بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

المركز التجاري الأول في ليبيا ومقر الشركات النفطية الكبرى تعيش شللا شبه كامل

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب
TT

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

«هذه ليست بنغازي التي نعرفها.. تحولت رغم أنفها إلى مدينة كبيرة للإرهاب.. لم نخرج من أجل هذا على نظام (العقيد الراحل معمر) القذافي، نحن موجودون هنا ونرى الطرفين ولا نرى أي حسم على المدى القريب لأي طرف». هكذا وصف فرج، أحد سكان تلك المدينة القابعة في شرق ليبيا، ما يحدث هناك، مفضلا عدم ذكر بقية اسمه خوفا على حياته.
الحديث هنا عن بنغازي، تلك المدينة الساحلية التي عصف بها القتال وأصيبت الحياة العامة فيها، وهي قاعدة لشركات نفطية، بجمود شبه كامل، منذ أعلن اللواء السابق بالجيش الليبي خليفة حفتر حربه على المتشددين الإسلاميين.
تعكس هذه المشاهد المتناقضة صورة حقيقية للواقع العسكري والأمني الذي تعيشه بنغازي، ثانية كبريات المدن الليبية ومهد الانتفاضة الشعبية التي دعمها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. وبعد مرور بضعة أسابيع على عملية «الكرامة» التي حظيت بزخم إعلامي وتأييد شعبي واسع النطاق خاصة في بنغازي، التي كانت مسرحا لعمليات قتل مستمرة استهدفت ضباط الجيش والشرطة والناشطين السياسيين والإعلاميين، فإن الاستراتيجية التي تتبعها قوات حفتر في قتال المتشددين، تبدو بطيئة نسبية مقارنة بتطلعات رجل الشارع العادي الذي يطمح إلى الخلاص من القبضة الحديدية التي يفرضها جيش مختلط من الإسلاميين المتطرفين على المدينة.

قال أحد الإعلاميين في المدينة لـ«الشرق الأوسط»: «حفتر يريد عزل المتطرفين بالضواحي، خاصة معقلهم الرئيس القوارشة. إنه يسعى للدخول من منطقة سيدي فرج - الهواري لعزل مجموعة («أنصار الشريعة») بمعقلهم الرئيس الذي يتمركزون فيها وبالتالي إبعادهم عن المدينة نفسها والتكفل والتعامل مع أي مجموعات أو خلايا أو جيوب داخل المدينة، خاصة حي الليثي، بمعاونة السكان». وأضاف: «ومن ثم حصار «أنصار الشريعة» بالقوارشة واستنزافهم وربما الضغط عليهم للخروج باتجاه منطقة المقزحة التي تعد منطقة مزارع وشبه جرداء».
ويتضح من خريطة عسكرية اطلعت عليها «الشرق الأوسط» إصرار حفتر على ضرب قصر ولي العهد ومعسكر «17 فبراير» في منطقة قاريونس، وكتيبة راف الله السحاتي حتى آخر منطقة الهواري وتحديدا الدوار الشهير بدوار مصنع الإسمنت للسيطرة على الطريق الحيوي «الهواري- سيدي فرج» الذي يصل لطريق المطار.
يعتقد كثيرون أن هدف حفتر هو عزل مناطق بنغازي المأهولة بالسكان والتي يتحصن فيها المتطرفون، خاصة تنظيم ««أنصار الشريعة»»، علما بأن لدى حفتر موالين وقوات بالمناطق القريبة من القوارشة من ضمنها المقزحة - سلوق وغيرها، التي تشكل بدورها طوقا آخر على القوارشة وصولا للرجمة المتمركز فيها حاليا.
ويبدو من الخريطة أيضا أن حفتر يريد إخراج كتيبة «17 فبراير» من قاريونس والسيطرة على مقر كتيبة «21 صاعقة» من قبل «أنصار الشريعة» للحصول على معسكر حصين وراء الخط وفي عمق بنغازي.
وشنت مقاتلات حفتر عدة هجمات صاروخية على مواقع لتمركز المتطرفين في المدينة في محاولة لإجبارهم على الخروج من مخابئهم القريبة من السكان.
وقال أحد السكان لـ«الشرق الأوسط»: «الآن صاروا خارج بنغازي مع حملة دعاية إعلامية للتأثير على الرأي العام ضدهم على نحو يجعلهم غير مرتاحين ببنغازي، وهذا حدث بالفعل.. هم الآن بكامل عدتهم وعتادهم موجودون في القوارشة، لقد وقعوا في الفخ».
لكن طيران حفتر يصر على قصف المعسكرات ولا يقصف القوارشة، بسبب عدة مخاوف لعل أبرزها أنه سيكون مضطرا للتدمير لكي يصل إلى مرحلة السيطرة كما قال مصدر عسكري لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا: «سيواجه قوة كبيرة على الأرض لكي يسيطر. حفتر لن يستطيع السيطرة إلا إذا دخل عنوة للمدينة، وليس له إلا طريق واحد من جهة معسكر الصاعقة وسيواجه في طريقه الليثي، أما بقية المناطق فتتمركز فيها قوات متفرقة».
وتابع: «ببساطة يدمر لكي يسيطر، وأعتقد أنه لا يريد ذلك لأن البنغازية (سكان بنغازي) متقلبو المزاج. سيقاتلونه إن وقع ضحايا وسيخسر الدعم الشعبي والقبلي، وربما هناك اتفاق على ألا يضر المدينة». ومع لجوء حفتر إلى ماكينة الدعاية والحرب الإعلامية لتأجيج الرأي العام ضد خصومه، فإن لديه كما تقول مصادر في بنغازي عدة فرق تعمل داخل المدينة بشكل غير معلن على خطف وقتل كل من له علاقة بالميليشيات و«أنصار الشريعة». وقال ناشط إعلامي رفض تعريف هويته خشية تعرضه للانتقام: «أجل كثيرون اختفوا، وقتل ثلاثة حتى الآن محسوبون على (أنصار الشريعة). لاحظنا اختفاء كثيرين منذ بدء العمليات، خاصة صغار السن. البعض أطلق سراحه». وتابع: «المعلومات الواردة تقول إنهم يقادون إلى سجن قرنادة شرق بنغازي بالجبل الأخضر تحت سيطرة حفتر الذي سبق أن صرح في مؤتمره الأخير أنه سيستخدم أساليب خصومه للقضاء عليهم».
وأضاف: «بالتأكيد لديه قوة كبيرة، والإسلاميون أيضا قوة كبيرة لا يستهان بها، وبالتالي فإن أسلوب حرب العصابات والشوارع ليس في صالح قوات حفتر، لأن الإسلاميين خبراء فيها». وخلصت ناشطة إعلامية في بنغازي إلى القول: «حفتر يفتقد القدرة على حسم المعركة في بنغازي. الأمر صعب للغاية. الجماعات المتطرفة ما زالت داخل المدينة، وبصراحة هم الأقوى، ولا تنسى أن السلاح والمال عندهم».
وبينما تمضي الحياة في بنغازي التي تعيش نكهة الحرب منذ سقوط النظام السابق، فإن التساؤلات حول إمكانية انتقال عملية الكرامة إلى العاصمة الليبية طرابلس تبقى الأهم في ظل احتفاظ ميليشيات إسلامية بكل عتادها وأسلحتها في مواجهة جيش رسمي مفكك وضعيف البنيان.
ثمة صعوبات في أن تكون طرابلس الوجهة المقبلة لقوات حفتر، وكما قال صحافي ليبي في المدينة طلب عدم تعريفه، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب، أهمها تمركز الإرهابيين بين السكان، وضعف العتاد العسكري، فضلا عن الإمدادات التي تصل إلى «أنصار الشريعة» من مصراتة، مشيرا إلى أن تسليح حفتر أقل بكثير من تسليح «أنصار الشريعة». وهنا تروق لكثير من الليبيين فكرة المقارنة بين حفتر والرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، حيث أضاف الصحافي: « لم ينجح السيسي دون دعم شعبي وإعلامي ونخبة تسانده،
وهذا غائب حتى الآن، لأنه ببساطة لا توجد في ليبيا نخبة.. عندنا نكبة، بتذكرة طائرة تشتري أتخن رأس نخبوي» لكن ثمة خلاف حول عملية «الكرامة» حتى داخل من يفترض به أن يؤيدها، لهذا فإن حفتر من وجهة نظر الصحافي نفسه «يسير على حقل ألغام، فما زال هناك خلاف داخل الجيش، وعلى سبيل المثال، فإن آمر قاعدة طبرق مثلا حتى الآن متردد في الانضمام إلى عملية (الكرامة)». وبالإضافة إلى ذلك، فإن قنوات فضائية محلية تتبنى الخط الليبرالي لا تدعم حفتر وإن كانت تدعم فكرة الحرب على الإرهاب.
وهو يعتقد أنه ليست لدى حفتر القدرة على نقل معركته لطرابلس التي تعد عمليا مقسومة إلى جزأين، الشرقية تحت سيطرة «القاعدة» بكل أسمائها، والقاعدة العسكرية تقع تحت قبضتهم وكذلك البحرية، أما الغربية فهي تحت سيطرة الزنتان بتحالفاتها المصلحية المؤقتة جدا وليسوا فريقا واحدا.. ولديهم مشكلات مع الأمازيغ في ظهرهم.. و«القاعدة» في بوسليم أمامهم.
استراتيجيا، قال محلل عسكري ليبي لـ«الشرق الأوسط»: «يدرك حفتر تماما أن الزمان لم يعد الزمان نفسه، وأن تغييرات كثيرة لحقت بقواعد واستراتيجيات العمل العسكري الذي ابتعد عنه لأكثر من 20 سنة كانت كفيلة بتحويل المؤسسة العسكرية الليبية التي كان هو أحد قياداتها يوما من الأيام إلى أنقاض مؤسسة ليختتم مشوار تهالكها بدخولها طرفا في الصراع المسلح الذي صاحب ثورة «17 فبراير» ضد نظام العقيد القذافي. وأضاف: «خرجت المؤسسة العسكرية أو ما تبقى منها من العقود الأربعة بوحدات عسكرية ذات طابع أمني أطلق عليها اسم (الكتائب الأمنية) حلت محل ما كان يفترض أن يكون ركن القوات البرية الذي يرى حفتر أنه الأجدر برئاسته، والأدهى من ذلك أن عددا كبيرا من قادة هذه الوحدات العسكرية جرى اختيارهم لأسباب تتعلق بالولاء الشخصي للعقيد القذافي».ولفت إلى ما جرى عقب ثورة «17 فبراير» وما وصفه بالسيلان الضخم للأسلحة والذخائر والدور الذي لعبته العلاقات الاجتماعية «القبلية» في تنظيم التشكيلات العسكرية والميليشيات وصراعات النفوذ والمصالح القبلية. وأضاف: «حفتر ينتمي إلى قبيلة الفرجان أكبر القبائل الليبية وأحد فروع قبيلة ترهونة، وخلال عقود كان أغلب المجندين في القوات المسلحة الليبية من أبناء هذه القبيلة، وعدد كبير من قيادات الجيش الليبي ينتمون إلى هذه القبيلة». صحيح أن حفتر محسوب على الشرق الليبي. إلا أن قبائل الشرق الليبي الأصيلة أو الأقدم عهدا كالعبيدات والعواقير والمغاربة والبراعصة والتي كانت تمتهن حرفتي الرعي والزراعة وتشتهر تسميتها بـ«البوادي»، ترى أن القبائل الوافدة من الغرب مثل ورفلة والفرجان ومصراتة قد أضرت إلى درجة ما بالمصالح الاقتصادية لهم خاصة مع اكتشاف البترول الذي كان أغلب إنتاجه من الشرق الليبي.
وهكذا، فالمشهد في ليبيا معقد إلى درجة كبيرة، فيوجد تنافس على المناصب العليا في قيادة الجيش الليبي يكاد يكون منحصرا في قبائل بعينها مثل العبيدات الذين ينحدر منهم اللواء الراحل عبد الفتاح يونس وعبد السلام جاد الله الصالحين وسليمان محمود، والفرجان الذين ينحدر منهم الجنرالات عمر الحريري وخليفة حفتر وهؤلاء هم أصحاب الرتب الأعلى في الجيش الليبي.
في المقابل، ينتشر الإسلاميون في أوساط بعينها خاصة في المحسوبين على مدينة مصراتة أو المنتمين لها، ولعل كون أغلب قيادات هذا التيار من هذه المدينة يدلل على ذلك بوضوح، وهو ما قد يكون مبررا بعد أكثر من 500 عملية استهدفت عناصر الجيش الليبي، لأن يسارع من تبقى من قيادات هذه المؤسسة إلى تبني عملية عسكرية مضادة قادها حفتر، إلا أن المعطيات على الأرض تفرض سيناريوهات مختلفة.
