الحكاية الغريبة لحياة وموت مالك بنجلول

من الأوسكار إلى الانتحار

مالك بنجلول
مالك بنجلول
TT

الحكاية الغريبة لحياة وموت مالك بنجلول

مالك بنجلول
مالك بنجلول

في الـ14 من الشهر الماضي، وقبل ساعات من بدء مهرجان «كان» الحافل، أقدم مخرج شاب على الانتحار. وقف عند رصيف محطـة سولنا سنترم في مدينة استوكهولم بانتظار وصول القطار كسواه في ساعة مسائية مزدحمة. أول ما وصل القطار السريع رمى نفسه أمامه. المخرج هو مالك بنجلول.
قبل سنة وشهرين تقريبا، كان هذا الشاب في محفل مختلف. لقد وقف على المنصـة سنة 2013 ليتسلم أوسكار أفضل فيلم تسجيلي عنوانه «البحث عن شوغرمان» Searching for Suger Man حول مغنٍّ من مدينة دترويت الأميركية ظهر في الستينات واختفى قبل نهاية ذلك العقد، حتى ظـن أنه مات، لولا أن المخرج اكتشف وجوده في العقد الماضي من هذا القرن، حيـا يرزق في جنوب أفريقيا حيث لا يزال يغني. قرر بنجلول البحث عنه وتحقيق هذا الفيلم حول حياته وتأثيره السابق على المشهد السياسي في بلاده، عندما كانت تلك راضخة لسياسة التمييز العنصري، ثم ما بعد زوال ذلك النظام.
الأغنية الرئيسة التي يتولـى الفيلم تقديمها بعزف وصوت سيكستو رودريغيز تبدأ بالقول: «شوغرمان.. ألا تستعجل؟ لأني متعب من هذا المشهد». إنها أغنية حزينة كما الفيلم. تبدو كلماتها موجـهة إلى ملاك الموت لتعكس لا حالة المغني فقط، بل حال المخرج الذي فاجأ الوسط السينمائي بانتحاره. كتبها سيكستو في الستينات وفي باله تاجر مخدرات (شوغرمان) لكن بنجلول كان مدمنا فقط على الحياة.. هذا إلى أن قرر بأن يتركها وراءه ولأسباب تبقى غامضة.

