حين يختلف النقاد مع لجان التحكيم ويتساءل الجمهور

5 أفلام تطرح أسئلة عن استحقاق فوزها

«مسز فانغ» - من «المتطفلة»
«مسز فانغ» - من «المتطفلة»
TT

حين يختلف النقاد مع لجان التحكيم ويتساءل الجمهور

«مسز فانغ» - من «المتطفلة»
«مسز فانغ» - من «المتطفلة»

السؤال الذي يلي مباشرة بعد توزيع كل جائزة في كل مهرجان ومناسبة هو إذا ما كان هذا الفيلم استحق جائزته أو لم يستحق. هل كان من القيمة الفنية بحيث ينالها باستئهال فعلي، أم أنّ لجنة التحكيم منحته الجائزة لأنّه يمثّل شيئاً نابعاً عنه خارج الفيلم؟ ماذا عن حكايته؟ هل كانت تستحق؟ هل يشكل الموضوع أهمية ما؟ هل رأي الناقد يواكب رأي لجنة التحكيم في أي مناسبة أو حدث سينمائي أو يخالفه؟
بعض هذه الأسئلة ترد مقلوبة فتُطرح على الأفلام التي لم تفز؟ ألم يكن هذا الفيلم مؤهلاً؟ هل استبعد بسبب سياسته؟ لقد أجمع النقاد على أهميته، لمَ لم يفز إذن؟
الواقع أنّ المسألة تنتهي عند تقييم شخصي يجتمع عليه البعض ويختلف عليه البعض الآخر. وهناك ثلاث حلقات يمرّ بها الفيلم الذي يتم اختياره في مهرجان ما أو لمناسبة سنوية، وهي لجنة التحكيم والجمهور والنقاد. وقليل ما تجتمع حلقتان على رأي واحد، فإذا أعجب فيلم معين (لنقل «سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا أو أي من أفلامه الأخرى)، فنال جائزة لجنة التحكيم وإعجاب النقاد غير المتناهي، تجد أنّ الجمهور، في شكل غالب أو كبير، انحسر عنه ولم يقبل عليه بالشكل الذي يوازي ذلك الإعجاب. وربما اجتمع النقاد مع الجمهور على الإعجاب بفيلم معين (مثل «سايكو» لألفرد هيتشكوك)، لكنّ لجنة التحكيم لفظته.
ثم يحدث أيضاً أن يختلف النقاد فيما بينهم، ولو أنّ هذه مسألة عويصة لا وقت لها هنا. ما هو مطروح هو المستحق من التقدير ومن قِبل مَن. وهذا الطرح يأخذنا إلى قيام المهرجانات الكبيرة، على الأخص، بعرض أفلام تثير الحيرة فازت أم لم تفز.
في مهرجان لوكارنو الأخير (صيف العام الماضي)، خرج فيلم صيني بعنوان «مسز فانغ» بالجائزة الأولى عنوة عن الأفلام الأخرى. لكن مع الاعتراف بأنّني لم أشاهد كل ما عرضه المهرجان السويسري في دورته السبعين تلك من أفلام، بل سبعة منها، فإن السؤال حول استحقاقه لا يتعلق بالمقارنة مع أفلام أخرى مثل «سلوكيات جيدة» لماركو دورتا (فرنسا) أو «لاكي» لجون كارول لينش (الولايات المتحدة) أو «واجب» لآن ماري جاسر (فلسطين)، بل باستحقاق الفيلم بحد ذاته ما تسلمه وعمّا قد تكون عليه الدوافع المختلفة.
التالي هو خمسة الأفلام التي فازت في غضون الأشهر الماضية بجوائز من مهرجانات أو مناسبات تضعنا أمام الحالة التي ذكرناها في مطلع هذا التحقيق حول اختلاف المصادر الثقافية والفنية بين الدوائر الثلاث، وكيف ينتج عنها منح الجوائز لمن لا يستحقها في العديد من الحالات.

