فان غوخ في صورة مغايرة

مسرحية إيطالية عن الفنان «الذي اتهم بالجنون»

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

فان غوخ في صورة مغايرة

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

يليق كثيرا بالمسرح، في أي مكان في العالم، تعميق البعد الوجداني الذهني لدى المشاهد، أعني الاهتمام بظاهرة الاغتراب النفسي والانفصام، أي الاختلال وهيجان الأحاسيس الإنسانية المضطربة. وتوجد علاجات مشهدية لمثل هذه الظواهر سميت عند المسرحيين الغربيين بـ«العناصر الدرامية الفاضحة»، وذلك من خلال الاستعانة بنصوص مسرحية أو روائية أو الاعتماد على وثائق تاريخية ومحاضر ورسائل عن شخصيات إنسانية لعبت دورا متميزا في الحياة بعطاءاتها الفكرية والفنية والاجتماعية والسياسية... إلخ. ليقوم النص بتخليق علاقة ما بين الشخص المعني والحدث التاريخي، حيث يقوم المخرج‮ بتغليف تلك الوقائع التاريخية بإطار فني شديد الثراء. لهذه الطريقة في المسرح تنتمي الكتابة المسرحية لـ«فينسينت فان غوخ - رائحة البياض الأصم»، وهو نص كتبه الإيطالي «اسطيفنو ماسّيني» الذي فاز عن عمله هذا بالجائزة الأولى «طوندالي» للمسرح الإيطالي بمدينة رتشونى. إنه عمل مسرحي سيكولوجي عن حياة فنان عاش ظروفاً فظيعة من دون نقود وبثياب مهلهلة وهو يعاني من سوء التغذية ومن مرض الصرع. ولم تتح له مواصلة الرسم إلا المساعدة التي قدمها إليه أخوه «ثيو» الذي كان مستخدما ذا أجر بسيط لدى تاجر من تجار الفن. حاول هذا الفنان الخالد دائما أن يعطي لمادة موضوعه المستمدة من العالم الواقعي دلالة أكبر وأعم. وحاول مؤلف المسرحية أن يقدم لنا صورة مغايرة لما كتب ويكتب عن هذا الفنان الذي اتهم بالجنون، وذلك بإيضاح الظروف التاريخية للحياة الاجتماعية التي كانت تشير إلى أي سلوك لا ينسجم مع السلوك الاجتماعي السائد لتصفه بالجنون وتقود صاحبه إلى المصحات العقلية.
وفان غوخ (1853 - 1890) هو ابن رجل من رجال الدين، أصبح واعظا في قطاع التعدين، ممارساً الحياة الشاقة نفسها التي كان يعيشها عمال المناجم إلى أن طردته جمعية التبشير التي كان موظفا بها بحجة أنه كان واعظا مهرطقا. وكانت موضوعات لوحاته: جمال الطبيعة، والناس الذين أحبهم وهم من عامة البشر، وشعوره بالكرب والعذاب إزاء عجزه عن علاج كل أشكال التعاسة المحيطة به وبالآخرين. وهو الأمر الذي خلق له اضطرابات نفسية كنتيجة لضعف جسماني وصحي وظروف سيئة كان يعيش في كنفها، الأمر الذي جعل حالته الصحية رهينة التناوس بين فترات متقطعة من العافية ونوبات باثولوجية. وعندئذ اتجه إلى الرسم، وذروة أعماله المبكرة اللوحة الواقعية ذات الألوان القاتمة «آكلو البطاطس» التي كتب عنها «لقد بذلت الجهد لكي أوضح كيف أن هؤلاء القوم وهم يأكلون طعامهم من البطاطس تحت ضوء المصباح قد حفروا الأرض بهذه الأيدي التي وضعوها في الأطباق ولهذا تنطق بعملهم اليدوي وتظهر أنهم كسبوا طعامهم بعرق جبينهم بكل أمانة»
لم يكن أسلوبه إلا محاولة وإصرارا كي يبدو الرسم وكأنه يتحدث للمتلقي ويصرخ فيه، بل ويكاد يضع يديه عليه. ولهذا لم يقم رسمه المحدد بدقة وقوة ببعث الناس إلى الحياة فحسب، بل أعطى الأزهار والأشجار والأرض والسماء شعورا بالحياة الإنسانية كلها. لقد اختفت الظلال ونعومة الأشكال، للحد الذي نجد قماش اللوحة كله مغطى بالألوان البراقة الصارخة المتعارضة، تنبض بالحركة وكأنها تحفر الألوان نفسها بمدية. كثير من النقاد يشك بأن يأسه دفعه لإطلاق النار على نفسه، إذ جرت عادة النقاد وحتى يومنا الحاضر على المبالغة في تأكيد وتضخيم أي حدث في حياة أي مبدع.
كتب يقول: «من أنا في عين معظم الناس، لا شيء أو رجل شاذ أو غير محبوب، مخلوق لا وضع له في المجتمع أو لن يكون له وضع إطلاقا فيه، وهو بمعنى آخر أقل من نفاية، فإذا فرضنا أن كل هذا حقيقي، فإنني أحب أن أبين من خلال عملي ما يعتمل في قلب إنسان شاذ، في قلب تلك النفاية».
لقد برع المخرج الإيطالي «ألكسندر ماجي» بشخصيته وتجاربه المسرحية الكبيرة التي تظهر لنا من خلال التوزيع اللفظي على شخصيات المسرحية وأيضا إلى نجاح الممثل الإيطالي البارع «الكساندرو أبريسيوزي» في التقمص المحايد في معاناة الفنان الهولندي وبهذا الدور بلغ أبريسيوزي أرقى الدرجات وتوصل إلى أبعد مدى في تأويل النص المكتوب.
نحن نرى فان غوخ بين جدران غرفته البيضاء في مصح القديس بولس حيث وضع هناك إثر سلوكيات تحمل بعض الإثارة والدهشة التي تصاحبها الحيرة في التشخيص. ونتبعه حين يبحث عن مساندة أخيه «ثيو» للخروج من هذا المأوى إذ كان يأمل في هذه المساعدة من ثيو - الذي يقوم بدوره الممثل البارع «ماسّيمو نِكوليني» - كما نستمع إلى الفنان فان غوخ وهو يتلقى إعجابات واحترامات مكرمة لشخصه من مدير هذه القلعة المعزولة التي يطلق عليها اسم «المصح». ونكتشف طيبته وأناقته وهدوئه من خلال علاقاته بالطبيب المتابع وبالكادر التمريضي. وفي هذه المغارة التي بياضها وحده يصيب المرء بعدم الاتزان، نجد فان غوخ ذا حركات خفيفة، شبيهة بالاهتزازات، وعطالات مرضية ناتجة عن بعض الاضطرابات الناتجة عن جملة أوضاع مؤثرة على نفسيته.
المشاهد اتسمت بالاحتفاظ بالنور الأقصى وبالظلام الماكر لخشبة المسرح الثابت غير المتحرك. واعتمد النص على وثائق حصل عليها كاتب المسرحية، تؤكد أنه في عام 1889 كانت الرغبة الوحيدة للفنان فان غوخ تتمثل في الخروج من تلك الغرفة البائسة في مصح القديس بولس حيث لا يوجد لون آخر غير اللون الأبيض، وأمله الأول والأخير تعلق بحالة الانتظار في زيارة أخيه «ثيو» غير المنتظرة. كان فان غوخ يعتبر حجزه في المصح بمثابة جريمة عقاب سيكولوجية، في‮ظل واقع ملتبس ومعقد. والمشاهد المسرحية تترك المشاهد هو الآخر بأنفاس معلقة من البداية إلى النهاية، مثل فان غوخ تماماً.



العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
TT

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب في جميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

وأظهرت الدراسة، التي قادها فريق من جامعة كوينزلاند في أستراليا، ونُشرت نتائجها، الجمعة، في دورية «The Lancet Psychiatry»، أن كثيرين من المصابين بالاكتئاب لا يتلقون العناية اللازمة، ما يزيد من معاناتهم ويؤثر سلباً على جودة حياتهم.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 300 مليون شخص الاكتئاب، مما يجعله السبب الرئيسي للإعاقة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن 5 في المائة من البالغين يعانون هذا المرض. وضمّت الدراسة فريقاً من الباحثين من منظمة الصحة العالمية وجامعتيْ واشنطن وهارفارد بالولايات المتحدة، وشملت تحليل بيانات من 204 دول؛ لتقييم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية النفسية.

وأظهرت النتائج أن 9 في المائة فقط من المصابين بالاكتئاب الشديد تلقّوا العلاج الكافي على مستوى العالم. كما وجدت الدراسة فجوة صغيرة بين الجنسين، حيث كان النساء أكثر حصولاً على العلاج بنسبة 10.2 في المائة، مقارنة بــ7.2 في المائة للرجال. ويُعرَّف العلاج الكافي بأنه تناول الدواء لمدة شهر على الأقل، إلى جانب 4 زيارات للطبيب، أو 8 جلسات مع متخصص.

كما أظهرت الدراسة أن نسبة العلاج الكافي في 90 دولة كانت أقل من 5 في المائة، مع تسجيل أدنى المعدلات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا بنسبة 2 في المائة.

وفي أستراليا، أظهرت النتائج أن 70 في المائة من المصابين بالاكتئاب الشديد لم يتلقوا الحد الأدنى من العلاج، حيث حصل 30 في المائة فقط على العلاج الكافي خلال عام 2021.

وأشار الباحثون إلى أن كثيرين من المرضى يحتاجون إلى علاج يفوق الحد الأدنى لتخفيف معاناتهم، مؤكدين أن العلاجات الفعّالة متوفرة، ومع تقديم العلاج المناسب يمكن تحقيق الشفاء التام. وشدد الفريق على أهمية هذه النتائج لدعم خطة العمل الشاملة للصحة النفسية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية (2013-2030)، التي تهدف إلى زيادة تغطية خدمات الصحة النفسية بنسبة 50 في المائة على الأقل، بحلول عام 2030. ونوه الباحثون بأن تحديد المناطق والفئات السكانية ذات معدلات علاج أقل، يمكن أن يساعد في وضع أولويات التدخل وتخصيص الموارد بشكل أفضل.

يشار إلى أن الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم، حيث يؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، ويرتبط بشكل مباشر بمشاعر الحزن العميق، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، مما يؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والعلاقات الاجتماعية.