انتصار التكنولوجيا على المتشائمين

ردا على الخائفين من تلوث البيئة والانحباس الحراري وغرق جزر العالم

كيف تدحض التكنولوجيا تخوفات المتشائمين والكارثيين: أرخص، أصغر، أسرع، أحسن، أخف، أكثف  -   المؤلف: روبرت برايس
كيف تدحض التكنولوجيا تخوفات المتشائمين والكارثيين: أرخص، أصغر، أسرع، أحسن، أخف، أكثف - المؤلف: روبرت برايس
TT

انتصار التكنولوجيا على المتشائمين

كيف تدحض التكنولوجيا تخوفات المتشائمين والكارثيين: أرخص، أصغر، أسرع، أحسن، أخف، أكثف  -   المؤلف: روبرت برايس
كيف تدحض التكنولوجيا تخوفات المتشائمين والكارثيين: أرخص، أصغر، أسرع، أحسن، أخف، أكثف - المؤلف: روبرت برايس

في مارس (آذار) الماضي، أصدرت وكالة الأمم المتحدة للتغيير في المناخ تقريرا من نحو ثلاثة آلاف صفحة عن خطر تلوث البيئة، والانحباس الحراري، واستمرار الجوع، والمرض، والجهل. هذا تقرير متشائم جدا. وجاء في نهايته: «لنتوقع موجات لا نهاية لها من اللاجئين، والمهاجرين، والفارين، والجوعى، والمرضى، والقتلى».
لكن، لروبرت برايس رأي آخر. إنه متفائل، ومتفائل جدا. وشرح ذلك في كتاب له اسمه طويل: «كيف تدحض التكنولوجيا تخوفات المتشائمين والكارثيين: أرخص، أصغر، أسرع، أحسن، أخف، أكثف».
يمكن تلخيص الكتاب بالقول إنه يؤكد أن تطوير الإنسان للتكنولوجيا سيقدر على ضمان حياة في المستقبل ستكون «أرخص، وأسرع، وأحسن، وأكثف». ولن تكن حياة كارثية.
ومن أهم عناوين الكتاب: التركيز على الاختراعات، ونتائج ذلك، كيف وصلنا إلى هنا؟ إلى أين نسير؟ وما التكنولوجيا التي تقود الطريق؟ أهم شيء: طاقة رخيصة، وربما مجانية، ومستقبل أسرع وأصغر، ولا بد من التخلص من الخوف.
جاء في بداية الكتاب: «يسجل هذا العام، عام 2014، مرور مائة سنة على حفر قناة بنما، التي تربط المحيطين الأطلسي والهادي. ولأكثر من أربعمائة سنة (بعد اكتشاف أميركا، في نهاية القرن الخامس عشر)، كانت السفن تقطع المسافة بين نيويورك وكاليفورنيا في شهر كامل، وهي مسافة 13 ألف ميل، عن طريق كيب هورن، قرب القطب المتجمد الجنوبي. لكن، بعد حفر قناة بنما، انخفضت المسافة إلى ثمانية آلاف ميل، وصارت السفن تقطعها في أسبوع واحد فقط».
قدم الكتاب هذا المثال دليلا على أن الاختراعات والاكتشافات جعلت الحياة أسرع، وأرخص، وأبسط، وأصغر، وأكثر إثراء.
وأشار الكتاب إلى مثال آخر، حدث عام 1761: حفر البريطانيون قناة «بريدجووتر» التي سهلت وصول الفحم إلى مدينة مانشستر. وبسبب ذلك، وبعد أقل من مائة سنة، صار في مانشستر أكثر من مائة مصنع للقطن.
وأشار الكتاب، أيضا، إلى ما حدث عام 1869: حفر الفرنسيون قناة السويس، وقطعوا المسافة بين الهند وأوروبا، عن طريق جنوب أفريقيا، بنسبة 50 في المائة.
في كل هذه الأمثلة، كما يوضح المؤلف، صار العالم «أصغر، أسرع، أخف، أرخص، أكثف (المحتوى). وذلك بفضل العقل الإنساني)».
مثال آخر: في أول كتاب مسيحي مقدس «بايبل» طبعته مطبعة غوتنبرغ في ألمانيا (القرن 15) كانت الصفحة الواحدة فيه طولها 20 بوصة، وعرضها عشر بوصات. لكن، اليوم، صار الكتاب المقدس أخف، وأصغر، وأرخص، وأسرع قراءة، وحملا، وأكثف تأثيرا.
وطبعا، في عصر الإنترنت، صار واحدا من مئات الكتب، يحملها «آي باد» لا يزيد وزنه عن رطل واحد.
في الحقيقة، يقول كثير من المؤرخين الأوروبيين إن مطبعة غوتنبرغ كانت الخط الفاصل بين أوروبا القرون الوسطى وأوروبا الحديثة. وصارت المطبعة «أول تكنولوجيا حديثة» قال الكتاب إن اختراع العجلة كان أول تكنولوجيا. وشرح الكتاب تفاصيل كيف أن العجلة جعلت حياة الإنسان الأول أحسن، وأرخص، وأبسط، وأسرع، وأكثر إنتاجا وثراء.
لا تظل التكنولوجيا فقط أسهل، وأسرع، وأرخص، وأخف، ولكن، أيضا، «أكثر انتظاما ودقة». يعنى هذا أن اختراعات واكتشافات الإنسان لا تتطور فقط، ولكن تؤثر على تفكيره.
