تربية الخيول في مصر تصطدم بقيود التصدير وقصور الرعاية

نفوق بعضها فجأة يثير جدلاً

الحصان {تجويد}
الحصان {تجويد}
TT

تربية الخيول في مصر تصطدم بقيود التصدير وقصور الرعاية

الحصان {تجويد}
الحصان {تجويد}

أثار نفوق الحصان المصري «تجويد» بـ«محطة الزهراء المصرية للخيول» (جنوب القاهرة) قبل أيام، الجدل حول الرعاية الصحية المقدمة للخيول العربية في محطة الزهراء، خصوصاً وأن التقرير الرسمي للإدارة المركزية للهيئة الزراعية المصرية، والإدارة العامة لتربية الخيول العربية بمحطة الزهراء للخيول، كشف أنّ «تجويد» كان يعاني من ورم بالحنجرة، وأشار إلى أن إجراءات جديدة ستُتّخذ لحماية الخيول المصرية الأصيلة من الأمراض التي تهدّد حياتها.
وتداولت وسائل الإعلام المصرية صوراً وفيديو لتجويد في لحظاته الأخيرة، وكيف تأثر صوته بالورم أو الالتهاب الموجود في حنجرته، مشيرة إلى أنه كان واحدا من أجمل 20 حصانا في العالم، وكان يُستخدم كـ«طلوقة»، لتلقيح الفرسات العربيات، للاستفادة من خصائصه المميزة. وينتمي الحصان تجويد المولود عام 2004، إلى سلالة نادرة ونقية، فهو ابن جاد الله بن أديب بن شعراوي بن مرافق بن النظير وأمهتي، وقدرت بعض المواقع ثمنه بـ10 ملايين دولار، لكنّ مربّي الخيول المصريين قالوا إنّ هذا التقدير غير صحيح، على الرّغم من اعترافهم بقيمة تجويد الكبيرة.
ويوضح طارق حمدي، مربي خيول لـ«الشرق الأوسط» أنّ: «تقدير قيمة تجويد بعشرة ملايين دولار كلام (فارغ)، لكنّ وفاته خسارة، وأمر محزن بالتأكيد، وتدل على وجود مشكلة في الرعاية الصحية بمحطة الزهراء»، مشيراً إلى أنّه: «لا يوجد مستشفى في محطة الزهراء، على الرّغم من أنّ أحد الأمراء، كان قد تبرّع منذ مدة لإنشاء مستشفى داخل المحطة، وزودت بأحدث الأجهزة الطبية، لكن للأسف، لا يوجد أطباء متخصصون، كما أن الأجهزة لم تعد تعمل بكفاءة».
من جانبه، يصف يحيى الطحاوي مربي خيول، وفاة تجويد بـ«القصة المشينة»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إنّ «وفاته دليل على وجود قصور كبير في الهيئة البيطرية المشرفة على محطة الزهراء، لدرجة جعلت الأطباء الموجودين فيها عاجزين عن علاج خراج في الرئة، يمكن علاجه بمضادات حيوية».
ووفقا للتقرير الطبي فإنّ مرض تجويد بدأ بظهور أعراض ضيق في التنفس، وهدأت ‏المضادات الحيوية في البداية من حالته، وبعد عمل منظار على القصبة الهوائية تبين «‏وجود التهاب وصديد في الحنجرة، أدّى في النهاية إلى نفوق تجويد، وأرجع التقرير سبب ‏الوفاة إلى الاختناق بسبب انسداد مجرى التنفس الناتج عن ورم داخل القصبة الهوائية».‏
ويضيف الطحاوي أنّ «مشكلة محطة الزهراء، تكمن في عدم وجود أطباء متخصصين، حيث يهجر الأطباء الأكفاء المحطة إلى المزارع الخاصة بحثا عن دخل أفضل، وبالتالي تعاني محطة الزهراء من نقص الرعاية الطبية التي توفرها المزارع الخاصة للخيول في مصر». لكن حمدي يرى أنّ «القائمين على المحطة، بذلوا ما في وسعهم، واستعانوا بطبيب أميركي، ولكن بعد فوات الأوان»، ويوضح: «المشكلة الحقيقية في محطة الزهراء، أنّها تعتمد على موظفين في إداراتها، وهذا غير مناسب في استثمار كبير مثل تربية الخيول».