* دوافع

* ما أصاب مالك بنجلول، تؤكد التحقيقات، هو شعور بالكآبة تسلل إلى نفسه وعايشه لفترة أشهر قبل أن يزداد وطأة ويقوده في ذلك اليوم إلى فعلته. عالم النفس الدكتور الأميركي أليكس ليكرمان يكتب في مجلة «سايكولوجي توداي» حول الكآبة واضعا إياه في المرتبة الأولى بين ستة أسباب تدعو البعض للانتحار. يقول: «الألم الناتج عن الحياة يصبح فعلا لا يطاق بالنسبة للمنتحين. تتسلل الكآبة إلى التفكير فإذا به ينقاد إلى البال ويشل التفكير»، ويضيف: «اليأس هو ببساطة طبيعة مرضية. ومن يعانون من اليأس عادة ما يعانونه بصمت. يخططون للانتحار من دون معرفة أحد».
وهذا ما حدث مع محيط بنجلول من الأقارب والأصدقاء. لقد لاحظوا أن الرجل بات منطويا وكئيبا ولو أن أحدهم لم يتوقع له أن ينتحر تبعا لذلك. عندما انتشر الخبر بعد ساعات قليلة، حل الوجوم مكان المفاجأة وفي اليوم التالي انطلقت التساؤلات حول لماذا يقرر سينمائي في مطلع عهده بالنجاح، وعلى رأس سلـم الشهرة الذي صعده بلا مقدمات تذكر، على الانتحار؟ ما السبب في أن الكآبة، عوض البهجة، والإحباط عوض النشاط واليأس بدل السعي حط عليه وغيـر من منهجه حياته وأذاب الآمال التي لا بد ارتسمت له عندما نطق المقدم باسمه دون سواه، فانتفض من مكانه وسار إلى المنصـة وعلى وجهه ابتسامة طفولية كبيرة؟
الصحافي سكوت جونسون حاول معرفة الجواب على ذلك. غاص، في مقال كتبه لإحدى المجلات الأميركية، في حياة المخرج المولود في السويد وبحث فيما قد تكون الدوافع والأسباب والنتيجة موضوع غلاف لمجلة «ذا هوليوود ريبورتر» المرموقة وصفحات من الملامح إلى تكون بمجموعها صورة داكنة لشخص وصفه بعض معارفه بالقول: «أقل الأشخاص احتمالا لأن ينهي حياته على هذا النحو».
ما نعرفه بعيدا عن ذلك التحقيق، هو أن المخرج الذي هو أول مخرج عربي الأصل ينال الأوسكار فعلا، ولد في بلدة يستاد في جنوب السويد بتاريخ 14 سبتمبر (أيلول) سنة 1977. والده اسمه حسين بنجلول، وكان طبيبا جزائريا هاجر إلى السويد وتزوج من امرأة سويدية تعمل في ترجمة الكتب. هو ثاني أولاد العائلة إذ يكبره شقيقه جوهر بعامين. وهو باشر عمله ممثلا في حلقات تلفزيونية سنة 1990 عنوانها «إيبا وديدرك»، لكنه بعد ذلك انشغل في تحقيق أفلام صغيرة وقصيرة لعروض تلفزيونية مختلفة. كما شغل نفسه بالانخراط في برنامج دراسي لشؤون «الميديا» في جامعة كالمار. ووجد عملا في مؤسسة تصاميم وإنتاج محلي اسمها «كوبرا» شغله لعدد من السنوات التي سبقت تحقيق فيلمه الأوسكاري الذي كان أول فيلم يخرجه.

* القاع.. القمـة.. القاع

* مشروع هذا الفيلم ورد سنة 2006. بنجلول كان حط في مدينة كايب تاون في جنوب أفريقيا زائرا، وذلك ضمن برنامج رحلات أراد منها أن تلهمه موضوعا يخرجه فيلما. هناك التقى برجل يملك محل أسطوانات اسمه ستيفن سيغرمان، وهذا قص عليه حكاية مغنٍّ أميركي اسمه سيسكتو رودريغيز مشهور في جنوب أفريقيا ومجهول في باقي العالم. حين بعث بنجلول بفكرة تحقيق فيلم قصير لشركة «كوبرا»، ردت عليه تلك بأن المادة قد تستحق فيلما تسجيليا طويلا. لكن المشكلة، وكما يعبـر الفيلم بصدق، كانت في أن رودريغيز، المعروف بـ«شوغرمان»، كان شخصا متواريا عن الأنظار. يعيش في انطواء تام. بحث بنجلول عنه، ذاك الذي تحول إلى أكثر من عنوان فيلم، دام سنوات قليلة، وبعدها سنوات أخرى لصنع الفيلم حول ذلك الرجل الذي كان لا ينشد الشهرة، حتى ولو كانت على مقربة منه. ما حدث بعد ذلك هو ما قاد للتغيير. هذا الشاب الذي اندفع مؤمنا بعمله، وانتقل به إلى مهرجان «صندانس» في العام الماضي ودخل به مسابقة الأوسكار، وجد نفسه (كما يرجح التحقيق) كما لو سدد الضربة التي لا يمكن تجاوزها.
هل يكون هذا النجاح نهاية المطاف عوض أن يكون باكورة الطريق؟ هل يعقل أن يصل مخرج إلى القمـة ولا يرى منها سوى النزول؟ لماذا لم يوظـفها وينتقل منها إلى قمـة أخرى أو (على الأقل) يواصل العمل مستغلا النجاح الذي حققه؟ هل السبب في انحداره بعد ذلك يعود إلى أن هذا النجاح كان مبكرا جدا؟
الأخبار التي وردت مباشرة بعد فوزه بالأوسكار هي أنه جالس بعض المنتجين، الذين تدارسوا وإياه مشاريع محددة اقترحوها عليه. بعد أن أمضى المخرج أشهرا في الولايات المتحدة عاد إلى استوكهولم، وإلى أصدقائه ومحيطه. وحين سألته المنتجة كارين كلينتبيرغ عما إذا كان على موعد ما لتحقيق فيلم أميركي، بدا غير واثق. سريعا من بعد بدا وقد فقد الثقة بكاملها. أخذ سلوكه بالتغير بتدرج غير ملحوظ، ثم ملحوظا إلى أن وقع تحت ركام تلك الكآبة لأسابيع قبل إقدامه على الانتحار.
سيبقى السؤال قائما حول أسباب محددة أكثر دفعت مخرجا واعدا قفز إلى النجاح بسرعة يتمناها عشرات ألوف المخرجين إلى طي صفحة حياته. كيف يمكن لأحد أن يقفز من الأوسكار إلى الانتحار؟
طبيبة نفسية اسمها دونا روكول، تحدثت عن هذا الشأن بقولها: «الشهرة مثل حادث سيارة من حيث وقع التجربة» ورأت بعد دراسة شملت عددا من الممثلين والمخرجين الذين تأثروا بنجاحهم على نحو أو آخر أنه بالنسبة لشخص «عاش حياة طبيعية من قبل، فإن النجاح المفاجئ في عالم من الأضواء قد يكون أكثر مما يستطيع تحمـله».
ربما هذا ينطبق على مالك بنجلول، وربما لا. لا أحد يستطيع أن يتأكد، فقد حمل سره معه.