صار تفكير الإنسان أكثر انتظاما ودقة. وصار عمله، أيضا، أكثر انتظاما ودقة. وكما يقول الكتاب: «صار الإنسان أكثر تحضرا».
لهذا، يقول الكتاب، يمكن تطبيق النظرية نفسها على اختراع الإنترنت. ويشير هنا إلى «إنترنت غوتنبرغ»، وهو مشروع طبع حتى الآن قرابة مائة ألف كتاب عن تاريخ الحضارة البشرية، ويقدر على قراءته مجانا أي شخص، في أي وقت، في أي مكان في العالم.
هذا ليس فقط في مجال العمل والجد. بل أيضا، في مجال الترفيه. فيتحدث المؤلف عن الكهرباء التي اخترعها الأميركي توماس أديسون. ثم «فاكيوم تيوب» (الأسطوانة الخاوية)، أساس التلفزيون، التي اخترعها الأميركي لي دي فوريست. وبفضلهما، لم يعد الغناء فقط ضربا على طبل، أو نقرا على معدن، أو لمسا لخيط، أو نفخا في صفارة. صار كهربائيا، وميكرفونيا، وتلفزيونيا. واشتهر مغنون أمثال زنجى الجاز الأميركي دوك ألنغتون، وصبيان الخنافس البريطانيين. ويقول الكاتب هنا: «تصوروا لو أن أديسون ودي فوريست عاشا قبل بتهوفن».
وهكذا، في الجد وفي الترف، تتطور الحضارة الحديثة بسبب الأسرع، والأصغر، والأخف، والأرخص، والأكثف (المحتوى).
لكن، شمل التطور، في الجانب الآخر، أسلحة الموت والدمار. جعل مايكل كلاشنكوف، مخترع بندقية كلاشنكوف (توفى في العام الماضي)، القتل سهلا، وسريعا، ورخيصا، ومكثفا.
هذه هي «محاسن» كلاشنكوف: «أصغر وأخف من البندقية العادية، وأكبر من البندقية الأوتوماتيكية، ويمكن أن تعمل أوتوماتيكيا، أو باليد، طلقة بعد طلقة، وتزن ذخيرته أقل، وتكلفة أقل، ويمكن الاعتماد عليها، وتعيش طويلا، وتقاوم الصدأ، ويمكن تعلم إطلاق النار خلال ساعات قليلة».
ومنذ أن اخترعت عام 1947، بيعت منها أكثر من مائة مليون بندقية.
وهكذا، يتطور العالم بسرعة خيالية، ويصير أسهل، وأرخص، وأفضل. ولكن الكتاب لا يشير إلى أن العالم يواجه مشكلات الفقر، والمرض، والحروب، وترتفع مستويات المحيطات والبحار، وتسمم البيئة الناس بمعنى آخر، هذا كتاب متفائل.
وليس وصفا متشائما يمكن أن يكتبه أستاذ جامعي يساري، أو زعيم في حزب الخضر، ولا يذكر التقرير الباعث على الرهبة الذي نشرته وكالة الأمم المتحدة للتغييرات المناخية.
طبعا، تريد الأمم المتحدة، وتريد منظمات دولية كثيرة، تحذير الناس من مشكلات البيئة. لكن، يقول الكتاب، إن «الناس وهم يحاولون حل مشكلات اليوم، يجب ألا يتشاءموا حول مشكلات المستقبل».
في عرضها للكتاب أشارت مجلة «ناشيونال ريفيو»، تحت عنوان: «نظرية مالثوس الجديدة»، إلى توماس مالثوس، الفيلسوف البريطاني الذي رأى أن العالم مقدم على كارثة كبرى، وذلك بسبب استمرار زيادة السكان. ومما كتب مالثوس: «تتفوق زيادة السكان على زيادة المنتجات». ولأنه كان قسيسا، خلط بين النظرية وعقيدته الدينية. وفي عام 1798، كتب مالثوس في كتاب آخر له بعنوان «تقرير عن نظرية الزيادة السكانية» ما يلي: «لا تقدر قوة في الأرض على وقف تناسل الناس. ولأن الفقراء يتناسلون أكثر من الأغنياء، يحدث شيئان: أولا: يزيد عدد الفقراء على عدد الأغنياء. ثانيا: يزيد عدد السكان كلهم. لهذا، لا بد من توقع جوع، وانقراض».
في الحقيقة، قبل أن يكتب برايس هذا الكتاب التفاؤلي، كتب كتاب «جوع الطاقة». ويقول فيه إن زيادة حاجة الإنسان إلى الطاقة يجب ألا تؤدي إلى جوع وانقراض. وذلك لأن الإنسان يقدر على استخراج الطاقة الشمسية والهوائية. وكأنه يقول: طاقة سهلة، وسريعة، ورخيصة، وخفيفة، وكثيفة (لها نتائج عملاقة).
لهذا، يعد الكتاب الجديد امتدادا للكتاب الذي قبله، لكن المؤلف في الكتاب الجديد ينظر إلى الموضوع نظرة تاريخية، وفلسفية، تتجسد في قوله: «ما دامت التكنولوجيا التي صنعناها في الماضي أنقذتنا من مشكلات الماضي، لا بد أن تنفذنا تكنولوجيا المستقبل من مشكلات المستقبل». ويستدرك بالقول: «نحن حتى الآن لا نعرف ما ستكون عليه تكنولوجيا المستقبل».