• «مسز فإنغ» (Mrs‪.‬ Fang) وانغ بينغ
• الجائزة الكبرى في مهرجان لوكارنو
في قرية صينية جنوبية كانت تعيش امرأة بلغت السابعة والستين من العمر، اسمها فانغ جويينغ. لا شيء مميز عنها. نتعرّف عليها في هذا الفيلم التسجيلي وهي تقف عند باب بيتها تنظر إلى لا شيء محدد، وذلك تبعاً وبوضوح لطلب المخرج. لا تنتهي اللقطة بانتهاء صلاحيتها ووصول مفادها، لكنّها تستمر طويلاً.
بعد ذلك، مسز فانغ طريحة الفراش بعدما أصيبت بعارض مفاجئ يصفه الفيلم بأنّه «ألزهايمر». في واقعه هذا المرض الذي يصيب قدرة الإنسان على التعرّف على المقربين منه، ويحدد له ما يتذكره وما ينساه، ليس مرضاً بدنياً يضع صاحبه في الفراش، بل يأتي نتيجة نوبة قلبية لا يشير لها الفيلم. ما يهتم به هو أنّها في الفراش لمعظم مشاهد الفيلم وحتى موتها بعد عشرة أيام طويلة من هذا الوضع.
الكاميرا تنصبّ لنحو ثلثي الفيلم عليها وهي راقدة. لا تتكلم ولا تتحرك إلّا قليلاً، وعيناها قد تجولان قليلاً لكنّهما صامتتان كفمها. كل لقطة عليها مرشحة للاستمرار لأكثر من دقيقتين. إحداها تستمر لأكثر من ثلاث دقائق. للانتقال بعيداً عنها، في الثلث الثالث من الفيلم (95 دقيقة)، يرصد الفيلم حياة بعض أبنائها وجيرانها في صيدهم للسمك في النهر القريب أو لاجتماعهم للحديث والتندر داخل وخارج المنزل. في الواقع، يصوّر وانغ بينغ (الذي سبق وأن اشترك بفيلم سابق له بعنوان «الخندق» في مهرجاني فينيسيا ونانت سنة 2010)، تجمّع ابنتي المريضة وزوجيهما وبعض الرجال والنساء حول سرير مسز فانغ راصداً اختلاف الاهتمامات. إنّها مناسبة للحديث لا عما أصاب العجوز فقط بل عن كل شيء آخر.
هذا المفاد يصل مرّة ومرّتين وثلاث ويستمر طوال الوقت، ما يجعله مكرراً كتكرار تصوير المريضة، وهي شاخصة البصر فاتحة فمها لتظهر أسنانها الحادة. ما لم يلق بالاً لدى لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس، على ما يبدو، هو الفارق بين المتابعة المتمهلة والمتأملة، وبين ترك الكاميرا منصبّة على الموضوع الذي أمامها كما لو أنّها وُلدت أمامه. هذا النوع ينجز أفلاماً مفتعلة الإيقاع والسبب أساساً.

• «امرأة بديعة» (A Fantastic Woman) سيباستيان لليو
• أوسكار أفضل فيلم أجنبي
يندرج هذا الفيلم التشيلي في عداد الأفلام التي تستأهل التحقق من مستواها، وإذا ما كان مناسباً ووافياً للخروج بجائزة أفضل فيلم أجنبي كما فعل قبل نحو أسبوعين.
ماريانا (دانيالا فيغا في أداء جيد) تعمل مغنية وتعيش مع الثري أورلاندو (فرنسيسكو رايز) المرتبط بها عاطفياً أكثر من ارتباطه بزوجته وباقي أسرته. في ليلة لا تنذر بالعواقب، يدخل الاثنان مطعماً للعشاء وعندما يعودان إلى شقتهما يسقط الرجل ميتاً. إنّها حالة تسمم وماريانا تجد نفسها وجهاً لوجه أمام أفراد العائلة الذين يتهمونها بأنّها هي التي سممت عشيقها للحصول على ثروته، ولتفرض نفسها في محيط تلك العائلة.
يزيد الأمر حدة أنّ ماريانا هي رجل كان قد تحوّل إلى أنثى. لا أحد يعرف ذلك في البداية. أورلاندو كان يعرف ذلك بالطبع، لكن العائلة تُواجه بتلك الحقيقة لاحقاً، بالتالي فإنّ عداء العائلة لماريانا ليس بسبب أنّها عشيقة الأب والزوج فحسب، بل لأنّها متحوّلة جنسية، وفي كنف ذلك حقيقة أنّها من طبقة اقتصادية محدودة الدخل.
الحكاية وحدها جيدة ولحد ما جديدة. ولا ريب في أنّ دوافع المخرج للوقوف وراء ماريانا مفهومة. هو نصير الحالات المنفردة في المجتمع كأي ليبرالي منفتح آخر. لكن بينما هناك مجال لدى شخصية ماريانا لكي تتطور وتتبلور في عداد هذه الدراما، فإنّ لا شيء يُذكر من هذا القبيل في شخصيات العائلة المناوئة. قيام المخرج لليو بتحقيق الفيلم من منظور بطلته فقط، يحرم الفيلم من البحث عميقاً في المواقف المناوئة لها. يحرم الآخرين من وجهة نظر أعمق من تلك الواردة سريعاً. وهي أحياناً ليست عميقة حتى من وجهة نظر بطلته بقدر ما هي صادمة تبعاً لاختيار اللقطات التي تؤلف مشاهد يتداولها الفيلم كنوع من إحداث الصدمة بما في ذلك المشهد الرمزي لها وهي تقاوم عاصفة عاتية هبّت عليها وتكاد تقتلعها.