* ليس الأول

* مالك بنجلول ليس الأول الذي انتحر بعد فوزه بالأوسكار، أو حلـق في الترشيحات الرسمية له: الممثل تشارلز بوير (الذي رشح لأربع أوسكارات) انتحر سنة 1978 حزنا على رحيل زوجته. الممثل البريطاني جورج ساندرز نال أوسكار أفضل ممثل مساند عن «كل شيء عن حواء» سنة 1950، وانتحر سنة 1972 تاركا رسالة قصيرة عبر فيها عن ملله من الدنيا. ومن بين آخرين، أطلق الممثل رتشارد فارنسوورث النار على نفسه سنة 2000 وبعد أشهر قليلة من ترشيحه لأوسكار أفضل ممثل عن دوره البطولي في فيلم ديفيد لينش «قصـة سترايت».



السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
TT

شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

بين حضور دولي، بدأ مع فيلم «سيدة البحر» عام 2019، وصولاً إلى اختيار فيلمها الجديد «هجرة» لتمثيل السعودية في سباق الأوسكار 2026، تبدو المخرجة السعودية شهد أمين أكثر وضوحاً في صياغة رؤيتها السينمائية، خاصة أن الفيلمين يتقاطعان في السرد النسوي، حيث يقدمان نظرة لأحوال المرأة ومعالجة عميقة لقصصها.

وفي حوار أجرته معها لـ«الشرق الأوسط» من داخل مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة، حيث يشارك فيلمها في المسابقة الرسمية، جاء السؤال الأول عن هذا التقاطع، لتجيب: «كنتُ واعية تماماً وأنا أعمل على (هجرة)، فأنا لا أريد تكرار نفسي، ولا تقديم فيلم يشبه (سيدة البحر)... أردتُ أن أكتب من نقطة مختلفة، من اللحظة التي نعيشها الآن، ومن السؤال الذي يشغلني شخصياً: ما الذي أريد قوله للعالم اليوم؟».

