بين الدين والعلمانية والحاجة إلى إعادة الاكتشاف

الحركات الدينية استطاعت أن تكون هاجساً يومياً لدى رجال السياسة والحكم

الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
TT

بين الدين والعلمانية والحاجة إلى إعادة الاكتشاف

الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)
الأزهر رفع شعار أن الدين الإسلامي هو دين التسامح والوسطية ونبذ العنف إلا أننا نعيش فترة تستر فيها الإرهاب بكل صوره تحت قناع الدين («الشرق الأوسط»)

أصبح الجدل المستمر في المدارس الاجتماعية والفلسفية الغربية المعاصرة بخصوص الدين والحداثة والعلمانية، واحداً من أبرز المواضيع التي يناقشها اليوم كبار المفكرين وعلماء السياسة والاجتماع المعاصرين.
نظرا لطبيعة العلاقة الدائمة والملتبسة بين الدين والسياسة في الدولة الحديثة؛ فإن الأسئلة التي تطرحها عودة الدين، للنقاش السياسي، والانشغال المتزايد للرأي العام بقضايا الانتماء الديني وحقوقه السياسية، دفعت بعالم الاجتماع السياسي وفيلسوف العلمانية الفرنسي جون بيبيرو، للقول: «إن ضبط مفهوم الدين هو من شأن السلطة ويجب أن يستبطنه كل لاعب ليتم القبول به، وإن تخصيص الدين بواسطة لائكيته لا تعني بتاتا زوال التعبيرات الدينية من الفضاء العام».
وإذا كان مرسيل غوشي، وزميله فيليب بيرو، يقتربان في أطروحتهما فيما يخص صعوبة تجاوز الدين للحداثة والعلمنة؛ فإن عالم اجتماع التربية الفرنسي روجيه مونجو، يرد على هذه الأطروحة في مقالته الشهيرة التي نشرها سنة 2012 بعنوان «اللائكية والمجتمع ما بعد العلماني» مؤكدا، أن العلمنة تعيش في مأزق تاريخي. ويقترح الاستناد إلى المقترب العلمي الجديد الذي تبناه المفكر الألماني الشهير يورغن هابرماس، ونحته لمصطلح «المجتمع ما بعد علماني»، لتجاوز هذا المأزق. كما أن مونجو يضيف ردا على الفيلسوف جون بيبيرو، أن التأثيرات التي صنعتها العلمانية، وقدرتها على إزاحة الدين، أو ضبطه بطرق سلطوية قانونية، تحولت مع الوقت في ظل السيرورة الاجتماعية «لعودة الديني»، وليس انمحائه في الفضاء العام.
في هذا السياق يدافع عالم الاجتماع ستافو ديبوج، في كتابه الصادر سنة 2013 «الذئب في المرعى. الأصولية المسيحية تغزو المجال العام»، عن وجهة نظر جدلية، حول المدرسة الخلقية الأميركية، ومناقشتها لعودة الدين للسياسة في أميركا، داعيا إلى رفض أطروحات من يسميهم بمنارات ما بعد العلمانية من أمثال، المسيحيين الإنجيليين، نيكولاس والترستورف، وكريستوف أبريل، وستيفين كارتر؛ إضافة إلى هابرماس، وتشارلز تايلور، وجان مارك فيري. في كتابه هذا، يهاجم ديبوج أطروحة هابرماس، ويتهمها بشكل لا يستند إلى أدلة مقنعة، بكونها هي التي سمحت للدين بالعودة للمجال العام، مشيرا لما يشكله ذلك - حسب رأيه - من خطر يجب التعامل معه. وعليه يقترح ستافو ديبوج، في كتابه المشار إليه أعلاه خطوتين مركزيتين، الأولى: «ألا نهاجم بتهور كبير علمانية المجال العام السياسي، حتى ولو لم نرفض الفروق بين الإيمان والمعرفة؛ وبين العقول الدينية والعقل العام، وبين الأخلاق الدينية والقوانين الوضعية» (ص10). أما الثانية فتتعلق، بما يعتبره المنزلق الخطير الذي تطرحه مقاربة، حرية الدين في الفضاء العام؛ وعليه يتبنى ديبوج طرحا تسلطيا قريبا جدا من المذهبية الفلسفية العلمانية الفرنسية.
بل إنه يحاجج بشكل آيديولوجي، نظرية الفضاء العام، وما بعد العلمانية، ويعتبر هذه الأخيرة «تقوم على الرغبة في رفع جميع القيود عن التعبير على المعتقدات الدينية في المجال العام، فإنها - ما بعد العلمانية - مفيدة جدا لنظرية الخلق ولحركات رجعية أخرى مسوقة باسم العقائد الدينية. فهذه أمثلة على ما تقصده ما بعد العلمانية بانفتاح المجال العام بشكل تام على المعتقدات الدينية، التي يقول كثير من الكتاب بشرعيتها الكاملة للتعبير من غير تحفظ، وأن لها الحق في أن تؤسس بنفسها قرارات سياسية ملائمة للجميع، ومؤثرة على كل فرد أي كان».
