الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

يشمل برامج تعليمية ومبادرات أهلية

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
TT

الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)

لا يبدو تجول طفل بثياب صومالية تقليدية في «مول أوف أميركا» بمدينة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، نافراً بالنسبة لهذه الولاية، حيث يعيش عشرات الآلاف من المهاجرين من الصومال. فقد تجاوز أميركيون كُثُر هنا عقدة الخوف من الآخر، والمسلم تحديداً. كذلك يحاول المهاجرون تخطي الشعور بالاختلاف عن الأميركيين، ذلك أن البرامج التي وضعتها الهيئات الحكومية، مستهدفة إصلاح البيئة الاجتماعية بمفهومي التربية وتعزيز الاندماج، بدأت تؤهل الطرفين لتخطي الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول دون الانخراط الاجتماعي، وهو ما انعكس على تثبيت الأمن، وسهل عمل الحكومة الأميركية لمكافحة «التشدد العنيف».
بخلاف كثير من الولايات الأميركية التي تحدث الإعلام عن أنها شهدت تأزماً في العلاقة بين المهاجرين والسكان المحليين، لا يظهر هذا التأزم في مينيابوليس، عاصمة ولاية مينيسوتا، حيث يمكن أن يطالعك مسؤول محلي بـ«الاعتذار» عن إساءات تعرض لها مهاجرون، بينما في مدينة دنفر، عاصمة ولاية كولورادو، ثبت أميركي على مدخل منزله لافتة يتوجه فيها لجيرانه المهاجرين من العراق والمكسيك: «لا يهم من أين أتيتم... نحن سعداء كونكم جيراننا».
وفي الواقع، لم تعتمد الولايات المتحدة المقاربة الأمنية بشكل أساسي لمواجهة التطرف على أراضيها، خلافاً لاستراتيجية التدخل في الخارج عبر جهود «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب»، العامل في العراق وسوريا، إذ تتبع الحكومة برنامج «مكافحة التطرف العنيف»، المقصود به «الجهود المحلية في الولايات المتحدة لمنع تجنيد التنظيمات الراديكالية للأفراد للقيام بالعنف».
وتعتمد البرامج على استراتيجية «الاندماج الاجتماعي»، إذ تعمل على الإحاطة بملفات المشتبه بتشددهم، عبر مقاربات اجتماعية، أهمها التربية واستخدام الضغوط العائلية والصداقات في البيئة التي يتحدرون منها، وكذلك المقاربة الاقتصادية لناحية توفير ظروف العمل، فضلاً عن المقاربة الإعلامية لمكافحة الدعاية والمعلومات الخاطئة التي تبثها التنظيمات الإرهابية في العالم والدول الأجنبية.
ولعل اجتماع المقاربات الثلاث، وتكافلها في جهود متحدة، نجح إلى حد بعيد في إبعاد الجانحين إلى التطرف عن جبهات القتال، وعن الانزلاق إلى أعمال إرهابية في الداخل. وتثبت الأرقام نجاح هذه الاستراتيجية، إذ لا يتجاوز عدد الأميركيين الذين ارتادوا جبهات القتال في سوريا والعراق والصومال إلى جانب تنظيمات متشددة، العشرات.
- تدريب ضد التطرف
لا يخفي الأميركيون أن عدداً من الأفراد، من المواطنين والمقيمين، انخرط في نشاطات التطرف العنيف، واستلهموها من تنظيم القاعدة وآيديولوجيته. وقد وجدوا من المهم جداً أن تتدرب هيئات إنفاذ القانون على فهم وملاحقة السلوك الإجرامي الذي تحفزه الآيديولوجيا، والعمل مع المجتمعات المحلية والهيئات الرسمية لمكافحة التطرف العنيف في الداخل. وعليه، أنشأت وزارة الداخلية، بالشراكة مع مركز مكافحة التطرف الوطني، «مجموعة عمل أمني» لحشد أفضل التجارب للتدريب على مكافحة التطرف العنيف. وجهزت المجموعة دليلاً يستفيد منه مسؤولو هيئات إنفاذ القانون، وعلى مستوى فيدرالي ومستوى الولايات، أولئك العاملون على مكافحة التطرف العنيف، لتعزيز ثقافة التوعية والتدريب على مكافحة التطرف.
والواقع أنه قبل عام 2016، لم يكن هناك تركيز مركزي على جهود مكافحة التشدد العنيف بأسلوب الإحاطة الاجتماعية. فالاستراتيجية كانت تعتمد على جهود غير مركزية. وبعدما باتت استراتيجية عامة، ضمن سياسات عامة في البلاد، جرى تنظيمها بهدف تعزيز التوعية، بالنظر إلى أهميتها على المستوى الاجتماعي. وتقوم الاستراتيجية على 3 ركائز لمقاربة هذا الملف في داخل الولايات المتحدة: أولها تمكين المجتمع، وتعريفهم بطريقة توجيهه بغرض «مكافحة التطرف العنيف»؛ وثانيها توجيه الرسائل التي تحيط بالأسباب والموجهين لهذا السلوك العنيف، والتركيز على النظام في الولايات المتحدة ومقاربة الحكومة لمكافحة التطرف، فضلاً عن الإحاطة بالمفهوم العام لهذه الاستراتيجية.
