أزمة التسامح مع الذات الفكرية للشعوب

أساسها سيكولوجي أكثر منه تاريخي علمي

فؤاد زكريا
فؤاد زكريا
TT

أزمة التسامح مع الذات الفكرية للشعوب

فؤاد زكريا
فؤاد زكريا

ما زلت على قناعتي الراسخة بأن الشعوب كمواطنيها تمتلك، كما قال الفيلسوف الألماني الشهير «فيشت»، وجدانها الجمعي، الذي يخرجها من المعادلة الرياضية الصماء بأن الدولة ما هي إلا الجمع الكلي لأفرادها ووجودها الجغرافي. فالمقصود هنا هو أن الدولة لها إلى جانب المكون المادي المرتبط بالإقليم جانب يرتبط في الأساس بكونها كائناً عضوياً له ضميره الجمعي والفكري، بل وذوقه وروحه الخاصة، التي أعتقد أنها النتاج الطبيعي لاتحاد التاريخ بالثقافة في الوعاء الجغرافي. فالشعوب بالقطع لها هذا البعد غير المادي الذي يجب على كل اجتماعي أو سياسي أو مثقف استشفافه. وهنا، يبرز بشكل غير مباشر أثر التاريخ والثقافة على الحاضر، وهذه الظاهرة الجمعية، شأنها شأن أي ظواهر روحية للفرد، لها ما يدفعها ويغذيها، وينمي علاقة الترابط بين أفرادها، كما أن لها عللها التي أغامر بأن أسميها بالسيكولوجية الجمعية، وتماماً كما يهاجم الاكتئاب الفرد، فإن الوجدان الجمعي تتعاقب عليه العلل النفسية. وفي تقديري، فإن أخطر هذه المشكلات على الإطلاق هي حالة عدم التسامح التي تصيب الشعوب مع ماضيها، أو بمعني أدق: عدم قدرة أو رغبة الوعي الجمعي في الوصول لحالة توافق أو وئام، أو حتى قبول مع ماضيه.
لقد لمست هذا بشكل عملي صريح أول مرة عندما كان الدكتور فؤاد زكريا متحمساً للذكرى المئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر في عام 1998، فهاجمه كوكبة من المثقفين المصريين الذين انضم إلى لوائهم مثقفون عرباً، رأوا في موقفه ممالئة للاستعمار وتعظيماً لشأنه، على اعتبار أن نابليون محتل، وقد تفاقم هذا الشعور الرافض فنال من هذا المثقف العظيم، وتطاولت عليه أقلام المثقفين، من كبار القامات ومتواضعي القدرات على حد سواء، فلقد اصطدم فكره مباشرة بالوجدان المصري، الذي أنتمي إليه أنا شخصياً، المعادي لمفهوم الاحتلال، والذي يرفض حتى المساس به، على الرغم من أن الرجل كان رافضاً للاستعمار، شكلاً وموضوعاً، وتشهد مقالاته وكتبه على ذلك. فحقيقة الأمر أن الرجل وافق على فكرة الاحتفال استناداً إلى عدة أسس، أهمها أنه حدث تاريخي منته، يجب أن نقبله على أنه أمر واقع وقع بالفعل، والثاني هو أن مصر كانت بالفعل تحت الاحتلال من قبل الدولة العثمانية، والثالث - ولعله يكون الأهم - هو أن الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي ما كانت لتقوم - أو على أحسن افتراض يؤجل قيامها زمنياً ومضموناً - لحقب طويلة، ولكن المعارضين أبوا أن يتفهموا لأنه في حقيقة الأمر اصطدم مباشرة بعقيدة وجدانية راسخة وهي رفض قبول حقيقة أن الاستعمار قد وقع بالفعل، على الرغم من أن الرجل لم يكن يهدف بتحمسه لإحياء الذكري تدشين تيار مؤيد للاستعمار على الإطلاق، ولكن تدشين نقطة تحول في التاريخ المصري الحديث والمعاصر. وعندما سعى لمحاولة شرح هذا، فوجئنا أنه وضعنا في مصر أمام معضلة وجدانية أو سيكولوجية عميقة، فالحقيقة الثابتة هي أن الحملة كانت بمثابة صدمة كهربائية للوجدان المصري الخامل المستسلم بشكل أو بآخر للاحتلال العثماني الفاسد، ولكن التركيبة صدمت المصريين في نقطة محورية ارتكز عليها الوعي الجمعي، وبدلاً من محاولة تفهم الرجل حتى مع عدم قبول وجهة نظره، انهالت الاجتهادات الغريبة لتدحض الحقائق التاريخية، فخرج علينا المتفلسفون يدعون بأن مصر كانت تشهد بداية ثورة فكرية وعلمية مستترة، لم نلمسها تحت الحكم العثماني المملوكي العقيم، الذي كان في تقديري، ووفقاً لقراءاتي في التاريخ، أسوأ أنواع الاحتلال الذي شهدته مصر، عبر تاريخها الممتد لألفيات، وينافس على هذه المرتبة احتلال الهكسوس والبيزنطيين لمصر، وذلك دفاعاً عن صنم تاريخي زرعناه في أنفسنا؛ من أنه عندما نُحتل من دولة الخلافة في الآستانة، فهو أمر مقبول نسعى لتبريره، حتى لو مثل علينا ويلات الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل لا بد من أن نقدم القرابين الفكرية الممزوجة بالأكاذيب لهذا الصنم العقيم الذي هو من صناعتنا، بالادعاء بأننا كنا أفضل حالاً من أي احتلال غربي، حتى لو أتي كصدمة كهربائية أفاقت الطاقات الكامنة في أرض الكنانة، ودفعتها نحو ضرب عظيم لم تشهد مثله أي دولة في المنطقة، وهذا لا خلاف عليه، فالاحتلال احتلال، ولكن تبرير احتلال لرفض آخر هو أمر يصعب تفهمه.
وحقيقة الأمر أن الصدمة كانت قوية بالنسبة لي، ولم أع أبعادها إلا بعد مرور حقبتين على هذا السجال الفكري، فها قد دخلنا في جدل عابث، أساسه سيكولوجي أكثر منه تاريخي علمي، وقد جاءت كل هذه الأفكار تتزاحم وأنا أنظر إلى مقر إحدى الهيئات الحكومية المهمة في العاصمة الروسية موسكو في أثناء مشاركتي في مؤتمر بها، فرأيت أعلاها المطرقة والسندان رمز الاتحاد السوفياتي، ورغم تقادم الفكر الشيوعي وهذه الحقبة الصعبة من التاريخ الروسي، فإنها جزء لا يتجزأ من ماضيه ساهم في تشكيل حاضره، فلم يسع الروس لطمس هذه الفترة، بل وصلوا إلى حالة وئام نفسي مع تاريخهم، فما من أحد يحن إلى هذه الفترة التاريخية الصعبة هناك، ولكنها جزء من وجدانهم ومكونهم الذي احترموه، فطمس التاريخ مهمة عابثة، وليس على الشعوب إلا قبولها بما فيها من مرارة وسعادة... ألم يأت الوقت لنتسامح نحن مع تاريخنا حتى نستطيع التفرغ لحاضرنا؟



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.