أفكار في زمن {فيسبوك}

بعد إصداره أحد عشر كتاباً في أستراليا، توزعت بين التأليف والترجمة، وأربعة وعشرين عدداً من مجلة «كلمات»، أصدر الدكتور رغيد النحاس، أخيراً، كتاباً جديداً باللغتين العربية والإنجليزية، ضمن منشورات «كلمات» في سيدني، حمل عنوان «بدر»، وضم 96 قصيدة نثر، قدمت قراءة لها الشاعرة المستشارة الأدبية الأسترالية ليات كيربي، التي ترى أن «فلسفة الحب، وماهيته القاطعة، وما يجب أن يطلب من الأحبة، تتمثل لدى النحاس في التناظر الإعجازي بين الطبيعة والكون. ولهذا، فكل الأشياء ذات صلة ببعضها الآخر، أو يمكن أن تتحقق هذه الصلة إذا توفرت الإرادة لدى البشر».
إن الثمار المتوخاة للنحاس في ما كتب، كما تضيف، هي أن «يكون الكل في الواحد، والواحد في الكل، وأن يبقى الحب الأصيل حباً سرمدياً، في وجوده الدنيوي، كما هي سرمدية مدار القمر»، وأن قصائد المجموعة مكتوبة «بمزيج من العاطفة والعزم، اللذين يضخان الحياة في جوهر الأشياء، مع كثير من الظرافة، وحضور دائم للذهن الذي يصور الكل في لوحات راقصة».
وعندما ننتهي من قراءة النصوص، نجد أنفسنا متفقين إلى حد بعيد مع ما ذهبت إليه الشاعرة كيربي، في ضوء قراءتها لهذه المجموعة التي تعتمد التكثيف والإيجاز، وتتزين صفحاتها بتسع صور فوتغرافية بالألوان، التقطتها عدسة الدكتور النحاس، وجاءت متناغمة مع النصوص، لتشكل تجانساً إبداعياً مؤثراً.
وقد حملت المجموعة عنواناً فرعياً باللغة الإنجليزية، هو «أفكار في زمن الفيسبوك». وعندما نقرأ المجموعة، نجد أن موقع التواصل الاجتماعي هذا كان من محفزات كتابتها، ولكن الأهم من ذلك أن نصوصها عكست بين طياتها تجارب حياتية لها خصوصياتها ومغازيها في الحب والحياة، وتمحورت حول مقارنة قصة الحب نفسها بين قرنين من الزمن، مع ما ينتج عن وسائل الاتصال، من البريد التقليدي إلى الإلكتروني، من تأثير على تطور العلاقة. وتصير القصة مداراً شمولياً، تنعكس فيه ومن خلاله عواطف وأفكار، تنطلق من الحب إلى آفاق أرحب، وتتلخص الأزمنة والأمكنة والأحداث في امرأة تغدو محوراً للحياة ومحوراً للكون؛ تدور حول الأشياء، وتدور الأشياء حولها.
وفي تقديمه المركز للمجموعة، يعبر الدكتور النحاس عن قناعته بأن وجه «فيسبوك» سيتغيّر بعد أربع وأربعين سنة من الآن كثيراً، بل ربما سيزول بشكل كامل. ويقدم لنا هنا بطل قصة الحب بالضمير المتكلم، وكيف أنه سبق أنْ تعرف على إنسانة تكبره بثلاث عشرة سنة، يوم كان تلميذاً جامعياً في العلوم، وكانت هي أستاذة في الفلسفة، وكيف كان اهتمامهما المشترك بالشعر يقرب بينهما، على الرغم من أنهما كانا يعيشان في بلدين مختلفين، تراسلا شهوراً كثيرة، ثم انتقلت هذه الإنسانة للعيش في مدينته نفسها، والتدريس في الجامعة التي كان يدْرُس فيها.
