ينفض سكان مدينة الرقة شمال سوريا، غبار الحرب عن مدينتهم، وينهمك العائدون إليها بإعادة إعمار منازلهم ومحلاتهم بإصرار وعزيمة كبيرة، ويعمل الجميع لإعادة عجلة الحياة إلى مدينة تعبت من شدة المعارك.
النسوة والفتيات منشغلات بإخراج حطام الأنقاض وتنظيف بهو المنزل وفناء الدار، في محاولة لطي صفحة النزوح والشتات التي عايشنها طوال الأشهر الماضية، كما عادت عربات بيع الخضراوات والفاكهة إلى الساحات العامة وتعالت أصوات الباعة، خاصة في دوار النعيم، حيث ما زال دمارها وركامها شاهداً على الحرب التي وقعت فيها قبل أشهر.
أثار الدمار مسيطرة على الأحياء الواقعة في أطراف الرقة، حيث انهار سقف كثير من المنازل أو خلعت أبوابها والشبابيك، أما المحال التجارية فقد تعرضت للدمار والبعض منها سوي بالأرض. غير المشهد يبدو صادماً أكثر في مركز المدينة، وتحديداً في ساحة الساعة ومركز المحافظة ودوار النعيم وساحة الدلة والملعب الأسود والسوق القديم، حيث جرت معارك عنيفة جداً للسيطرة على أبنية استراتيجية انتهت بطرد عناصر «داعش»، وبات من الصعب التفريق بين منزل ومتجر، بعد أن تحول معظمها إلى جبال من الركام، وتناثرت الحجارة وأنابيب المياه وأسلاك الكهرباء، ولم تعد صالحة لتشغيلها مرة ثانية.
وكانت حارة المشلب والرقة السمراء وحي الطيار ومنطقة السمرات الواقعة شرق المدينة أفضل حالاً من باقي المناطق، إضافة إلى حي الدرعية والسباهية ومزرعة الأسدية الواقعة غرباً كونها تحررت بداية الهجوم في شهر يونيو (حزيران) 2017، وعاد إليها معظم سكانها، بعد أن سمحت «قوات سوريا الديمقراطية» بالتنسيق مع مجلس الرقة المدني بعودة سكان جميع الأحياء.
عبد الرحمن (53 سنة) وهو من سكان دوار النعيم، يعمل على ترميم منزله الذي تعرض إلى دمار جزئي وهو الواقع بين أخطر ساحتين في الرقة، أثناء معركة طرد تنظيم داعش على يد «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم من التحالف الدولي منتصف شهر أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي.
يبدي عبد الرحمن رغبته بحياة جديدة بعيداً عن الرعب الذي عاشه في زمن عناصر التنظيم المتشدد، يجبل بعض الإسمنت ويضعها تحت طوبة فوق سور منزله الذي تهاوى جزء كبير منه، ويقول لنا: «يقع بيتي بين دوار الجحيم ودوار الموت (أي بين دوار النعيم ودوار الدلة) عندما كنت أخرج من منزلي أشاهد رؤوساً معلقة بدوار الجحيم، وفي دوار الموت كانت الجثث معلقة دون رؤوس».
يحاول عبد الرحمن اليوم نسيان ذكرياته المثقلة، يعيد بناء منزله وقد نالته نيران المعارك العنيفة، فقد كسر زجاج النوافذ والأبواب جراء الانفجارات التي وقعت في محيطه، وتهاوي سور المنزل وجزء من سقفه. يقول وهو يتابع عمله: «لن أنتظر الجهود الدولية والوعود بإعادة الإعمار، أقوم بنفسي بهذا العمل. سكان المدينة هم فقط من سيقوم بإعادة الروح إليها».
عودة الحياة إلى مركز المدينة
تقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كيلومتر مربع. كان يسكنها قبل اندلاع الثورة السورية التي تحولت إلى حرب في سوريا ربيع 2011، نحو 300 ألف نسمة، غالبيتهم من العرب السنة، إلى جانب أكراد ومسيحيين وتركمان، فر معظمهم بعد سيطرة التنظيم المتطرف على المدينة.
بعد تحريرها؛ قرر قسم من أبنائها العودة إليها، وتتركز غالبية العائدين بشكل خاص في حارة المشلب وأحياء الدرعية والرميلة وعدة أحياء مجاورة. وشهدت ساحة دوار الدلة الواقعة في مركز المدينة، حركة نشطة لم تشهدها الساحة منذ سنوات، حيث تعمل الورش ليل نهار لإعادة بناء السوق من جديد؛ ويربط أصحاب المحال والمنازل المحيطة بالمنطقة الليل بالنهار للإسراع من انتهاء أعمال التنظيف والعودة إلى حياتهم الطبيعية.
أحد هؤلاء العائدين عواد (36 سنة) الذي يعمل في مهنة البناء ويساعد السكان لإعمار منطقته بحارة السمرات شرق الرقة، وأثناء الحديث معه، كان منشغلاً بالبناء لكن هذا لم يمنعه من أن يقول: «لا أعطي فرحتي لأحد، كان حلماً بالعودة للرقة وقد تحقق».
لم تنه الحرب حياة سكان مدينة الرقة، فهم يعملون ويكافحون ليعيدوا مدينتهم إلى الحياة. لكن مع انتهاء سيطرة عناصر تنظيم داعش التي استمرت ثلاث سنوات ونيف بين يناير (كانون الثاني) 2014 وأكتوبر 2017)، برز تحد آخر، فقد عمد عناصر «داعش» إلى زرع الألغام والمتفجرات في مختلف أنحاء المدينة، الأمر الذي يحول الآن دون عودة معظم سكانها. ومن هؤلاء، آيات (54 سنة) النازحة في مخيم عين عيسى الواقع على بعد 50 كيلومتر غربي الرقة، التي تقول إنها لن تعود هي وأسرتها إلى مسقط رأسها حتى تصبح آمنة، وتؤكد أنها تفضل العيش تحت خيمة لا تقيها برودة الشتاء على عودة فيها مجازفة. وتضيف: «لن نعود ما دام هناك ألغام ومتفجرات».
