من التاريخ : كازان على جسر التاريخ

من التاريخ : كازان على جسر التاريخ
TT

من التاريخ : كازان على جسر التاريخ

من التاريخ : كازان على جسر التاريخ

شاءت الظروف قيامي بزيارة لمدينة «كازان» عاصمة جمهورية «تتارستان»، وهي جمهورية داخل روسيا الاتحادية تتمتع بخير كثير وثروات ليست فقط طبيعية ولكن ثقافية على حد سواء. وبمجرد أن تعانق هذه المدينة زائرها فإنه يشعر وكأنه يقف على جسر، ولكن ليس الجسر التقليدي بل جسر مختلف، فطبيعتها جسر، وثقافتها جسر، وشعبها جسر، فلقد ذكرني أول مشهد لها بمدينة جنيف السويسرية، فهي تحتضن بحيرة آية في الجمال تصل لثمانية كيلومترات في طولها، ويلتقي في نهايتها أو أولها نهر «الفولغا» الشهير وهو أطول الأنهار الأوروبية. من ناحية أخرى فهي جسر تاريخي لكونها منطقة تماس ثقافي بين الحضارة الإسلامية والقبائل الروسية والمغولية، فهي ساحة للمد والجذر بين ثلاث أمم، لكنها تعيش اليوم في هدوء عرقي وديني تُحسد عليه، ولو طبقنا نظرية صراع الحضارات (لصموئيل هنتنغتون) عليها لكان من المفترض أن تكون هذه المدينة مرتعا للصراعات العرقية والدينية ومشهدا لسيولة الدماء، ولكن هذا لم يحدث هناك، فالمآذن تعانق الكنائس، ولا تغيب عن العين حقيقة وجود وجوه وثقافة مختلطة تعكس روح هذه المدينة.
يمكن إرجاع تاريخ هذه الجمهورية إلى القرن السابع الميلادي، عندما هاجرت مجموعة من القبائل البلغارية إلى هذا الموقع وأسسوا دولة الـ«Volga Bulgaria»، حيث استطاعوا بناء دولة لهم تقوم على التجارة والزارعة والرعي، وكانت «كازان» أحد أهم مراكز هذه الدولة، وهي المدينة التي احتفلت منذ أيام قليلة بدخول الإسلام إليها عام 922 ميلاديا على أيدي أحمد بن فضلان، أحد الدعاة الذين أرسلهم الخليفة العباسي «المقتدر» ليفقهوا الناس بالإسلام وينشروا تعاليمه. لكن حقيقة الأمر أن الإسلام قد سبق هذه البعثة في هذه المنطقة، فنظرا لوجود مدينة «كازان» على أكبر نهر أوروبي وكونها من أكبر مراكز التجارة في شرق أوروبا وشمال القوقاز، فإنها استقبلت الإسلام من خلال التجار المسلمين، وبدا واضحا وجود أرضية خصبة لاعتناق هذا الشعب للإسلام، وهو ما تم بيسر نسبي.
وقد استمرت هذه الجمهورية لبعض الزمن حتى سقطت هذه الدولة في أيدي المغول عام 1238، حيث ضمت للإمبراطورية المغولية وأصبحت تابعة لها، وعندما تقسمت الدولة المغولية أصبحت هذه الدولة جزءا مما هو معروف بالقبائل الذهبية (Golden Horde)، أحد الأفرع الأساسية للدولة المغولية، وقد شهدت هذه الفترة استيطان الكثير من القبائل التركية والمغولية هذه المنطقة، وهو ما أضفى اسم «تتار» عليها، وقد استقلت هذه الجمهورية في منتصف القرن الخامس عشر بعدما سقطت القبائل الذهبية، وقامت على أنقاضها «إمارة كازان».