«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة
TT

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة وتجربة إبداعية متنوعة بعيداً عن الاختباء خلف ترسانة من المصطلحات والنظريات الأكاديمية.

تنطبق تلك الفكرة على كتاب «في مرايا السرد» الصادر عن دار «بدائل» بالقاهرة للشاعر جمال القصاص، الذي يضم مختارات من قراءاته النقدية في الرواية والقصة القصيرة لـ38 كاتباً وكاتبة ينتمون لأجيال ومدارس فنية مختلفة، منهم: إدوار الخراط، جمال الغيطاني، جميل عطية إبراهيم، إبراهيم عبد المجيد، أحمد صبري أبو الفتوح، محمد بركة، حمدي أبو الجليل، مي التلمساني، ميرال الطحاوي، وحيد الطويلة، ربيعة ريحان، يحيى مختار، حمدي الجزار، فتحي إمبابي، وأشرف الصباغ.

يشير القصاص في تقديمه لتلك القراءات النقدية إلى أنه ليس حكاءً بطبعه، فطفولته خلت من الحكي أو على الأقل كان شحيحاً ونادراً ورهن المصادفات أحياناً برغم تراثه الممتد في حواديت الأمهات والجدات ومسامراتهن الليلية الشائقة التي تفتح نوافذ للخيال في عيون الأطفال وتجعلهم يحلقون في أجوائها حتى يغلبهم النوم أو الحلم.

برغم ذلك، ها هو في هذه القراءات يتحول إلى حكاء يتلصص ببصيرة نزقة على ما يطرحه هؤلاء الكتاب في نماذج مختارة من أعمالهم الروائية والقصصية، مشيراً إلى أنه في قراءته النقدية لتلك النصوص لم ينشغل كثيراً بالموضوع أو «التيمة» فهي دائمة التكرار، وغالباً ما يكرس النقد لها بطريقة تقنية عقيمة تتعامل مع النص كأنه شيء منته وقماشة فُصلّت، على خلاف النقد المبدع الذي يرى النص ابن صيرورة خاصة مفتوحة بحيوية على شتى ملامح المعرفة الإنسانية، ومن ثم على الناقد الحق أن يتذكر دائماً أنه مبدع، لذلك كل ما كان يهمه وانشغل به أكثر هو فضاء السرد، كيفية تشكيله وتضافر مغامرة الكاتب فيه وتوسيع أنساقه ومقوماته الذاتية وضخ دماء جديدة في شرايينه تكثف من فعل القص وتكشف بتلقائية دوافع الشخوص ومعاناتها في تحمل أعباء الحياة وتناقضات واقعهم المعيش، على شتى المستويات بخاصة المستوى العاطفي المشبوب بهاجس الجسد والروح.