وتعد محطة الزهراء واحدة من أهم مزارع الخيول في العالم، وهي المكتب الوحيد المسؤول عن تسجيل الخيول العربية في مصر، وتصدر دليل الهيئة الزراعية المصرية للخيول باللغة الإنجليزية، وهي المسؤولة عن الإشراف على جميع مزارع الخيول الخاصة، والحفاظ على سلالاتها العربية الأصيلة.
ويقول الطحاوي: إنّ «مصر دولة أم، ودولة رائدة في تربية الخيول العربية الأصيلة، وإنّ المنظمة الدولية للحصان العربي أُنشئت عام 1968، على السجل المصري، إذ لم يكن هناك سجلات منتظمة للخيول العربية سوى في 5 دول بالعالم، وهي مصر وروسيا وفرنسا وبولندا وإسبانيا». ويضيف أنّ: «تاريخ تربية الخيول العربية في مصر يعود إلى القرن التاسع عشر، حين كانت مصر من أغنى الدول العربية، وقد اشترى المصريون في ذلك الوقت الكثير من الخيول العربية الأصيلة، وساعد الاحتلال الإنجليزي في عمل سجل منتظم لهذه الخيول»، ويشير إلى أن «الحصان المصري، يُعدّ من أغلى وأنقى الخيول، فالسلالة المصرية معروفة عالميا».
وشهدت مصر خلال فترة السبعينات نوعاً من القصور، وضعف الاهتمام بمحطة الزهراء، نتيجة إهمال تطوير المحطة، في الوقت الذي ازدهرت مزارع الخيول الخاصة، بينما زادت المنافسة من جانب دول عربية أخرى في هذا المجال، وعلى الرّغم من ذلك لا تزال «السلالة المصرية من أفضل السلالات وأنقاها عالميا». ويقول حمدي إن «محطة الزهراء واحدة من أهم المحطات في العالم، وتعدّ بحق ثروة قومية»، ويقترح أن «تُنقل إلى مكان آخر بعيد عن الكتلة السكنية، وتُحوّل إلى مزار سياحي، وعمل استراحات للأجانب، وتشكيل لجان متخصصة لتنقية الخيول وبيع ما لا تحتاجه المحطة في مزادات، مع إنشاء مستشفى عالمي لتقديم أفضل رعاية صحية للخيول»، مشيراً إلى أن «المحطة الحكومية في بولندا، تقيم مزادات للخيول، بعشرات الملايين سنويا».
يشار إلى أنّ، مصر تضم عددا كبيرا من مزارع الخيول الخاصة، ووفقا للطحاوي فإنّ «تربيتها تعدّ أحد الاستثمارات المهمة في البلد»، لكنّ في الوقت نفسه يشكو من القيود التي فرضتها الحكومة المصرية مؤخرا على التصدير، ويقول: «تم زيادة الرسوم المفروضة على تصدير الخيول بشكل كبير جداً، بحيث لا يتحمل هذه التكلفة سوى الحصان ذو القيمة الكبيرة». ويضيف: «هذا عائق ضخم على صناعة الخيول في مصر، وجعل المزارع مكدسة بالخيول، وتُباع بعضها محلياً بأسعار رخيصة جداً، في حين أنّ تنشيط التصدير سيحقق عائدات استثمارية كبيرة للبلاد».
واهتمت مصر على مدار تاريخها برياضات الخيول، وكانت السباقات أحد أهم الرياضات التي يُقبل على متابعتها المصريون، وكان لها أماكن خاصة، وانضمت أخيراً مسابقة أخرى لرياضات الخيول المهمة في مصر، وهي مسابقة «الجمال».
ويقول الطحاوي: إنّ «مصر تشهد اهتماماً متزايداً بسباقات الخيول، ومسابقات جمال الخيول العربية، لكنّ الأزمة في ضعف قيمة الجوائز التي لم تتم زيادتها منذ سنوات»، ويشير إلى وجود مسابقات مهمة في المنطقة العربية، بجوائز مالية مرتفعة، مثل مسابقة دبي، ممّا يشكل عائدا سياحيا للبلاد.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)