- شركاء محليون
ولا تتسم الاستراتيجية بمفهوم ثابت، كونها تعتمد على متغيرات مرتبطة بالمجتمع وطبيعته، والبلد الذي تنطلق منه. ويؤكد المنخرطون في هذه الاستراتيجية أنها منفصلة عن الجهود المرتبطة بـ«إنفاذ القانون». ففي الولايات المتحدة، ثمة أشخاص يظهرون اهتماماً بإعادة تأهيل الجانحين للتطرف، ومنع هؤلاء من الانخراط في أعمال مشبوهة، بما يتخطى اللجوء إلى الشرطة فوراً. ويؤسس النموذج القائم لشراكة اجتماعية تساهم إلى حد كبير في قيام حواجز ضمن البيئة الاجتماعية لمنع الانجراف إلى التطرف. ووضعت عدة خطوات ونشاطات تستطيع أن تساعد في تنفيذ تلك البرامج، مثل انخراط الفئات الاجتماعية بها، كل في مدينته وبيئته. وتتم العملية وفق آليات التوعية الاجتماعية، والتمارين لتحييد الجانحين عن الانخراط في النشاطات المشبوهة، إضافة إلى ندوات، يكون القائمون عليها من قادة الرأي، كرجال الدين والمدرسين والأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي. وتتم آليات التدريب على الاستجواب لمعرفة علامات التشدد، وماذا يشاهدون، والعملية التي يمكن اتباعها، بالنظر إلى أن المشتبه بهم هم حالات حقيقية موجودة في المجتمع.
- جهود إعادة الدمج
ويمثل التدخل الاجتماعي على خط التوعية، وإعادة التوجيه والتأهيل، الحلقة الأولى والأهم في برنامج مكافحة التطرف العنيف. وقد نجحت إلى حد كبير لجهة إعادة دمج الأفراد الجانحين للتشدد في المجتمع. ولم يسجل خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 100 فرد، استدعت حالاتهم تدخل الشرطة، وهم اليوم في السجون الفيدرالية، ليس بتهم الانزلاق لأعمال إرهابية، بل بتهم متعلقة بتوفير دعم مادي للإرهابيين، وتمويل أعمال مفترضة.
ويقول العاملون في هذا القطاع إن الهدف حماية المسلمين الأميركيين من التأثيرات الخارجية المشجعة للتطرف، بموازاة حماية الحقوق المدنية وحرية الرأي والاعتقاد المكفولة في القانون الأميركي، مؤكدين أن «هناك رغبة عامة اجتماعية بالالتحاق بتلك البرامج، وهي أولوية بالنسبة لنا»، ويشددون على أن «تحقيق الأمن الداخلي يبدأ من الداخل، من المجتمع». وعليه، بدأت عملية بناء الحلول الاجتماعية.
ويؤكد المطلعون على هذه الاستراتيجيات أن العائلات تضطلع بأدوار مهمة جداً في إحباط محاولات الأفراد للانخراط في التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أن مهمة مكافحة الإرهاب تعتمد على الانخراط والتواصل الذي أوصل الرسائل التي تؤكد أن الرقابة تركز على تصرفات الأفراد، ولا تستهدف الإسلام أو المسلمين الذي يشعرون بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية، بالنظر إلى أن حرية المعتقد يكفلها الدستور، فضلاً عن أن فرص تواصلهم مع المؤسسات الحكومية متاحة. فهيئات إنفاذ القانون تربطها علاقة مع المجتمع، كذلك المنظمات الحكومية التي تعمل على المجتمعات مع مراعاة خصوصياتها، ويجري التواصل في إطار «انخراط اجتماعي». والمقصود في العملية الأخيرة هو الجهود لانخراط المهاجرين واللاجئين في المجتمع. ويقول المعنيون إن الحكومات الأميركية المتعاقبة «أثبتت فعالية في توفير انخراط فعال للأفراد في المجتمع، وتأمين كل ما يحتاجونه بهدف إنجاح المهمة»، مشددين على أنها «عملية مستمرة». وينفي هؤلاء في الوقت نفسه أن تكون قد طرأت أي تغييرات على تلك الجهود بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة.
- مبادرات اجتماعية
وثمة كثير من المبادرات التي يقودها متطوعون من الأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي لإعادة تأهيل ذوي الميول المتشددة. وفي واشنطن، هناك مبادرة تعمل في سياق التكافل الاجتماعي لتعزيز الاندماج، بينها مبادرة لإعادة تأهيل الحياة بعد السجن. ويقول العاملون في هذا الميدان إن 8 من أصل 10 حالات أعيد تأهيلها بنجاح. وفي ما يخص الذين ارتكبوا جرائم على خلفيات آيديولوجية، يؤكد المتطوعون أن الحكومة تكفل حرية التعبير، ولا تصنف هؤلاء على أنهم ارتكبوا جرائم بسبب قناعات آيديولوجية. ويجري التأهيل بالاعتماد على القوة الاجتماعية، وتمكين المجتمعات المحلية لمكافحة هذا النمط من التفكير الآيديولوجي.