• «المتطفلة» (The Intruder)
ليوناردو دي كوستانزو
• الهرم الذهبي لمهرجان القاهرة
التقط مهرجان القاهرة السينمائي هذا الفيلم من بين ما عرضه مهرجان «كان» في قسم «نصف شهر المخرجين»، حيث نال اهتماماً لا بأس به، لكنّه غير مميّز. لجنة التحكيم في المهرجان المصري منحته ذهبية المهرجان، وبالنسبة لما شوهد من أفلام المسابقة في القاهرة فإنّ الفيلم استحق الفوز فعلياً.
إنه حكاية امرأة في الستين اسمها جيوڤاني (رافاييلا جيوردانو التي ظهرت سابقاً في فيلم واحد فقط هو «فهد» لماريو مارتوني سنة 2014)، تشرف على مكان مؤلف من قطعة أرض وبضعة أكواخ باطونية محيطة به تعيش هي في إحداها. بعد موت زوجها (قبل بدء الفيلم)، تنفرد بمسؤولية الرعاية الاجتماعية التي توفرها للأولاد بعيداً عن بيئة عصابات المافيا في مدينة نابولي. إلى ذلك المكان تصل (أيضاً قبل الأحداث) امرأة وابنتها وطفلها الرضيع، وتوهم جيوڤاني بأنّها بلا مأوى. في الليل يلحق بها زوجها عضو عصابة «كامورا»، وفي الصباح، كما نرى، تفاجأ جيوڤاني بأنّ الشرطة أحاطت بالمكان حيث يستسلم الزوج بلا مقاومة، لكنّه يخلق وضعاً صعباً كون ثقة الآباء والأمهات بدفاع جيوڤاني عن الزوجة التي ما زالت تعيش في الكوخ بعد اقتياد زوجها، عن وجود تلك المرأة وحقها في البقاء.
هذا إنتاج محدود الميزانية، يبدو كما لو كان من صنع «أهلي - محلي»، لكن ما يعوّض ذلك أنّ الصنعة ليست ركيكة أو بعيدة عن الاحتراف. المشكلة الأساسية هي في أنّ الفيلم لا يملك إلّا أن يكون بسيط التكوين، ليس فقط على صعيد الشكل والصنعة والإنتاج فحسب، بل درامياً أيضاً. لا يحتوي السيناريو على أكثر من ذلك التلخيص السابق والحبكة فيه مستطردة لا ترتفع مقدمتها عن منتصفها أو نهايتها.
«المتطفلة»، على الرغم من ذلك، يحتوي على ما يكفي من شروط لمنحه جائزة أولى بحد ذاته. على صغر حجمه ومساحته الدرامية يكوّن نفسه نموذجاً يمكن الاحتذاء به من قِبل أي مخرج جديد بميزانية شحيحة.