ولا يخفي علينا أن ذلك تبعته علاقة حب عارم، وفرت لبطل قصة الحب أجمل أيام حياته، وأن تلك المرأة كانت توأم روحه وصديقته وحبيبة عمره. لكنْ، وفي أحد أيام عيد الحب، أنْهَتْ علاقتهما. ذهب لزيارتها ومعه باقة من الورد الجوري، لتُعْلِمه أن كل شيء انتهى بينهما. واليوم، وبعد مرور أربع وأربعين سنة، ما زال يعاني من خسارتها. كلما استخدم «فيسبوك»، أو «ماسنجر» أو «سكايب»، يتذكر عذاب انتظار رسائلها التي كانت تصله بالبريد التقليدي، ويسأل نفسه أيضاً: «كيف يمكن أنْ تبدأ علاقة وتنتهي خلال أسابيع، مقارنة مع بضع سنين، بفضل التقانة الحديثة؟».
ونجده يلقي أضواءً أكثر على هذا الموضوع في نص نثري نشره على الصفحة 16، تحت عنوان «واحد بالبليون»، يشير فيه إلى أنه كان يتصفح ذات يوم صفحة «فيسبوك» عائدة لصديقة محترمة، وأراد أن ينقر علامة استحسان لما قرأ، فلاحظ أن المنشور حديث العهد، ولم يعلق عليه، أو يستحسنه أحد بعد، فتأهب لأن يكون أول من يقوم بذلك، وكان سعيداً حين سارع إلى نقر أيقونة «لايك». ولكن يا للعجب! في اللحظة عينها التي ظهر فيها اسمه على أنه أول الناقرين، ظهر إلى جانبه اسم حبيبته منذ أربع وأربعين سنة، التي طالما اعتبر أن حبهما، الذي أضاعته، كان فرصة واحد بالبليون.
وينهي هذا النص النثري بقوله: «بإمكانكم تصور دهشتي حين كنت أتوقع أن اسمي سيظهر لوحده، لكنني رأيت الاسم الآخر يتوهج لحظة قبل أن يستقر الاسمان سوياً جنباً إلى جنب. سرني أن كلينا كنا نقرأ ونحب الكلام نفسه؛ هل أقول إن (فيسبوك) وفر لنا فرصة أخرى من بليون فرصة؟».
لقد أصبحت هذه المرأة جسده وسجنه، وهكذا نجده مع اعتذاره من أبي العلاء المعري في مقدمة نص حمل عنوان «رهين المحبسين»، يخاطبها بقوله:
لبستكِ على جسدي جلداً،
صرتُ منه أتنفس.
واستنشقَ ذهني روحكَ شغفاً
زاوَجَت روحي،
فصرت رهين محبسين:
أنا وأنتِ...
سامحني أبا العلاء إن كان محبسي..
حسناء من لحمٍ ودمْ،
فيها أرى الوجود ولا
ألزم منزلاً

ومع حرص الشاعر على أن تكتفي قصائد المجموعة بنفسها، دون حشو أو ترهل، أو استطراد لا ضرورة له، نجد بينها ست قصائد تألفت واحدتها من شطرين فقط، دون أن يطلق عليها تسميات مثل «قصيدة الومضة»، أو «هايكو». ومنها قصيدة بعنوان «الفجر»، جاءت كالتالي:

تستيقظين في ذاتي،
فيكتسب الفجر لوناً آخر

ويخبرنا النحاس أنه أحياناً يكتب بالإنجليزية أولاً، وأحياناً بالعربية. وبعد ذلك، يكتب الأفكار نفسها باللغة الأخرى، ولهذا لا يمكن اعتبار أن كل نسخة هي مجرد ترجمة عن اللغة التي كتبت القطعة فيها أصلاً. وهو يعتبر أن هذه الطريقة، على كل حال، هي المثلى في النقل الأدبي من لغة إلى أخرى، إذا أردنا اعتبارها ترجمة.

* شاعر عراقي