وعلى الرغم من أن أصابع الاتهام تشير في كل العمليات التي استهدفت أفراد المؤسسة العسكرية إلى التيار الإسلامي، فإن التصدي لهذا التيار يفرض المواجهة مع حاضنته الشعبية سواء في بنغازي أو في درنة، علما بأن معظم أفرادها من تركيبة قبلية واحدة.
ويقول الخبير العسكري: «هذا لا يعني أن كل القبيلة توافق ضمنا على ما يقوم به بعض من أبنائها أو المحسوبين عليها، لكن هذا واقع الحال، أضف إلى ذلك تمترس قيادات هذا التيار واحتفاظه بكميات هائلة من الأسلحة والذخائر». وتابع: «يدرك حفتر بحكم خبرته العسكرية أن العمل العسكري الذي يقوم به لن يكتب له النجاح ما لم يتمكن من استنزاف كل الذخائر الموجودة في يد تلك الجماعات، لهذا لجأ إلى الحل الأكثر تفوقا، وهو سلاح الطيران».
ومع محدودية عدد الطائرات ومحدودية ذخائرها، نظرا لأن سلاح الطيران كان من الأسلحة التي أهملت في زمن العقيد القذافي، سيكون العمل كما يرى الخبير نفسه محصورا في استهداف مخازن الذخيرة لهذه المجموعات، وهو العمل الذي يستوجب أن يتزامن مع عمل استخباراتي على الأرض لرصد أماكن هذه المخازن وجمع المعلومات ومن ثم القيام بالإغارة عليها.
وخلص إلى أن «هذا الأمر سيؤدي إلى إطالة أمد العمل العسكري، وبالتالي زيادة احتمالات انهيار العملية برمتها، لأن الانتقال إلى مرحلة الصدام على الأرض قد تستلزم زمنا طويلا، وفي الوقت نفسه سيتبعها اندلاع صدام مواز مع الحاضنة الشعبية لكلتا المجموعتين». لكن قد يكون أهم هدف تحقق لعملية «الكرامة» أنها أوقفت الاستهداف اليومي لأفراد الجيش الليبي وإن بشكل مؤقت، فطبقا لما أعلنه بيان رسمي للقيادة العامة لجيش حفتر، فقد تراجعت نسبة اﻻغتياﻻت في بنغازي بنسبة تتجاوز 89 في المائة بعد إعلان الحرب على الجماعات اﻻإرهابية.
وقال دبلوماسي عربي عاد لتوه من بنغازي ضمن بعثة بلاده التي أغلقت مقر قنصليتها في المدينة التي تكاد تخلو حاليا من البعثات الدبلوماسية الأجنبية، لـ«لشرق الأوسط»: «حفتر لوحده لن يقدر على الحسم إلا إذا تدخلت أطراف خارجية لمصلحته، يبدو أن الحسم في ليبيا سيظل بعيد المنال في الوقت القريب». يقول فرج الذي يعكس رأيه رجل الشارع العادي في نبرة تفاؤل: «بعض المحسوبين على التيار الإسلامي المتشدد يريدون تحويل بنغازي إلى مرتع أو مركز للإرهاب، أهل بنغازي طيبون ووسطيون، ولكنهم لن يرضوا أن تتحول مدينتهم إلى هذا أبدا».
وهو يستدل على صحة كلامه بوقوف سكان المدينة مع الجنرال حفتر في مظاهرات علنية وعلى مرأى ومسمع من «أنصار الشريعة» والكتائب، كما أن المدينة قدمت أكثر من مائة شهيد على أسوار تلك الكتائب عندما طالبتها بفك نفسها وتسليم سلاحها للجيش والشرطة، مضيفا بنيرة حاسمة: «بنغازي مدينة مناضلة، وسيأتي الوقت الذي تهدر فيه وتكتسحهم».
وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات شبه يومية شاركت فيها أحيانا طائرات هليكوبتر وطائرات حربية ولحق خلالها ضرر بمناطق سكنية، فيما أغلقت الجامعات في الأغلب ولزم كثير من السكان منازلهم. وتهدد الفوضى ليبيا مع عجز الحكومة والبرلمان عن السيطرة على الميليشيات ورجال القبائل المسلحين والإسلاميين الذين ساعدوا في الإطاحة بالقذافي عام 2011 لكنهم يتحدون الآن سلطة الدولة.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.