نساء الأجيال الثلاثة

أمين، التي تقدم في «هجرة» رحلة المرأة السعودية عبر 3 أجيال، تشير إلى انزعاجها من الفكرة الدارجة اليوم حول تصوير «المرأة المعاصرة» بوصفها النسخة الوحيدة الصحيحة، وكأنها جاءت لتُصحّح أخطاء الأجيال السابقة من الأمهات والجدات وكل النساء السابقات، مضيفة: «شعرتُ أن هذه النظرة فيها قدر من النرجسية». وتتابع: «نحن نرى الحياة اليوم من منظور معاصر ومختلف جذرياً، لكن هذا لا يعني أن تفكيرنا هو الصحيح وتفكيرهنّ هو الخطأ... كنتُ أريد أن أعطي حقاً للنساء اللواتي جئن قبلنا».

وتمضي لشرح رؤيتها التي تشكلت في «هجرة» قائلة: «أردتُ أن أقدم أجيال النساء من دون أحكام... نعم، هناك صراع بين الأجيال، لكنه صراع ينتهي بتفاهم، وبإدراك أن اختلافنا طبيعي وليس تهديداً. اليوم، العالم كلّه يضغط ليجعلنا نموذجاً واحداً، وفكرة واحدة... بمعنى: إذا لم تشبهني فأنت مخطئ أو شرير أو مريض. بينما الحقيقة أننا يمكن أن نختلف، ونظل نتقبّل بعضاً».

فيلم هجرة يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)فيلم «هجرة» يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)

«هجرة»... الحكاية العميقة

حضرت «الشرق الأوسط» عرض فيلم «هجرة» في المهرجان، حيث شهد إقبالاً كبيراً وبيعت التذاكر بالكامل، والفيلم الذي يأتي من بطولة خيرية نظمي ونواف الظفيري والوجه الصاعد لمار فادن، تعود قصته لعام 2001، حين تقرر الجدة اصطحاب اثنتين من حفيداتها لأداء فريضة الحج، وبعد أن تتوه واحدة منهما، تقرر الجدة في لحظة صعبة أن تترك الحج وتبحث عن حفيدتها الضائعة، وخلال الرحلة يتكشف الكثير من الأسرار.

شهد أمين حرصت على إظهار واقعية العلاقة الإنسانية بين الجدة والحفيدة، بعيداً عن الحوارات المطولة والتعابير المبالغ بها، حيث برزت لغة العيون والإيماءات بشكل أكبر في أداء كل شخصية، كما أظهرت تفاصيل ما يحدث حول رحلة الحج ذاتها، والشخصيات الهامشية التي تعيش على بيع السبح وماء زمزم وتوصيل الحجاج، والطقوس التي تعصف بالمكان في تلك الفترة الغنيّة بالقصص والأحداث، ما يجعله فيلماً ينحاز للعمق وصدق التجربة.

الأوسكار... الواقعية قبل الحلم

وبواقعية شديدة، تجيب أمين حول سؤالها عن فرص فيلم «هجرة» في الوصول إلى القائمة القصيرة ومن ثم النهائية للأوسكار، قائلة، «دعينا نقول إن الوصول إلى القائمة القصيرة هو الخطوة الأهم... وبصراحة، كل مخرج يكون لديه قدر من التفاؤل في هذه المرحلة، لكن يجب أن نكون واقعيّين؛ لأن الوصول إلى الأوسكار لا يعتمد فقط على جودة الفيلم، بل يحتاج أيضاً إلى حملة إعلامية ضخمة في لوس أنجليس».

وتستكمل حديثها: «نتمنى الوصول إلى القائمة القصيرة، لكني أرى أن الوصول إلى القائمة النهائية صعب جداً... ومع ذلك، لم لا؟ نقول إن شاء الله... في هذا العام أفلام عربية جميلة وقوية، وجودتها عالية، وأتوقع أن يصل أحدها إلى الأوسكار... نتمنى أن نكون نحن، لكن قد يكون فيلماً عربياً آخر، لا أحد يعلم!».

أحدث جلسة تصوير لشهد أمين في مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

أفلام المهرجانات أم السينما التجارية؟

ولأن أفلام شهد أمين دائماً حاضرة في المهرجانات السينمائية بخلاف دور العرض التجارية، تحتم علينا سؤالها إن كانت مخرجة لأفلام المهرجانات، لترد: «بصراحة، نعم. أفلامي تُصنَّف عادة ضمن أفلام المهرجانات، صحيح أن (سيدة البحر) عُرض في صالات السينما، لكن حضوره كان أفضل في المهرجانات».

وترى أمين أن هناك فرقاً كبيراً بين أفلام شباك التذاكر والأفلام التي تُقدَّم للمهرجانات، وعن ذلك تقول: «الأفلام التجارية تستهدف السوق مباشرة، وتُبنى على فورمات معروفة تشبه ما اعتدنا عليه في السينما الأميركية أو نوع الأفلام الخفيفة التي يعرف الجمهور شكلها مسبقاً، بحيث يدخل المشاهد الفيلم وهو يعرف تقريباً الإيقاع المتوقع، والنهاية المحتملة، والمشاعر التي سيخرج بها».

وتضيف: «أفلام المهرجانات شيء آخر... فهي أفلام تحاول أن تأخذ الجمهور في رحلة مختلفة، بتجربة بصرية أو سردية غير مألوفة. ليست مصممة لاسترضاء الجميع، وقد لا تحظى بقبول واسع، لكنها دائماً تحمل طبقات وعمقاً وتجريباً أكبر من الأفلام التجارية، ولهذا السبب نجد المهرجانات تبحث عن هذا النوع من الأعمال؛ لأنها تضيف صوتاً جديداً وشكلاً جديداً للسينما».

وبالسؤال عن طرح «هجرة» في صالات السينما السعودية، تكشف أمين عن أن الموعد «قريب جداً»، وقد يكون «في مطلع عام 2026 تقريباً»، لكنها تؤكد أن القرار يعود للموزّعين والمنتجين. وتضيف: «الحلم الحقيقي لأي صانع أفلام هو تحقيق المعادلة الصعبة: فيلم يحمل عمقاً فكرياً وشاعرية، وفي الوقت نفسه يمنح الجمهور تجربة ممتعة ومؤثرة... إذا نجح (هجرة) في ذلك فسأكون ممتنّة جداً».

المخرجة العربية... خارج القوالب

وعند الحديث عن حضور المخرجات العربيات، من هيفاء المنصور إلى كوثر بن هنية ونادين لبكي وشيرين دعيبس، في المهرجانات الدولية، ترى أمين أن الصورة أكثر تعقيداً مما يبدو، قائلة: «في الغرب، وخصوصاً في أميركا، تعمل المخرجات غالباً في مساحة السينما المستقلة؛ لأن السينما التجارية ما زالت ذكورية... القصص يكتبها رجال، ويُنتجها رجال، وتُساق ضمن قوالب مألوفة».

وتشير إلى أن السينما المستقلة تمنح المخرجات مساحة أكبر لتقديم رؤية مختلفة، مضيفة: «في العالم العربي اليوم، عدد المخرجات الشابات أكبر من عدد المخرجين، ولهذا نراهن كثيراً في المهرجانات العالمية... البعض يظن أن وجود المرأة في هذه المنصات هو مجرد (مجاملة)، وهذا غير صحيح إطلاقاً... كل الأسماء التي نراها - من الخليج إلى شمال أفريقيا - قدّمت أفلاماً تستحق مكانتها».

وتختم المخرجة شهد أمين حديثها بالقول: «دائماً ما يُسألني الناس: ما الصعوبات التي واجهتها لأنك امرأة؟ الحقيقة أن المخرجات السعوديات والعربيات اليوم أكثر حضوراً من نظيراتهن في أوروبا... وأنا فخورة جداً بذلك».