• «السعداء» صوفيا جمعة
• أفضل إخراج من مهرجان دبي
أصابت لجان التحكيم الثلاث التي تداولت أفلام هذا المهرجان الإماراتي في اختيار الأفلام والشخصيات الفائزة، على الرغم من أنّ بعض الخاسرين كان جديراً بهم أن يقفوا في صف الرابحين. لكنّ الجائزة التي مُنحت لمخرجة هذا الفيلم الجزائري، «السعداء»، تقف نافرة منذ أواخر العام الماضي وإلى اليوم ومرشحة للامتداد.
فيلم جزائري تقع أحداثه بين شخصيات جزائرية من طبقات ومشارب اجتماعية شتّى اليوم، ويريد أن يمنح المشاهد نظرة واقعية على وضع البلاد بعد العشرية السوداء التي سادت فيها حرب وُصفت بالأهلية لضراوتها، وذلك في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. لكنّ كل هذا الواقع وشخصياته المحلية يُنسف باستخدام المخرجة اللغة الفرنسية عوضاً عن اللغة العربية التي تتحدّث بها الجزائر، ليس في أماكن معيّنة ربما للإيحاء بغربة أو بعنصر اجتماعي ما، بل طوال الفيلم وبألسنة كل الشخصيات الأخرى.
هذا هو اختيار المخرجة التي كتبت السيناريو، وهو ليس أمراً تفصيلياً بل أساسياً. تصوّر لو أنّك حقّقت فيلماً مصرياً صميماً وكل من فيه يتحدّث الإنجليزية. وهذا الجانب لا يقف وحده في عداد ما يشي بأنّ لجنة التحكيم (برئاسة الممثلة الألمانية مارتينا جيديك) ألهبها حماس ما فسدّدت إلى المخرجة جائزتها كأفضل مخرجة.
هناك فرق بين إدارة ممثلين بنجاح وبين إخراج الفيلم بكامله. الحكاية التي ترد هنا هي مواقف متباينة من تلك الأحداث السياسية، تتذكرها بطلة الفيلم نادية كاسي وزوجها سامي بوعجيلة، نعود فيها إلى دائرتها من جديد وعلى نحو لا يخلو مطلقاً من اللف والإعادة. المفاد ذاته يصل أكثر من مرّة. والمشاهد تلفزيونية المعالجة. ليس فيها تميّز فني بل ممارسة لسياق سردي يمكن لأي مخرج بلا بصمة تحقيقه بنتائج مشابهة وربما أفضل لو أنّه عني على نحو أكثر فاعلية بتقنيات العمل، مستعيناً بمدير تصوير أفضل، ومعيداً كتابة سيناريو يتمحور حول الوضع ذاته في أكثر من مشهد.

• «فنان الكارثة» (The Disaster Artist) جيمس فرانكو
• أفضل فيلم من مهرجان سان سيباستيان
لا بد أنّ المهرجان الإسباني العريق كان يعاني من أزمة أفلام، وإلّا لكانت لجنة التحكيم منحت جائزتها لأفضل فيلم إلى عمل آخر. ما فعلته هي أنّها أعطت تلك الجائزة لفيلم يبدأ جيداً ويتوعك بعد ثلث ساعة وحتى نهايته.
تومي وايزو مخرج وممثل له باعه من الأفلام الرديئة بدءاً من العام 2003 عندما قام بإخراج وتمثيل وإنتاج وتمويل فيلمه الأول «The Room» الذي تلقى عليه مقالات الرثاء أيضاً. فيلم جيمس فرانكو يمنح وايزو العذر، فهو كان مؤمناً بما يقوم به مقتنعاً أنّه تعبير عن موهبة ومستعد دوماً أن يضع اللوم على الآخرين الذين لا يقدرون موهبته. هذا على الرغم من أن جميس فرانكو (الذي يمثل دور وايزو في فيلمه) يصفه، بأنّه لم يكن مخرجاً رديئاً فقط، بل ممثلاً بذات المستوى كذلك. يبدأ كل شيء ذات يوم تعرّف فيه وايزو على كرغ (ديڤ فرانكو، شقيق جيمس) في مدرسة للدراما. اتخذه رفيق دربه واستضافه في منزله كصديق، لكنّه كان يخفي حبه له. عندما فشل كل منهما في شق طريقه ممثلاً، اقترح كرغ على وايزو أن يحقّق الثاني فيلمه الخاص، وهذا ما أدّى إلى قيام وايزو بتحقيق «الغرفة» بعدما اشترى المعدات بنفسه، ووضع كرغ في البطولة.
عند هذا الحد يتوقف الجديد فعلياً ويبدأ الفيلم، قبل نهاية نصف ساعته الأولى، عملية تجمّد: تصوير مشاهد حول كيف قام وايزو الفاشل وغير الموهوب بتمثيل وإخراج الفيلم مثيراً في أول خمس دقائق، بعدها يدخل في تكرار عقيم باستثناء أنّ كرغ كان تعرف على صديقة، وهذه دعته لترك شقة وايزو والانتقال للعيش معها. كرغ وافق. جيمس انهار واتهم كرغ بخيانته. هذا كله يلفت بعض الاهتمام ويبيع بعض التذاكر، لكنّه، وبسبب معالجته بتوقف الفيلم طويلاً عند صنع فيلم «الغرفة»، ويبتعد عمّا كان أجدى، وهو الإبحار في شخصيتي الرجلين عوض تحويل الفيلم إلى كيفية تحقيق الفيلم الذي في داخله. ليست مهمّة صعبة لكنّها تحتاج إلى مخرج لديه مفردات وأجندة فنية. واحد مثل تيم بيرتون عندما أخرج فيلمه النيّر عن المخرج الرديء (بإجماع النقاد) «إد وود» سنة 1994.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».