وفي إطار الرغبة في بناء نموذج تعليمي يحمي من التشدد، نظم فريق من الطلاب حملات إلكترونية في موقع «فيسبوك» لأسابيع، يظهر المقاربة الأميركية لجهود مكافحة التطرف، ويؤكد أن الشباب يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
وعلى المنوال نفسه، نجحت مبادرات أخرى في مينيابوليس في تحقيق الاندماج، على الرغم من أن تعقيدات تحيط بالمهمة في المدينة التي تضم آلاف المهاجرين، بينهم 250 ألف صومالي تقريباً، ويعاني معظمهم من البطالة والفقر، لكن الارتباط العائلي والاجتماعي للصوماليين سهل كثيراً فرص مكافحة التطرف وفق آليات الضغط الاجتماعي لإبعاد الشباب عن التطرف. ويُعمل أيضاً على تثقيف الأمهات اللواتي يمثلن الحاضنة الأساسية وحاجز الدفاع الأول ضد التشدد عبر التربية في المنزل.
- جهود لتعزيز الحوار
وإلى جانب التعاون الذي ظهر بين هيئات إنفاذ القانون والمجتمع، ظهرت مبادرات تعليمية وتثقيفية، بينها «آفيريدج محمد» Average Mohamed، التي تنطلق في منصات إلكترونية لتعزيز الحوار، وتكريس العلاقات الإنسانية، بمعزل عن العرق والدين. والمبادرة التي أسسها محمد أمين أحمد، المهاجر من الصومال منذ أكثر من 20 سنة، تهدف إلى حث الآباء والأمهات والأطفال ورجال الدين على تعزيز الوسطية والاعتدال، لمكافحة الدعاية والخطاب المتطرف الذي يحاول المتطرفون بثه، كما يكافح خطاب العنصرية والتعصب. ويقول مؤسس الموقع إن رسالته «عالمية»، وينشر الفيديوهات التعليمية التي يشاهدها كثيرون في أوروبا وأفريقيا، ويشير إلى أن العلاج بالفيديوهات «وسيلة ناجعة، وقد أثبتت أن الكثيرين متأثرون بقيم الاعتدال، ويؤيدون نبذ الكراهية، ويدينون التشدد»، مؤكداً أن كثيراً من الجيل الجديد «يتصرفون الآن على أنهم أميركيون، وتحللوا من عصبية الانتماء للصومال».
- مبادرات دعم اقتصادي
تمثل مبادرة Community Service Officer (ضابط خدمة المجتمع) واحدة من جهود أساسية تبذلها مينيابوليس لتحقيق أفضل عملية دمج للمهاجرين، بالنظر إلى أن الولاية تضم عشرات آلاف المهاجرين الصوماليين الذين وصلوا خلال 3 موجات من الهجرة منذ مطلع التسعينات. وهي مبادرة مدعومة رسمياً لتوظيف المدنيين في المؤسسات الرسمية، بينها مؤسسات إنفاذ القانون، وتهدف إلى تعزيز الكفاءة الأهلية للقيادة. وتوفر المبادرة مساعدة ليدخل المنتسبون إلى الشرطة أيضاً، وتقدم تسهيلات ودعم وتأهيل لتحقيق خطوات الدمج، وقد نجحت في مراحلها الأولى في إدخال عدد كبير من الأميركيين من أصول أفريقية وآسيوية إلى الشرطة، بينهم ضباط، والتحق نحو 25 ألفاً بالقوى العسكرية والمدنية التابعة للحكومة.
والبرنامج جزء من عدة برامج لتحقيق الاندماج، اقتصادية واجتماعية، إذ وفرت الحكومة الفيدرالية تمويلاً لبرامج متصلة بالشباب في المجتمع الصومالي، الذي لا يزال يحتاج إلى كثير لجهة الدعم بالتعليم واللغة، وينطلق من قناعة بأن «قوة الولايات المتحدة بالمؤسسات الدستورية والتعليمية».
وفيما يبدو اللاجئون متشابهين هنا لناحية ظروفهم المادية ومعاناتهم من الفقر والبطالة والصعوبات التي يواجهونها على صعيد اللغة، تساعد المجتمعات الأهلية الحكومة على الدعم لتحقيق الاندماج. ويؤكد المعنيون في تلك البرامج أن اتصال المهاجرين بالوظائف، كما ارتباطهم بالعائلة، يقلل من فرص محاولات تجنيدهم، وهو ما نجحت المدينة به وتجاوزت تداعيات العزلة والتجنيد في صفوف الجماعات الإرهابية.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.