صراع القوة الدامي بين الشبكات الشعبية والمؤسسات الهرمية

المؤرخ فيرغسون يقدم قراءة مختلفة للتاريخ منذ الرومان إلى إرهابيي «داعش»

نيال فيرغسون
نيال فيرغسون
TT

صراع القوة الدامي بين الشبكات الشعبية والمؤسسات الهرمية

نيال فيرغسون
نيال فيرغسون

يعد الأكاديمي البريطاني نيال فيرغسون نجم المؤرخين المحافظين في العالم الناطق بالإنجليزيّة بلا منازع. صنّفته مجلة التايم الأميركيّة واحداً من المائة شخصيّة الأكثر نفوذاً في عصرنا، وهو تولى التدريس والبحث بأرقى الجامعات على طرفي الأطلسي: كامبردج وأكسفورد وكليّة لندن للاقتصاد وهارفارد وستانفورد، وأصبح بمثابة مرجع يستشار في الشؤون الاستراتيجيّة والتاريخيّة للتيارات المحافظة سواء داخل بريطانيا أو لاحقاً الولايات المتحدة، كما تتسابق المؤسسات الماليّة وتلك المعنية بالثقافة إلى استضافته للتحدث أمام نخب المجتمع. وقد بنى الرجل سمعته على سلسلة من الكتب الدسمة الشاملة التي غطى فيها تاريخ «صعود المال» وتاريخ «الحضارة: الغرب والآخرون» و«الحرب العالميّة: خلافات القرن العشرين وشحوب الغرب» و«الإمبراطوريّة: صعود وسقوط النظام العالمي البريطاني» وغيرها، إضافة إلى سير شاملة لأسماء تركت بصمات على تاريخ الغرب الحديث مثل «هنري كيسنجر» وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق وآل «روثشايلد» العائلة اليهوديّة المتنفذّة و«سيغموند ووربورغ» أحد رواد الصناعة البنكيّة في أوروبا، وهو فيها كلّها يعمد إلى تقديم نظريّة جامعة تفسّر الحدث التاريخي مقدماً نماذج كثيرة متفرقة لتسند تلك النظريّة. وقد حازت معظم كتبه على اهتمام الصحافة الغربيّة - التي يغلب عليها التيار اليميني المحافظ - وكُرّمت بجوائز كثيرة وترجمت إلى اللغات الحيّة وتسلقت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، ذلك على الرغم من الانتقادات الحادة أحيانا من مفكرين يساريين وغالباً أكاديميين جادين يُعيبون عليه إصدار تعميمات نظريّة متسرعّة ومن ثم استنساب الأحداث التاريخيّة والوثائق لتدعيمها.
فيرغسون بعمله الجديد «الميدان والبرج: عن صراعات القوة بين الشبكات والهيكليات» لا يبتعد كثيراً عن هذه الأجواء سواء لناحية احتفاء الأوساط اليمينيّة بما وصفه بعضها بفتح نظري جديد لتفسير التاريخ - بوصفه نتاج صراع متجدد بين الميدان (أو ساحة المدينة) كرمز للشبكات الأفقيّة التي تنشأ بشكل طوعي في صفوف الأفراد، والبرج بوصفه رمزاً للمؤسسات المهيكلة كالدولة أو الكنيسة - أو لناحية الانتقادات المعتادة حول التعميم المتسرع ولي عنق أحداث تاريخيّة منتقاة لتدعيم النظريّة.
ومع ذلك فإن هذا الكتاب الضخم على هناته يقدّم قراءة من وجهة نظر جديرة بالاهتمام وفي سياق سرد تاريخي مشوّق حول تأثير الشبكات تحديداً بسعيها لتحدي الأنظمة القائمة وتغيير مسار التاريخ أحيانا، لا سيّما في عصرنا الراهن حيث أعطت أدوات الاتصال المتقدمة فرصاً غير مسبوقة للأفراد لتشكيل الشبكات حول اهتمامات متنوعة لا نهائية من التيارات الثقافيّة إلى تلك السياسيّة والدينية وحتى الإرهابيّة.
المطلعون على الأبحاث الأكاديميّة الحديثة في مجالات علوم الإنسان والبحوث الاجتماعيّة يعلمون أن موضوع الشبكات تحديداً بات موضع دراسة وبحث وتنقيب منذ بعض الوقت وأن تأثيراتها المستقاة من علم الاجتماع والبيولوجيا والتكنولوجيا معاً أعطت المتخصصين فهماً متقدماً لديناميكيّة تشكيل الشبكات وتفاعلاتها وتأثيراتها المحتملة على النظام الاجتماعي الكلّي، ولذا فإن فيرغسون لا يضيف جديداً هنا - بل يبدو في (الميدان والبرج) كتلميذ يلّخص أدبيّات علوم الشبكات دون التجرؤ على المس بها بالفعل، لكنّه مع ذلك يسبق ربما غيره من المؤرخين إلى محاولة مزاوجة معطيات هذا العلم مع التاريخ كمنطلق لبناء تفسير أفضل للتحولات التاريخيّة.
