مارك توين كان يحلم بإعلان الجمهورية في بريطانيا

{المركز القومي للترجمة} في القاهرة يصدر رواية له

مارك توين كان يحلم بإعلان الجمهورية في بريطانيا
TT

مارك توين كان يحلم بإعلان الجمهورية في بريطانيا

مارك توين كان يحلم بإعلان الجمهورية في بريطانيا

أول ما يستوقف القارئ العربي في روايات الكاتب الأميركي مارك توين (1835 - 1910) أن الفكاهة الخفيفة أتت من الشطر الأول من حياته، أمَّا تلك المخضَّبة بالمرارة والغضب فتفجرت من شطرها الثاني حين دأب على كتابة كوميديا سوداء مشبَّعة بالحدة والنزق. تراوحت مواضيعها بين مثالب أناس غفر لهم زلاتهم وكوارث قومية سياسية كره وقوعها «تحت أنفه ورغماً عنها» حسب وصفه.
لم ينقطع خيط مواضيع التسفيه الحاد في أعمال صاحب روايتي «مغامرات توم سوير» (1876) وهاكلبيري فين (1884) حتى نهاية حياته. ولعل أبرز انتقاداته كانت نهم الحكومة المالي، وجري رجال الأعمال وراء الرزق بالحيلة والنصب، والقساوسة الكذابين والسياسيين المخادعين، حتى الإمبريالية الغربية في الكونغو والفلبين، وأي موضوع آخر قد يبلغ أذنيه!
وفي روايته «شمالي من كونيتيكت في بلاط الملك آرثر» (1889) الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في عام 2017 والتي ترجمها إلى اللغة العربية عبد الباقي بركات، يأتي دور التكنولوجيا ليطأها الرجل بقدم ثقيلة، مصرحاً فيها بأن مواضيع عديدة أفلتت من حنقه لأنها «ستتطلب مكتبة كاملة وقلماً من الجحيم».
من العسير تصديق هذا السهو بما أنه لم يخلف زلة في مجتمعه الأميركي أو المجتمع الإنجليزي إلا وشرَّحها بموساه الكليلة. وفي روايتنا هذه يود توين الفيلسوف أن يهدم الملكية الإنجليزية على رؤوس الأرستقراطيين ويشن ثورة كاسحة ليعلن قيام الجمهورية الأولى. وقد عيَّن لتلك «المهمة المقدسة» هانك مورجان إبان عهد الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة خلال القرن السادس الميلادي.
كان النقاد قد أساءوا فهم الرواية معتبرين أن توين الهجاء بطبعه بالغ عن شوفينية في تهميش تاريخ الإنجليز وثقافتهم. والواقع أنه استاء من تهلهل الأعراف الاجتماعية وآيات الغبن المتأصلة في مؤسسات إنجلترا وأميركا على حد سواء، ولا سيما المؤسسة العسكرية التي ورِثت مكانتها بمزيج من التحايل والقوة الباطشة. وهذا النوع من الكفر بالسلطة حدا به إلى شجب مماثل للكنيسة الكاثوليكية بسبب توفيرها الإطار الأخلاقي لهذا التفاوت المجتمعي على يد العسكر.
يخوض هانك بطل الرواية رحلة تاريخية يحط فيها من شأن الفرسان «السخفاء»، هؤلاء المختالون في بذل مزينة بميداليات الشرف دون أن يدروا أن ميليشياتهم المسلحة اغتالت شرفهم. ينتقص هانك من الطبقة العليا العسكرية قائلاً: «لا عقل واحداً في هذه الحضانة يمْكن استخدامه في شِّصّ الصنارة». ولا غرابة، فقد هجر توين الجيش خلال الحرب الأهلية الأميركية واصفاً إياها بالمحرقة البشرية.
وبعد أن رسم توين بطلاً عاد بنا إلى مثالية كلاسيكية بدأت مؤمنة بأدوات العصرنة، كشف في نهاية روايته أن التحديث تحصيل حاصل، لا فضل له في رفع الأسى عن الناس: «ولوهلة قصيرة سخر من النبلاء البريطانيين، كما سخر من آمال هانك أن تعزز التكنولوجيا سمات البشر الأخلاقية». ويعود في فصل تال إلى مساءلة القضية ذاتها، فيُبرز سادة إنجلترا الخمسة والأربعين وحولهم خمسة وعشرون ألف رجل يرقدون قتلى تحت أقدامهم. وتوين المرهَف بالزمن يتوقع في هذه المعركة مجازر الحرب العالمية الأولى. ومع أن تكنولوجيا القتال تتيح لهانك مغالبة خصومه، إلا أن سمعتها لا تصمد وآلاف الرجال يتساقطون في دقائق معدودات.
وعلى غرار الاستخفاف ذاته بالروح البشرية، يروع هانك ميلُ الفرسان إلى مبارزة الغرباء بسبب و بدون سبب. يسدد إليهم سهامه الحضارية: «لا حاجة لمثل ذلك المجتمع إلى أدمغة، الحق أنها ستشوهها وتعيقها وتفسد تناسقها - وقد تجعل وجودها مستحيلاً!»، وبقدر ما تهكم على ما اعتقدت به مجتمعات العصور الوسطى من خرافات كحرق الساحرات على الخوازيق أو تنانين الأوروبيين النافخة للنيران، عارض ما قيل إنه تفوق للمجتمعات الميكانيكية والاختراعات الحديثة في عهده. ما مانع مع ذلك من اختراع وسيلة ليرتحل بطله عبر الزمن. عندما ألَّف إتش جي ويلز رواية «آلة الزمن»، ألقى ببطلها في قلب المستقبل دون رجعة. غيره من مؤلفي القرن التاسع عشر مثل توين صالوا وجالوا بين الماضي والمستقبل. وقد أطلق توين العنان لفن الفانتازيا حين جعل هانك يبلغ بلاط الملك آرثر - مسافرا ثلاثة عشر قرناً إلى الماضي - بعد ضربة عَتَلة على جمجمته!
لا ينسجم المرتحل مع عادات الإنجليز المهترئة ولا يتكيف مع ذلك المجتمع الذي حسبه أهله يوتوبيا بينما هو في الحقيقة «أرض معتمة» وفقاً لتعبيره. ولكنه سرعان ما ينفتح على رؤية أخرى ليقدِّم ابتكارات المستقبل لهؤلاء «الهمج»، لا للتعالي عليهم، وإنما لأنه خالها مفتاحاً للبقاء على قيد الحياة. وهكذا يستقرئ هانك تقدم القرن التاسع عشر، معدِّداً بواخر وسفناً حربية وأسطولاً تجارياً يعمل بالبخار، بل إنه كان يهم «بإرسال بعثة لاكتشاف أميركا!».
وحينما يأمر هانك بوضع أحدهم «في مصنع الرجال»، وهو يعني مدارس البلاط، يتكشف لنا أن الرجال في نظره مجرد أدوات يمْكن تجميعها في خط تصنيع، وأن العمال ما هم إلا قطع غيار لا يختلفون عن الفلاحين في عهد آرثر، مما يوحي بنقد مبطن من كوين لفورة عصر التصنيع. وفي النهاية يخفق هانك بطبيعة الحال في تحويل إنكلترا إلى جمهورية. وحتى يسومه مؤلِفه العذاب، يجيء به إلى قرنه التاسع عشر ليسجل مصيره النهائي عقب هتاف حري بتكنولوجيا الهاتف: «أهلاً يا سنترال»!
وفي معرض هذا الصدام الثقافي فوضوي الطابع، تراود هانك الشكوك حول منافع التقدم العلمي ويأبى أن يصدِّق أن التحديث سيضفي أخلاقاً على مجتمع أي قرن حتى وإن استغل معرفته بالتكنولوجيا لخدمة موقفه. الحق أن توين اعتقد أن التقنيات الحديثة وهم، وأن الوعد بأنها ستثمر الخير هراء، فوَسَمَ الرواية بما يتسق مع رؤية المستخف المتشائم الكافر بآليات التحديث، خصلة لم تكن بجديدة على هذا الناقد الاجتماعي المحافظ.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.