لم يكتب لهذه الإمارة أن تعيش طويلا، إذ سرعان ما بدأت موسكو تفرض سيطرتها على هذه المنطقة بالكامل بعدما اشتد أزر القياصرة، فانتهى الأمر بقيام القيصر «إيفان الرهيب» عام 1522 بغزو هذه المدينة وأعاد بناء مدينة «كازان» بعد تدميرها، وكان أول قرارات هذا القيصر محاصرة الإسلام، فأمر بهدم المساجد ولم يسمح ببناء غيرها، كما أنه وضع العديد من المعايير لكي تحافظ الطبقة الأرستقراطية التتارية على امتيازاتها، منها التحول للمسيحية والتعميد الجبري، كما أنه قام بنقل كل المسلمين إلى خارج المدينة في مستعمرات حولها، وأي زائر لهذه المدينة يستطيع أن يرى بقايا هذه المستعمرات بعدما جرت إعادة بنائها، وهي تعد في حقيقة الأمر رمزا لصمود شعب أمام محاولة طمس الهوية من خلال القيود المفروضة من الفاتح على الشعب المغلوب على أمره، وقد استمرت هذه القوانين حتى قامت «كاترينا الكبرى» برفع هذه المظالم عن المسلمين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لكن سرعان ما تعرض هذا الشعب لألوان أصعب من الكبت الثقافي لهويته على أيدي النظام السوفياتي الذي حظر الإسلام بوسائل قمعية متشددة لم تخف إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي.
ولا يمكن للمرء أن يعبر التاريخ في مدينة كازان دونما تأمل «جامعة كازان الفيدرالية» التي تعد رمزا آخر لعظمة هذه المدينة، فأبنيتها تكاد تكون متناثرة في كل بقاع المدينة، كما لو أن هذه المدينة مبنية لاحتوائها، فهذه الجامعة العريقة تعد من أقدم الجامعات، فهي ثاني أقدم جامعة في روسيا، تم إنشاؤها عام 1804 بقرار من القيصر الإسكندر الأول، وكانت مركزا لاستيعاب الكثير من العلماء والمفكرين الروس، فهي الجامعة التي تجمع فيها العلماء السوفيات من أجل صناعة القنبلة الذرية في عهد ستالين، وفيها درس أيضا الشاب «فلاديمير إيليتش أوليانوف» أو «لينين» قائد الثورة الروسية، وله تمثال كبير في المدينة وهو شاب يخطب، كما أن نفس هذه الجامعة استضافت أيضا الطالب «ليو تولستوي» أشهر الكتاب الروس على الإطلاق في ما بعد، لكن من المستغرب له أن الاثنين تم فصلهما، لينين لميوله الثورية بعد أربعة أشهر من انتظامه بالدراسة، أما «تولستوي» فقد تم فصله لضعف قدراته الأكاديمية ورسوبه المتكرر! وفي مُتحف الجامعة نجد رسالتين بخط تولستوي، ليس من أجل كتابة صفحة أدبية عظيمة، ولكن لاستجداء عميد كلية العلوم الشرقية ليمنحه فرصة أخرى قبل الفصل!
لكن هذا التداخل المستمر لكل من يجوب هذه المدينة لا يقف عند حد شكلها وأعراقها وثقافتها الممتدة، بل في معمارها أيضا، فداخل ساحة الكرملين بجوار القصر الجمهوري المهيب نجد برجا لا بأس به من الارتفاع في طراز معماري جميل اختلطت فيه الأسطورة بالمعمار بالتاريخ، فهو مائل بعض الشيء مثل برج «بيزا»، لكن ليس في حجمه على الإطلاق، ويقال إن «إيفان الرهيب» عندما فتح المدينة وجعلها حصنه الجنوبي ضد الدولة العثمانية، أراد الزواج من إحدى أميرات بيت حاكم الإمارة المهزوم، لكنها لم تكن راغبة في ذلك وفي الوقت نفسه غير قادرة على الرفض، وبالتالي طلبت منه أن يبني لها هذا البرج، وعندما اكتمل بناؤه وجاءت لحظة الحسم فلم تستطع الأميرة أن تفي بوعدها فآثرت الانتحار قفزا من أعلى نقطة به بدلا عن الزواج من القيصر، وهكذا يسهُل على المرء أن يقف تائها بين الحقيقة والأسطورة، وبالتالي يصبح هذا البرج رمزا إما للمعمار الجميل أو للطراز الثقافي المختلف، أو رمز الوفاء للحب إن كان موجودا من الأساس! والأمر في النهاية متروك للزائر أو للقارئ.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.