لبنان يشهد ورشة قضائية غير مسبوقة

ملفات حساسة قيد المحاكمة بعضها يعود للحرب الأهلية

TT

لبنان يشهد ورشة قضائية غير مسبوقة

تشهد الدوائر القضائية والمحاكم اللبنانية على اختلاف درجاتها واختصاصاتها، ورشة عمل غير مسبوقة، إن لجهة تكثيف جلسات التحقيق والمحاكمات، أو لجهة تسريع وتيرة إصدار الأحكام والفصل في آلاف القضايا العالقة منذ سنوات وعقود. لكنّ التطوّر الأهم يكمن في انصراف المجلس العدلي للنظر في الملفات الخطيرة والحساسة، التي تقع ضمن اختصاصه الحصري، وتندرج في خانة «الاعتداء على أمن الدولة وضرب السلم الأهلي»، سواء بجرائم الاغتيال التي طالت قادة سياسيين ومرجعيات دينية، أو الجرائم الإرهابية التي استهدفت المؤسسة العسكرية ومنشآت عامة وخاصة.
وينكبّ المجلس العدلي (أعلى هيئة قضائية) على عقد جلسات متتالية في ملفات ما زالت تشكل حساسية في الشارع اللبناني، لأن بعضها مرتبط بالصراعات التي كانت سائدة أيام الحرب الأهلية، وبعضها ارتكبت بخلفيات تلك الحرب، أبرزها الحكم الذي أصدره المجلس وقضى بإنزال عقوبة الإعدام غيابياً على اثنين من كوادر الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهما حبيب الشرتوني ونبيل العلم، بعد إدانتهما في قضية اغتيال الرئيس اللبناني الراحل بشير الجميل في عام 1982. واستكمال جلسات المحاكمة في قضية خطف المرجع الديني الشيعي الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين والتي يحاكم فيها غيابياً 16 من كبار القادة في النظام الليبي السابق، إضافة إلى ما تبقى من ملفات مرتبطة بمعارك مخيم «نهر البارد» في الشمال ضدّ الجيش اللبناني.
ولطالما شكّلت العدالة في لبنان مصدر شكوى لدى عامة المواطنين بسبب بطء المحاكمات، لذا، فإن تسريع وتيرتها في الأشهر الأخيرة، انطوى على تفسيرات مختلفة، إذ ربطتها مصادر مقربة من القصر الجمهوري بـ«السياسة الواضحة التي اعتمدها الرئيس ميشال عون، وفيها تشديد على إطلاق عجلة القضاء، وحمايته من التدخلات والضغوط السياسية التي كانت سبباً مباشراً في بطء العدالة». وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط»، إن رئيس الجمهورية «ومنذ أول لقاء جمعه بمجلس القضاء الأعلى، تعهد بالعمل على تعزيز استقلالية السلطة القضائية وأن يتساوى الجميع أمام ميزان العدالة، وأن يحمي القضاء من أي تدخلات سياسية»، معتبرة أن «هذا النهج ساهم في إطلاق الورشة القضائية والبت في ملفات عالقة منذ عقود».
وينظر المجلس العدلي في عدد من الملفات الحساسة، أبرزها ملف اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، والمحاكمة في قضية مقتل القيادي في حزب «الكتائب اللبنانية» نصري ماروني ورفيقه سليم عاصي في مدينة زحلة (البقاع اللبناني) في 23 مارس (آذار) 2008، التي يحاكم فيها غيابياً جوزيف الزوقي وطعمة الزوقي، كما حدد المجلس العدلي 23 مارس المقبل، موعداً لمحاكمة المتهمين باغتيال أربعة قضاة لبنانيين على قوس المحكمة داخل قصر العدل في صيدا (جنوب لبنان) في 18 يونيو (حزيران) 1999 والمتهم فيها أمير تنظيم «عصبة الأنصار» الفلسطيني أحمد عبد الكريم السعدي الملقب بـ(أبو محجن) وخمسة فلسطينيين من التنظيم نفسه.
ورغم أهمية الغطاء السياسي الذي يوفره رئيس الجمهورية للقضاء، أوضح مصدر قضائي لـ«الشرق الأوسط»، أن «أي تقدم في مطلق ملف قضائي، يبقى رهن المعلومات والخيوط التي تتوفر للمحققين، عن مرتكبي الجريمة وهوياتهم ومطابقة هذه المعلومات على الوقائع». وأكد أن «تقدّم العمل في الملفات ليس مرتبطاً بحقبة سياسية»، لافتاً إلى أن «القضاء يعمل باستقلاليته المكرّسة، انطلاقاً من استقلالية السلطات الدستورية وتعاونها، وليس بإيعاز سياسي». وقال إن «تسريع وتيرة صدور الأحكام والقرارات القضائية، مرتبطة بعاملين، الأول زيادة عدد القضاة بعد تخرّج دفعات جديدة في السنوات الأخيرة، والثاني إنشاء محاكم جديدة في كل درجاتها، سواء البداية أو الاستئناف أو التمييز».
قراءة المصدر القضائي، أيدها وزير العدل الأسبق إبراهيم نجّار، الذي لفت إلى أن «بعض الملفات الدقيقة التي صدرت فيها أحكام، أو التي صدرت فيها قرارات اتهامية، كانت بفعل اكتمال معطياتها القانونية والأدلة والإجراءات المتعلّقة بها، وليست نتيجة قرار سياسي». ولفت نجار في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد، يقارب هذه الملفات كلّها من واقعها القانوني وليس نتيجة تدخلات سياسية».
وعن تزامن الانطلاقة القوية لهذه الملفات، مع السنة الأولى من عهد رئيس لجمهورية ميشال عون، أشار الوزير نجّار إلى أن «أي ملف تكتمل عناصره القانونية وأدلته، يصدر فيه القرار الاتهامي أو يصدر حكمه». وقال: «هناك ملفات لا يزال مسارها القضائي طويلا جداً والبعض منها متوقف». وأضاف أن «صدور عشرات الأحكام أمر جيّد، لكن ثمة ملفات لم يحصل فيها أي تقدّم بعد، مثل اغتيال الوزير بيار الجميل والنواب أنطوان غانم وجبران تويني ووليد عيدو، واغتيالات أخرى طالت سياسيين وإعلاميين».
وكانت المحكمة العسكرية، أصدرت في الأشهر الثلاثة الماضية عشرات الأحكام في ملفات أمنية مصنفة في خانة «الجرائم الإرهابية»، وأصدرت أحكاماً مشددة فيها، مثل الحكم الذي صدر بحق المتهمين بأحداث عبرا، وأبرزهم الشيخ أحمد الأسير الذي حكم عليه بالإعدام، والحكم في ملف متفرع عن معارك عرسال بين الجيش اللبناني ومسلحين من تنظيمي داعش والنصرة، وبعض التفجيرات التي وقعت في ضاحية بيروت الجنوبية.



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم