واشنطن واعتبار «الإخوان» جماعة إرهابية

فرص تصنيفها تتزايد بعد «حسم» و«لواء الثورة»

قادة {الإخوان} هددوا من خلف القضبان بإثارة الفوضى في ربوع مصر (غيتي)
قادة {الإخوان} هددوا من خلف القضبان بإثارة الفوضى في ربوع مصر (غيتي)
TT

واشنطن واعتبار «الإخوان» جماعة إرهابية

قادة {الإخوان} هددوا من خلف القضبان بإثارة الفوضى في ربوع مصر (غيتي)
قادة {الإخوان} هددوا من خلف القضبان بإثارة الفوضى في ربوع مصر (غيتي)

إلى أين تمضي العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الولايات المتحدة؟ علامة استفهام مثيرة للجدل، وبخاصة في ضوء العلاقة التاريخية التي باتت معروفة للقاصي والداني بين الطرفين منذ أوائل الخمسينات في القرن الماضي. في تلك الفترة استقبل الرئيس دوايت أيزنهاور في البيت الأبيض سعيد رمضان، صهر حسن البنا، ومن تلك الساعة تحركت أشرعة الأصولية الإسلامية في بحر الحياة السياسية الأميركية، ولا تزال الأشرعة مفرودة في اتجاه الرياح الدولية.
كانت رئاسة باراك أوباما مثالاً واضحاً للتعاطي البراغماتي بين واشنطن وجماعة الإخوان بنوع خاص. وبلغ التنسيق حد السماح للجماعة - للمرة الأولى في تاريخها - بالوصول إلى مقاعد الحكم في مصر، ومحاولات أقرانها الآيديولوجيين تسلق سلم السلطة في مختلف الدول التي شهدت ما عرف بـ«الربيع العربي».
غير أن «ثورة يونيو (حزيران)» في مصر، ونهاية ولاية أوباما، ودخول الرئيس دونالد ترمب البيت الأبيض، وضعت نهايات سريعة لطموحات الجماعة ولو بصورة أولية ومبدئية، وإن بقيت هناك إجراءات قد تقرر واشنطن اتخاذها، وفي مقدمة هذه الإجراءات الاعتراف بأن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.

تصنيف {الإخوان} منظمة إرهابية
في العاشر من يناير (كانون الثاني) الماضي قدم السناتور الجمهوري تيد كروز مشروع قانون جديداً تحت اسم «تصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية». ودعا كروز من ثم وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى إجراء تحقيق، وتقديم تقرير للكونغرس حول الأسباب التي قد تحول دون إدراج الجماعة ضمن لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
الجدير بالذكر أنه لا يوجد في الداخل الأميركي تنظيم رسمي يحمل اسم الإخوان المسلمين. ولكن تقريراً نشرته في أوائل فبراير (شباط) الحالي مجلة «فورين آفيرز» الأميركية، أشار إلى الطبيعية السرية لمنظمة الإخوان منذ أسست عام 1928. وذكر أن أعضاءها في الولايات المتحدة يمضون على النهج نفسه، لا سيما وأنهم قدموا إلى البلاد منذ الخمسينات والستينات. وفي هذه الفترة كونوا جماعات لها وجه الجمعيات المدنية، غير أن أهدافها السرية لا تزال قائمة وبنفس الاتفاق الفكري مع «الجماعة الأم» في مصر.
ولعل ما يزعج كثرة من الأميركيين اليوم هو أن هذه الجمعيات والمؤسسات التي أنشأها «الإخوان غير الظاهريين» داخل أميركا خلال ثلاثة أو أربعة عقود خلت، تضطلع حالياً بدور قيادي في صفوف جيل الشباب المسلمين الذين ولدوا في الولايات المتحدة. ومن هنا فإن الاحتمالات قائمة بأن يطلق هؤلاء نوعاً من الحركة الراديكالية الأصولية، لا يلبث في «لحظة التمكين» أن ينقلب إلى المواجهة الدموية. ولعل النموذج الأول لهذا النوع من الحركية الراديكالية، بحسب فرانك غافني، مساعد وزير الدفاع في إدارة الرئيس رونالد ريغان والرئيس الحالي لـ«مركز الدراسات الأمنية»، «يتمثل في إنشاء مؤسسات إسلامية كالمدارس والمراكز الاجتماعية، والقضاء على الحضارة الغربية من الداخل، والتسبب في انهيارها».
ولعل ما يجعل المخاوف تتعاظم لدى بعض الأميركيين من الإخوان المسلمين هو أنه، منذ فشل الإخوان في حكم مصر وثورة المصريين عليهم والإطاحة بمحمد مرسي، يتعزّز ميل الإخوان للعمل السري أكثر من أي وقت مضى. وهذا أمر يجعل المخاوف قائمة داخل أميركا إزاء مستقبل هذه الجماعات السرية.

