مفارقات بالجملة في أولى نتائج الخفض الضريبي الأميركي

بدأت آثار الخفض الضريبي الأميركي في الظهور تباعاً، لتؤكد جملة معطيات متجانسة شكلاً، لكنها قد تكون خلاف ذلك مضموناً. وتقدر نسبة مبالغ ذلك الخفض بنحو 1.1 في المائة من الناتج، ما شكل نحو 200 مليار دولار.
وأكد متابعون للمؤشرات الأولى، أن عجز الموازنة ارتفع 12 في المائة بسبب نقص في الإيرادات الضريبية، مقابل استمرار ارتفاع «وول ستريت» وارتفاع ثقة المستهلكين وصغار المستثمرين. أما على صعيد الشركات الكبيرة، فالأمر أقل إشراقاً في مسألة الاستثمارات المنتظرة منها، والتي راهن عليها الرئيس دونالد ترمب لزيادة التوظيف ورفع الإنتاجية. كما حذر اقتصاديون من تفاقم عجز الموازنة في الأشهر والسنوات المقبلة، بما يهدد النمو، وبالتالي الوظائف والاستثمارات معاً.
على صعيد «وول ستريت»، ومنذ انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، أي خلال ما يصل إلى نحو سنة ونصف السنة، حققت بورصة نيويورك مكاسب كثيرة. فمؤشر «داو جونز» صعد 38 في المائة، و«ناسداك» المتخصص بقياس أداء أسهم الشركات التكنولوجية قفز 47 في المائة.
المحرك الأساسي لهذا الصعود القياسي كان انتطار - ثم إقرار - قوانين الضرائب لجهة خفضها. تلك كانت ورشة «إصلاحية» واسعة النطاق، أصاب «وول ستريت» منها نصيب وافر بسبب خفض ضرائب أرباح الشركات من 35 في المائة إلى 25 في المائة، وهذا سيرفع الأرباح والتوزيعات منها، ما يثير شهية المستثمرين في أسهم الشركات التي ستستفيد من ذلك الخفض الكبير نسبياً.
ويؤكد محللون عاملون في «بيكيت آي إم» لإدارة الأصول، أن أرباح أسهم أو شركات مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» سترتفع نحو 5 في المائة على الأقل في 2018. هذا إضافة إلى مكاسب المناخ الاستثماري الإيجابي العام الذي تعيشه الشركات الأميركية، سواء على الصعيد الداخلي وعلى صعيد إفادتها من نمو الاقتصاد العالمي. لذا يظهر المحللون تفاؤلاً بأداء الأسهم المدرجة في «وول ستريت» ويراهنون على صعود بين 15 و20 في المائة هذه السنة.
وبدأت بعض الشركات تشعر بمنافع ذلك الخفض الضريبي الذي أقر أواخر 2017، مثل شركة «بيركشاير هاثاواي» التي يرأسها الملياردير والمستثمر الشهير وارن بافيت، التي جمعت 29 مليار دولار بفضل القانون الضريبي الجديد حتى الآن. فللشركة مساهمات استراتيجية في عدد من الشركات الكبيرة في قطاعات هي الأكثر استفادة من خفض الضرائب، مثل النقل وسكك الحديد والسلع الاستهلاكية ومطاعم الوجبات السريعة. كما أن «بيركشاير هاثاواي» مستثمرة في أسهم شركة «آبل». ويذكر أن «آبل» تأتي على رأس الشركات الأخرى في قطاعها، من حيث الاستفادة من بنود في القانون الجديد خاصة بخفض الضرائب، في حال إعادة مئات المليارات الموظفة أو الموطنة خارج الولايات المتحدة الأميركية، والتي في حال عودتها ستكون عرضة لضرائب نسبتها 15.5 في المائة، بدلاً من 35 في المائة، بالنسبة للنقدي (كاش) و8 في المائة فقط بالنسبة للأرباح المخصصة لإعادة استثمارها في الولايات المتحدة.
لذا فالرهان ضخم جداً وفقاً لبنك «غولدمان ساكس» الذي يقدر أن لدى «آبل» و«مايكروسوفت» و«سيسكو» و«غوغل» (ألفابيت) و«أوراكل» نحو 511 مليار دولار في الخارج. أما إجمالي المبالغ المهاجرة فيبلغ 2.5 تريليون دولار، علما بأن لشركة «آبل» وحدها 250 مليار دولار في الخارج، وكشفت الشركة أنها ستدفع 38 ملياراً منها ضرائب عند عودتها.
لكن بعد الصعود الهائل لمؤشرات «وول ستريت» يخشى البعض من انتكاسة ما، كما حصل في الإنذار القاسي المتمثل في الهبوط الحاد الذي شهدته تلك المؤشرات في النصف الأول من فبراير (شباط) الماضي، عندما سجلت خسارة 10 في المائة في أيام قليلة. كما أن المحللين يضيفون إلى تلك المخاوف هواجس أخرى متعلقة بارتفاع عجز الموازنة الأميركية، بفعل ذلك الخفض الضريبي الذي سيخفض الإيرادات العامة، وهذا بدوره قد يؤثر سلباً في النمو الاقتصادي، وبالتالي في الشركات وأرباحها.
فقد بلغ عجز الموازنة 215 مليار دولار في فبراير الماضي بزيادة نسبتها 12 في المائة، وفبراير هو الشهر الأول الذي تشعر فيه الموازنة بعبء نقص إيرادات الضرائب، بسبب خفض معدلاتها، كما أراد الرئيس دونالد ترمب. وبلغ إجمالي العجز في الأشهر الخمسة المنقضية من السنة المالية الحالية، التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، 391 مليار دولار، مقارنة مع 351 مليار دولار في الفترة نفسها من السنة المالية السابقة.
على صعيد آخر، يرى المحللون أن الشركات الصغيرة والمتوسطة - كما الأسر الأميركية - ستكون بين أكثر الرابحين من الخفض الضريبي، وفقاً للمؤشرات الأولى التي بدأت بالظهور الشهر الماضي، وطالت منافعها نحو 3 ملايين أميركي في المرحلة الأولى. وبفعل ذلك - إلى جانب مؤشرات إيجابية أخرى - صعدت ثقة المستهلكين الأميركيين إلى أعلى مستوى منذ نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2000.
يذكر أن 90 في المائة من الشركات في أميركا، لا سيما الصغيرة والمتوسطة الحجم، تخضع لضرائب مماثلة لضرائب دخل الأفراد، وليس لنسب ضرائب الشركات الكبيرة؛ لأن الاقتصاد الأميركي مفعم بعدد هائل من المؤسسات العائلية، ما يجعل منها مساهمة بنحو نصف الإيرادات الضريبية التي تدخل الموازنة أو أكثر من ذلك، بعكس الاعتقاد السائد حول العالم عن أن الشركات الكبيرة والعملاقة مثل «آبل» و«مايكروسوفت» و«بوينغ» تساهم بأكبر قدر ممكن من تلك الإيرادات؛ لكن في حقيقة الأمر فهي تسهم بأقل من نصف تلك الإيرادات الضريبية.
وتشهد الشركات الصغيرة والمتوسطة حالياً موجة استثمارات وتوسعات وتجديد معدات؛ لأن القانون الجديد أعفى تلك الاستثمارات من الضرائب حتى مليون دولار. ويوضح المحللون أن ما خص الشركات الصغيرة والمتوسطة على صعيد الاستثمارات المعفاة من الضرائب، سيكون له أكبر الأثر الإيجابي على الوظائف والإنتاجية والنمو، وربما بما يضاهي الأثر الآتي من خفض ضرائب الشركات الكبيرة، علماً بأن ترمب أرضى - أو كافأ - أصحاب المؤسسات الصغيرة بطريقتين: الأولى بخفض نسبة الضرائب المفروضة عليهم، والثانية بزيادة الإعفاءات بنسبة 20 في المائة على الأقل.
أما على صعيد الشركات الكبيرة، فقد أكدت دراسات أن جزءاً يسيراً من الوفر الضريبي الذي ستحققه تلك الشركات سيوجه إلى الاستثمار الذي هو العصب الأساس لزيادة الإنتاجية في الاقتصاد الأميركي. إذ وفقاً لدراسة أجراها بنك «مورغان ستانلي» فإن 17 في المائة فقط من ذلك الوفر سيعاد استثماره مقابل 43 في المائة لإعادة شراء الأسهم وتوزيعات الأرباح (أي دعم أسعار الأسهم في الحالتين)، ما يشير إلى أن مكاسب «وول ستريت» ستزيد مقابل إفادة أقل للاقتصاد عموماً. تلك هي المعضلة الدائمة في بعض الاقتصادات الرأسمالية التي تركز على الأصول المالية أكثر من الحقيقية أحياناً.