فيرغسون يقدّم نحواً من ستين حادثة تاريخيّة منفصلة في زمانها ومكانها عن نماذج صراع محتدم بين الميدان والبرج منذ أيام سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة الغربيّة إلى شبكات تجنيد إرهابيي «داعش» رّاهناً، لكن أهمها فيما يرى مرحلتان تاريخيتان نجحت خلالهما الشبكات في قلب أوضاع تاريخيّة على نحو شامل مطيحة بهيمنة (الأبراج). الأولى كانت مرحلة مطبعة غوتنبرغ (نحو عام 1450) والتي تصادف ظهورها على نحو عبقري مع صعود تيار مارتن لوثر المعادي لسلطة الكنيسة الكاثوليكيّة والتي سمحت ببناء شبكة واسعة من المقاومة للنظام القائم مستفيدة من الكتاب المطبوع، الأمر الذي أسفر - مع تآمرات سياسيّة دون شك - عن تحولات فكريّة واجتماعيّة ولغويّة كما حروب شاملة عبثيّة قضت على ثلث سكان أوروبا وانتهت إلى تأسيس نظام عالمي جديد (وفق تفاهمات الفرقاء المنهكين في صلح ويستفاليا عام 8164) ولاحقاً أجواء صعود الصناعة والرأسماليّة بشكلها الحديث. أما الثانية فهي مرحلة صعود الإنترنت والكومبيوترات الشخصيّة بداية من سبعينات القرن العشرين والتي تُعيد تشكيل العالم أمام ناظرينا. فيرغسون يقول إنه لولا (شبكة) الطباعة والنشر التي غطت أطراف أوروبا جميعها بسرعة هائلة، لانتهى مارتن لوثر وأتباعه إلى الانزواء في صفحات التاريخ كمجرد جماعة مهرطقين أخرى خلت من قبلها حركات الهرطقة في تاريخ الكنيسة، كما ينسب انتصار دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة الأخيرة إلى استفادة فريقه الانتخابي المكثّفة من شبكات التواصل الاجتماعي في مواجهة التكتيكات الانتخابيّة لـ(برج) السياسيين التقليديين داخل المؤسسة الحاكمة.
وجهة نظر فيرغسون أن التاريخ الرسمي المتداول أكاديميّاً تهيمن عليه بنحو عام الأحداث المرتبطة بالملوك والقادة العسكريين والبابوات بالنظر إلى أن المؤسسات الهرميّة هذه غالباً ما توثّق نشاطاتها وتترك آثاراً ماديّة وتحتكر أدوات صناعة ورواية التاريخ، بينما تغلب نظريات المؤامرة وشطحات التاريخ البديل على توصيفات الشبكات التي كانت في مواجهة تلك المؤسسات المهيكلة فتنتهي إما إلى الاستثناء من التاريخ الرسمي أو المبالغة بتوصيف تأثيراتها حدَ التحول إلى أسطورة لا يصدقها التيّار الأعم. وكتاب «الميدان والبرج» هو على نحو ما إعادة دمج لهذين التيارين التاريخيين المنفصلين داخل أقنوم واحد، معيداً الاعتبار للشبكات كلاعب أساسي في تقليب المراحل التاريخيّة المتعاقبة. فهو يستدعي مثلاً تنظيمات (شبكيّة) مختلف على واقعيتها التاريخيّة كالمتنورين الألمان والماسونيين الأحرار وغيرها ويعيد تصويرها كجزء من تيارات فكريّة ساهمت بفعاليّة في ولادة النهضة الأوروبيّة والثورة الفرنسيّة ونشوء الولايات المتحدة الأميركية. كما يفسّر تأثير شخصيّات معاصرة كهنري كيسنجر - الذي يبدو فيرغسون شديد الإعجاب به - على أحداث التاريخ المعاصر وذلك من خلال الشبكة الواسعة النفوذ التي أسسها مع متخذي القرارات عبر العالم لا من خلال صلاحيّات منصبه الرسمي في هيكلية المؤسسة الحاكمة بالولايات المتحدة.
استلهم فيرغسون اسم كتابه من مشهد ساحة ديل كومبو في مدينة سيينا الإيطاليّة والتي يسيطر عليها برج توري ديل مانغيا لقصر الحكم من عهد أسرة مديتشي - القرن الرابع عشر - كرموز للمواجهة الدائمة بين الشبكات (الشعبيّة) الأفقيّة الطابع والمؤسسات الهرميّة للسّلطة. وهو يخبرنا مبكّراً بانتمائه فكريّاً لثقافة الميدان أكثر من ثقافة البرج، رغم أنّه في نهاية المشوار التاريخي الطويل الذي يصحبنا عبره يذهب للاستنتاج بأنّ الشبكات كثيراً ما غيّرت وجه المراحل التاريخيّة المتعاقبة بالفعل، إلا أنها دائماً عندما تنجح بإسقاط الأبراج تتسبب في الوقت ذاته بفوضى عارمة ومذابح مؤلمة كما حروب أوروبا الدينيّة، وفظائع الحزب النازي وأعمال العنف المنسوبة لليعاقبة الفرنسيّين والبلاشفة الرّوس.
إذن فيرغسون في (الميدان والبرج) يُسمع جمهوره المحافظ ما يحب سماعه تماماً: فلنحافظ على (الأبراج) القائمة على سوئها لأنها ضمانة بوجه الفوضى التي تشعلها (الميادين). لا أحد كان يتوقع غير ذلك من كبير مؤرخي التيار المحافظ، الذي رغم كل شيء يبقى قادراً على تقديم قراءة مختلفة للتاريخ - إن ليس للمختصين فدون شكّ للجمهور العام الذي يبدو متعطشاً لنظريّات بسيطة تساعده في فهم العالم من حوله دون كبير عناء.



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».