يستهل القصاص كتابه بالتصدي لمشروع إدوار الخراط، مشيراً إلى أن كتاباته التي بدأت بمجموعته القصصية الأولى «حيطان عالية»، 1959، تشبهه بروحها المصرية القبطية العربية وتشبهنا بفضاء حكاياتها المنسوجة من سقف أحلامنا وكوابيسنا ورغبتنا في أوطان عادلة وحرة، كما أنها تحرضنا على أن نكون نحن كما نحب ونشتهي لا كما يريد لنا الآخرون.

ويرصد القصاص انفتاح بواكير وعي جمال الغيطاني الأولى، منذ مولده في 1945 بقرية جهينة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر، على أحضان مشاهد ووقائع لا تزال شاخصة على جدران المعابد وضفاف النيل. ومع انتقال أسرته للعيش بالقاهرة في حي الجمالية ذي الطابع الشعبي القديم، وهو الحي نفسه الذي عاش فيه نجيب محفوظ وكان مسرحاً للكثير من رواياته، اتسعت مساحة وعي الغيطاني وبدأ يتلمس طرائق للجدل والحوار بين مرآة النشأة على ضفاف النيل والمعابد وبين مرآة الحي القاهري العريق.

ويرى أن أعمال جميل عطية إبراهيم تتسم بأسلوب سلس وشائق له رائحة خاصة يجمع بين براءة الحكي وخبرة الكاتب المجرّب وذلك في تلقائية شديدة العفوية، حتى يبدو كثيراً في أعماله كأنه يوجه خطابه إلى الكبار والصغار معاً. ومن الأشياء اللافتة هنا أن له كتاباً مشتركاً موجهاً إلى الأطفال بعنوان «صك المؤامرة: وعد بلفور» بالاشتراك مع الكاتب الراحل صلاح عيسى.

ويضع إبراهيم عبد المجيد في روايته «السايكلوب» مجموعة من أبطاله في اختبار فارق بين حياة عاشوها روائياً حتى الموت، وبين موت ينهضون منه كأنه ظل لحياة أخرى يعيدون اكتشافها من جديد. ولا تخلو الرواية من روح الفكاهة والمرح، فسيكولوجية الكتابة لديه مرحة في جوهرها.

ويطرح الروائي حمدي أبو جليل في روايته «يدي الحجرية» عدة مداخل لقراءتها، من أبرزها التقصي السردي لتاريخ القبائل البدوية العربية وهجرتها من الجزيرة العربية إلى مصر وبعض بلدان المغرب العربي. أيضاً يمكن النظر إليها من نافذة علاقة الشرق والغرب بسؤالها الشائك المتجدد، أو زاوية تقنيات الحكي والسرد بروح المغني الشعبي ومسرح السامر.

وتبدو فكرة «التقمص» مفتاحاً مهماً في رواية «حانة الست» للكاتب محمد بركة، فالراوي يتقمص سيرة حياة أم كلثوم ويجعلها تروي «قصتها المحجوبة» في إطار علاقة شبه تفاعلية معها، محتفظاً بمسافة مرنة بينه وبين الشخصية توفر له متابعة الوقائع والأحداث وما تكشف عنه من أسرار ومفاجآت.

وحول أعمال مي التلمساني، يرى أنها تتميز بطرائق متنوعة لمنظور الصورة، ترفدها بمجموعة من الخبرات والوسائط الخاصة، المستقاة من فن السينما خصوصاً التقطيع الزمني لحركة المشهد، وتنويع زوايا اللقطة لتنمية إيقاع السرد درامياً.

وتراهن ميرال الطحاوي في روايتها «بروكلين هايتس» على طفولتها وتعيد مساءلتها بلغة مشربة بإيقاعات الشعر وأجواء التاريخ والجغرافيا، وتستنهضها من ركام الحكايات والذكريات لتضعها في سياق زمن روائي طازج يتوزع بين فضائي القرية والمدينة.

ويطل «محروس» بطل رواية «أحمر خفيف» لوحيد الطويلة من ثقوب السيرة الشعبية، وكأنه أحد أبطالها وفرسانها الذين تتخطف أخبارهم الألسنة والأفئدة على مدار الأزمنة والأجيال. لكنه في إغفاءته الأخيرة، على سريره الأعزل بالمستشفى ينفض عنه غبار الحكايات والأسرار، تاركاً لمحبيه وأعدائه مجاز الأثر وظل الحكاية.