«حسم» و«لواء الثورة»
من ناحية أخرى، يتفق معظم العاملين في شؤون التاريخ والتحليل والسرد للجماعات الأصولية الإسلاموية على أن الإخوان المسلمين كانوا وما زالوا المعين الأصولي الأكبر الذي تفرعت عنه مختلف الجماعات المسلحة التي انتهجت العنف طريقاً لها. وهذا، بصرف النظر عن أسمائها، سواء كانت «جماعة الجهاد»، أو «الجماعة الإسلامية»، ولاحقاً «القاعدة»، وصولاً إلى التفريخ الأكثر توحشاً المعروف بـ«داعش»، وما انبثق عنه من جماعات متباينة الاتجاهات والتوجهات شكلياً.
في مصر، تحديداً، ظهرت جماعات عنف مسلح من بينها «حسم» و«لواء الثورة». ولقد أعلنتا أكثر من مرة مسؤوليتهما عن أعمال عنف وإرهاب داخل مصر، مما دعا السلطات الأميركية في 31 يناير الماضي لإعلانهما منظمتين إرهابيتين. ويرى الصحافي والكاتب الأميركي إيلي لايك هذا القرار من وزارة الخارجية الأميركية أنه تصرف حكيم من إدارة ترمب، في مواجهة الأذرع التابعة لجماعة الإخوان المسلمين.
القرار المذكور يؤدي بداية إلى منع الجماعتين من التعامل عبر النظام المالي الأميركي، وتالياً وضعهما تحت الرقابة المشددة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأميركية. وكان من الطبيعي أن ترحب مصر بقرار واشنطن، معتبرة إياه «تطوراً إيجابياً في إدراك شركاء مصر الدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، أهمية حظر تنظيم الإخوان الإرهابي والجماعات والتنظيمات المنبثقة عنه على أمن واستقرار مصر وشعبها».
كان من الواضح جداً منذ الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية أننا أمام إدارة إن لم تكن تمثل أقصى اليمين الأميركي، فإنها على الأقل تتشكل من جماعات يمينية. وفي الحالتين يمكن القطع بأنهما من الأضداد الطبيعيين للتيارات الإسلاموية، بل وللإسلام والمسلمين دون مواربة، ولقد وعد ترمب بمجابهة تلك التيارات بنوع خاص.
قبل سنة تقريباً كان ترمب قد وعد بتقويض عمل جماعة الإخوان وإدراجها على قوائم المنظمات الإرهابية مثل تنظيم «القاعدة». ولاحقاً قال أكثر من مسؤول بارز في إدارة ترمب إن الرئيس الجمهوري لا يخطط بحال من الأحوال - بعكس سلفه الديمقراطي باراك أوباما - لإيجاد أرضية مشتركة للتعامل مع الإخوان، وبالأخص، بعد تزايد العنف والعدوانية في تعاملاتها مع الداخل المصري بنوع خاص. وفي منتصف يناير الماضي صرح مسؤول في الحزب الجمهوري الأميركي لصحيفة «إزفستيا» الروسية بأن إدارة ترمب قد تدرج الإخوان على قائمة المنظمات الإرهابية، وإن ثمة عدداً كبيراً من أركان الإدارة يدعمون الرئيس في هذا الطرح. وإن واشنطن ترى أن الإخوان جماعة براغماتية تحاول تحقيق أهدافها عبر أجنحتها العسكرية.
أحد أبرز الذين اطلعوا على مشروع قانون السناتور كروز حول الإخوان، المحلل السياسي الأميركي ثيودور كاراسيك في موقع «غلف ستيت آناليتيك» في واشنطن، ولقد أشار حقاً إلى نية وضع الإخوان على لائحة الإرهاب. وعند كاراسيك أن الإخوان «تنظيم لا يحرض على العنف فقط، بل ويشدد على أنه البنية التي أدت إلى نشوء تنظيمي القاعدة وداعش. وإضافة لذلك، يقف تنظيم الإخوان المسلمين وراء الهجمات على ممثلي السلطات في كثير من دول الشرق الأوسط. في الوقت نفسه يوجد لهذا التنظيم مكاتب تمثيلية في كثير من دول الغرب بأميركا وأوروبا، الأمر الذي يثير قلق الإدارة الأميركية الحالية.

ماذا سيخسر الإخوان؟
هناك مآلات قد تقضي على آمال الإخوان في العودة مجدداً للسلطة في العالم العربي والإسلامي، ولكن التصدي لها في الولايات المتحدة سيحرم الجماعة من الملجأ والملاذ الأخير المحتمل.
هذا، بدايةً، سيعني حظر دخول أي مواطن غير أميركي ينتمي للجماعة أو على صلة بها إلى الأراضي الأميركية، الأمر الذي يقطع أوصال الجماعة لوجيستياً، وبصورة غير مسبوقة حول العالم.
والأمر الثاني، الذي لا يقل أهمية عن سابقه، يتصل بالدعم المالي للإخوان، وفي هذه الحالة سيخضع ممولو الإخوان لقانون العقوبات الأميركي إن هم أقدموا على تقديم تبرعات لجماعة إرهابية، سواء كان هذا الدعم في صورة أموال مباشرة أو خدمات لوجيستية أخرى.
أما الأمر الثالث، في حال اتخاذ قرار على هذا النحو فإن كل أصول وموجودات الجماعة على الأراضي الأميركية ستصادر وتؤول إلى الخزانة الأميركية، مما يعني فقدان كل المكتسبات المالية التي عملت الجماعة من أجلها طوال خمسة عقود أو أكثر. ولن يتوقف الضرر عند المؤسسات التابعة للإخوان فحسب، بل سيمتد حكماً إلى جميع المنظمات والهيئات المرتبطة بعلاقات تفاعلية مع منظمات الجماعة، مما يجعلها عرضة بدورها لأن تصبغ بصبغة «غير قانونية». غير أن الكارثة الأكبر التي يمكن أن تحل بالجماعة في أميركا بعد إدراجها على قوائم المنظمات الإرهابية... إمكانية الملاحقات القضائية بأثر رجعي وفتح ملفات كثيرة، ضدها. وهنا فإن كثيرين في اليمين الأميركي متشوقون لمحاسبة إدارة أوباما، بنوع خاص. ولعل إدراج الإخوان منظمة إرهابية سيعطي فرصة ذهبية لإدارة ترمب للمضي قدماً في طريق ترحيل المئات، وربما الآلاف من المسلمين الذين تحوم من حولهم شبهات التعاطي مع الإخوان أو الاتصال والتواصل معهم في أنحاء الولايات الواسعة، بما في ذلك من اللاجئين والمهاجرين الذين لا يود ترمب رؤيتهم في طول البلاد وعرضها مرة ثانية.
يبدو واضحاً أن القرار ليس يسيراً، لا سيما في ضوء علاقات أميركا الخارجية مع دول بعينها، أو في سياق أضابيرها الاستخباراتية السرية، وبخاصة، ما يتعلق بعلاقة الإخوان مع الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» طوال عقود بدأت في الخمسينات ولم تنقطع حتى اليوم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.