من جهته يرى عالم الإنتربولوجيا طلال أسد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، أن إشكالية عودة الدين للفضاء العام، رغم ما يثيره من مخاوف ناتجة أساسا عن الطابع الآيديولوجي للفكر الغربي العلماني المتلبس بالأنسنة والعقلنة المتحيزة. فإن ما يهمنا في الحقل الإنتربولوجي، هو كون العلاقة بين البحث في الدين والعلمانية، في حاجة لإعادة الاكتشاف وتجاوز المآزق الكثيرة التي هيمنت على العقل العلماني العلمي؛ والمرتبط بالخصوص بالنظرة الإبيستمولوجية للدين. «فنادرا ما أبدى الإنثروبولوجيون اهتماما بفكرة العلماني، على الرغم من أن دراسة الدين كانت في صلب اهتمامات الحقل منذ القرن التاسع عشر. وتظهر مجموعة من مقررات الدراسة في عدد من الكليات والجامعات حول إنثروبولوجيا الدين المعدة مؤخراً من أجل الجمعية الإنثروبولوجية الأميركية اتكالاً كبيراً على موضوعات مثل الأسطورة والسحر والعرافة واستخدام المهلوسات والطقوس كعلاج نفسي... توحي هذه الموضوعات المألوفة معاً بأن «الدين»، والذي موضوعه المقدس، يقع في نطاق اللاعقلاني. أما العلماني، حيث تقع السياسة والعلم الحديثان، فلا يظهر في هذه التوليفة. كما أنه لم يعالج في أي من النصوص التقديمية المعروفة جيداً. على أنه من شائع المعرفة أن الديني والعلماني مرتبطان بشدة، سواء في فكرنا أو في الطريقة التي ظهرا بها تاريخيّاً. فينبغي لأي علم يسعى إلى فهم الدين أن يفهم أيضا العلماني. وتحتاج الإنثروبولوجيا، وهي العلم الذي سعى إلى فهم غرابة العالم غير الأوروبي إلى أن تدرك كليّاً ما دلالة أن تكون في آن واحد حديثةً وعلمانية».
ومن هنا لا بد من النظر لقضية العلاقة بين الدين والسياسة في الغرب اليوم على أساس اعتبار العلمانية مذهبا سياسيا يستلزم الفصل بين المؤسسات الدينية والحكومية. فالعلمانية كما يراها الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور عميد الفلاسفة المعاصرين في مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية «ليست مجرد حل فكري لقضية دوام السلام الاجتماعي والتسامح، بل هي بمثابة قانون يقوّم الوسط السياسي، أي تمثيل المواطنة من خلاله، بالسمو على الممارسات الذاتية التي تهدف إلى التفرقة والتمييز عن طريق الطبقة الاجتماعية، والنوع الاجتماعي، والدين».
ما يجب الانتباه إليه، هو أن طلال أسد يسجل أن حصار العلمانية للدين تاريخيا، لم يؤدِ لزواله، وأنه لم يختفِ إطلاقا في الساحة العامة السياسية، رغم الخفوت الذي أصابه إلى حدود ثمانينات القرن العشرين. أما اليوم فالقضايا الدينية السياسية لم تعد قضايا خاصة بأقلية مؤمنة، ولا هي منحبسة في «الغرف المغلقة»؛ بل إن الحركات الدينية استطاعت أن تكون موضوعا يوميا لدى رجال السياسة والحكم والإعلاميين، ورجال الفكر والمعرفة البحثية. وكل هذا لا يدعونا فقط لمراجعة العلمانية وتصوراتها، ولكن للنظر بشكل متجدد لدور كل من الدين والعلمانية في الحياة الفردية والفضاء العام.
ويبدو أننا اليوم نعيش تراجع ما يطلق عليهم عالم الاجتماع الديني، الأميركي رودني ستار بـ«أنبياء العلمانية». فمع بداية القرن العشرين، كان الرأي العلمي السائد هو مزاعم اقتراب موت الدين.
لكن في الواقع، اليوم، تحولت هذه الأطروحة التي تزعم العلمية، لمجرد أسطورة، رسمت مسارا علميا ملتبسا حول الدين، في جانبه الطقوسي والاعتقادي، ودوره في المجال العام السياسي. لقد كان أول رد تلقته هذه «الأطروحة الأسطورة»، من عالم الاجتماع ديفيد مارتن في بحث له عن الدين والعلمنة سنة 1965؛ وخلص فيه أنه لا يوجد أي دليل علمي يؤكد أن العالم ينتقل من مرحلة دينية نحو مرحلة علمانية، أي ما سماه ديفيد «من مرحلة الدينية في الشؤون الإنسانية إلى مرحلة علمانية».
خلاصة
خلافا للفكر السكوني العربي المجتر لأدبيات القرن التاسع عشر، المتعلقة بالحداثة والعلمنة. نلاحظ أن الفكر السياسي الغربي منذ ثمانينات القرن العشرين، وهو يجري كثيرا من المراجعات والنقد لأطروحات الحداثة حول الدين والعلمانية، بما يتناسب والعودة القوية للدين في الفضاء العام. وإذا كان هذا حال المدارس الغربية المختلفة كما بينا بإيجاز أعلاه؛ فقد أصبح لزاما على الباحثين العرب النظر في قضية عودة الدين، وانتشار حركات الإسلام السياسي على ضوء النقاش الحالي الدائر في الغرب، ضمانا للتعايش في مجتمع متعدد، يعتبر فيه الدين مؤثرا على السياسة ونظام الحكم. كما أن مواكبة هذا النقاش المراجع لعلاقة الدين بالحداثة والعلمانية، تجد مبررها في البيئة العربية التي يخلق فيها، الاتصال بين الدين والسياسة نزاعات دموية ومذهبية بالغة الخطورة والتعقيد. مما يشجع على عودة الدين والحركات الدينية للمجال السياسي، وظهور بعضها بمظهر متشدد.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس ــ الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