واجهت أقسى الخيارات في حياتها قاطبة: كان لديها 4 أطفال (ابنتان صغيرتان وابنان كبيران هما بيتر وليفين) ولم تكن تستطيع اصطحابهم كلهم معها في رحلة الهروب.
وكتب جيمس بي. بويد، مؤلف السيرة الذاتية لستيل واصفاً قصة هروب والدته عام 1872: «وجاءت الليلة العصيبة، التي عصفت بالأعصاب الراسخة في تلك اللحظة المهيبة، إذ سارعت إلى سرير القش الذي كان ينام عليه أطفالها الأربعة، وطبعت قبلة الوداع على جبين ولديها من دون أن توقظهما من نومهما. واحتضنت طفلتيها بذراعيها القويتين الصارمتين، وودّعت أمها الوداع الأخير، وألقت بكل حمولها على ربها، وبدأت من جديد رحلة المسير العسير الشاق صوب الحرية».
وقبل أن يبلغ ستيل عامه الثامن عشر، كان قد شرع في مساعدة أحد العبيد الهاربين الذي عُثر عليه في الغابة، واصطحبه عبر الطريق غير الممهدة طيلة 20 ميلاً كاملة ليصل به في نهاية الرحلة إلى الأمان، بعيداً عن عيون وأيادي أسياده.
وبعد مرور 10 سنوات كاملة، وبعد الانتقال إلى فيلادلفيا، كان ستيل قد نال وظيفة موظف في جمعية مكافحة الرق في فيلادلفيا، بغية الإشراف على أعمال وجهود شبكة «ذي أندرغراوند ريلرود». وبعد مرور ما يقرب من عام في وظيفته، يتمكن أخيراً من التقاء شقيقه بيتر للمرة الأولى في حياتهما.
ففي أحد الأيام حالما كان ستيل منشغلاً للغاية في إعداد العدد الأسبوعي من صحيفته المناهضة للعبودية التي كانت بعنوان «فيلادلفيا فريمان»، دخل إليه أحد معارفه وقدم إليه أحد الأشخاص الغرباء الذي قال إنه تمكّن لتوّه من الفرار من العبودية، ويحاول الآن العثور على والديه. وأدلى أمام ستيل باسميهما، وقصّ عليه نفس القصة التي كان ستيل يرويها بنفسه على مسامع الآخرين على مدى الأعوام الأربعين الماضية.
وكتب ستيل عن ذلك في كتابه قائلاً: «أصابني ما يشبه الرعد الشديد في تلك اللحظة، إن جاز التعبير. وكان يلزمني استدعاء كل قواي العصبية والجسدية لاستيعاب الأمر والسيطرة على نفسي في حضرة ذلك الرجل الغريب، وكنت على قناعة تامة لا يشوبها أي شك هذه المرة بأن محدّثي هو أحد أشقائي المفقودين منذ زمن بعيد».
وصف ستيل الأمر في كتابه بقوله «المصادفة العجيبة»، وهو ما أقنعه في خاتمة المطاف بضرورة الاحتفاظ بسجلات بالغة الدقة عن كل عبد هارب ممن وصلوا إلى باب منزله في فيلادلفيا، على أمل أنه ربما في يوم من الأيام قد تساعد تلك السجلات أفراد عائلة أخرى ضلّ بعضهم طريق بعض منذ سنوات بعيدة. وتلاشت مخاطر الاحتفاظ بمثل هذه السجلات في عصر سن قانون الرقيق الهارب، كما اعتقد ستيل، عند المقارنة بأهمية المحافظة على تلك السجلات لأجل التاريخ.
وقال ستيل في كتابه: «في حين أن جيش مناهضي الرق، الصغير في عدده الكبير في جهده، كان يشن المعركة تلو الأخرى على العبودية في سبيل الحرية، وقبل اندلاع التمرد الكبير، لم تكن هناك من جهود توقد نيران الحماس في قلوبهم أكثر من بطولات العبيد الهاربين. ويمكن استشعار نبض قلوب 4 ملايين من العبيد ورغبتهم المتّقدة في نيل حريتهم عبر قراءة سجل (ذي أندرغراوند ريلرود) بأكثر من متابعة أي مصدر آخر لأخبارهم».
فهذه الحقائق لا بد أن تبقى حية في الأذهان وماثلة للعيان على الدوام.
- خدمة: واشنطن بوست
خاص بـ «الشرق الأوسط»



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».