نزع المواد المتفجرة
في كثير من الأحياء التي ما زالت تنفض عن نفسها غبار الحرب، يتفقد مدنيون من سكان الرقة منازلهم المدمرة ويزيلون الركام أمام محلاتهم، ويعود آخرون منهم على متن سيارات وآليات محملة ببعض من حاجاتهم، فيما يخشى كثيرون الدخول إلى منازلهم خوفاً من انفجار لغم ما.
وتعمل منظمة «روج» بالتنسيق مع منظمات أميركية ودولية معنية بإزالة الألغام على نزع المواد المتفجرة والمنتشرة بكثافة، ويرتدي ستة أشخاص من عمالها زياً لونه (كاكي)، ويضعون على ذراعهم شارة حمراء اللون تتوسطها جمجمة بيضاء. وفي منطقة الصناعة وبجانب سور الرقة الأثري، يحمل الفريق الباحث عن مخلفات الحرب، أجهزة كشف تقليدية مثل عصا طويلة بلاستيكية مزودة بلاقط حاد، ليتمكن من التقاط الخيوط المتفجرة، كما يحمل أجهزة رصد دقيقة عن بعد للكشف عن الألغام اليدوية والقنابل الغير متفجرة.
يقول عبد الحميد آيو المستشار التقني لقسم العمليات مدير منظمة (روج)، متحدثا إلى «الشرق الأوسط»، إنّ: «الألغام في المدينة تقدر بالآلاف. وقد تمكنا من الكشف عن نصف المدينة وأزلنا 1500 لغم حتى اللحظة لأن المدينة كانت ملغمة بشكل كامل»، مشيراً، إلى أن فريق المنظمة قام بتدمير أكثر من 15 ألف لغم من مخلفات تنظيم داعش بحسب عبد الحميد آيو.
إصلاح شبكة المياه
غابت المياه عن الرقة منذ قرابة سنة، ولا يوجد سوى عدد قليل من الآبار للاستخدام بعد تحرير المدينة. وبدأت ورشة فنية تتبع لجنة المياه التابعة في مجلس الرقة، أعمال إصلاح خطوط المياه في حارة الرقة السمراء. وأثناء وجودنا، كان الفريق يقوم بحفر موزع شبكة رئيسية بالقرب من نقطة سقطت عليها قذيفة صاروخية دمرت الشبكة بشكل شبه كلي. وبرفقة مجموعة من العمال والفنيين، قام المهندس جاسم الخلف من لجنة المياه بتفقد المكان. وفي حديثه إلى صحيفة «الشرق الأوسط» شرح الخلف خطتهم التي تقوم على إعادة المياه لعدة أحياء، وقال: «معي ورشة تعمل حالياً على إصلاح هذا الخط قطره 600 سنتمتر من الفونط المرن، وهي من الخطوط الرئيسية التي تؤمن تغذية المياه لباقي أحياء الرقة».
في السياق، انتهى مجلس الرقة المدني من تجهيز محطة مياه الكسرات الأساسية (غرب الرقة) والتي توجد فيها مضختان عموديتان واثنتان أفقيتان، طاقة كل منها 500 متر مكعب في الساعة، لتضخ جميعها، نحو ألفي متر مكعب في الساعة بحدودها الدنيا، غير أن طاقتها الإنتاجية تبلغ قرابة 8500 متر مكعب في الساعة.
إلا أن زياد (38 سنة) الذي ينحدر من سكان شارع الانتفاضة الواقع غرب الرقة، أكد أنه وجيرانه يشترون المياه الصالحة للشرب والاستعمال، ويبلغ سعر برميل الماء 200 ليرة سورية (ما يعادل نصف دولار أميركي). يقول: «لا مشكلة في انقطاع الكهرباء والخدمات، لكن عدم توفر المياه سيما الصالحة للشرب فتعد أكثر المشكلات التي نعانيها»، ويكمل «إن أكبر أحلامنا مشاهدة عودة المياه إلى الحنفية».
أما على مستوى نظافة المدينة، ففد بدأت بلدية الرقة منذ بداية الشهر الحالي، العمل داخل أحياء المدينة، وخصصت جرارات وآليات للنظافة ورمي النفايات في المكبات المخصصة. وقالت سناء الأحمد رئيسة البلدية المشكلة من قبل مجلس الرقة المدني الذي يدير المدينة: «قمنا بتوزيع حاويات النفايات في معظم الأحياء التي عاد الناس إليها، كما خصصنا 7 جرارات للنظافة لجمع النفايات، وتقوم هذه الآليات بالتجول في الأحياء مرتين يومياً، 7 صباحاً ومثلها مساءً».
ولتشجيع الأهالي على العودة إلى منازلهم؛ قررت البلدية إعفاء المواطنين من رسوم ترخيص البناء وضرائب المالية. وتقول الأحمد: «قررنا إعفاء الأهالي من الضرائب والرسوم المالية لتسريع عمليات إعادة الإعمار، الجميع هنا يربط الليل بالنهار لتقديم الخدمة لكل شخص عائد، لتعود الرقة عروسة الفرات».
سكان الرقة ينفضون ركام الحرب عن مدينتهم... والجميع منهمك في إعادة الإعمار
أعظم الأحلام عودة المياه إلى الحنفيات والتخلص من الألغام التي خلفها «داعش»
سكان الرقة ينفضون ركام الحرب عن مدينتهم... والجميع منهمك في إعادة الإعمار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة