«المسيرة» لابن يادير يطيب الخواطر وينتقل من خطاب إلى آخر

لقطة من «ميدياس»
لقطة من «ميدياس»
TT

«المسيرة» لابن يادير يطيب الخواطر وينتقل من خطاب إلى آخر

لقطة من «ميدياس»
لقطة من «ميدياس»

تقول مدرسة وكاتبة أميركية تعيش في المغرب منذ سنوات وتحضـر لمقال سينمائي حول أفلام مهرجان مراكش الدولي بأن المسؤولين عن المهرجان هنا نجحوا في جعل هذا المهرجان يبدو موازيا لمهرجان «كان» السينمائي إذا ما تم النظر إلى الناحية الاستعراضية منه: «كنت جالسة مع سينمائي ألماني وقال لي بأن مراكش يبدو بنجومه وأعداد حاضريه أقرب إلى (كان) منه إلى أي مهرجان أوروبي أو عالمي آخر». وأضافت: «من اللافت أنه في حين أن مهرجان برلين مثلا كان لديه نجم واحد في مطلع هذه السنة حين أقيم، هنا ما لا يقل عن عشرة نجوم وسينمائيين عالميين كبار».
في اليوم ذاته، اتصل رئيس مهرجان عربي ببعض الأصدقاء في هوليوود طالبا منهم المساعدة في إيجاد ولو نجم واحد يقبل بالحضور في الدورة المقبلة للمهرجان.
من زاوية سينمائية بحتة لا تـقيـم المهرجانات بعدد نجومها. لكن يصح أن يقال: إن بعض المهرجانات تقوم على الاستعراضات الفنية، مثل عدد النجوم المشتركين والمدعوين، أكثر من مهرجانات أخرى، جنبا إلى جنب الأفلام التي تقدمها للجمهور الهاوي للسينما وللنقاد. لا وجود النجوم من شأنه التأثير على نوعية العروض ولا نوعية العروض ضمانة لمنح المهرجان شهادة تميـز. مراكش من ناحيته هو واحد من تلك المهرجانات التي يلتقي فيها الجهد لترصيع دوراته بنجوم السينما والجهد الموازي لإيجاد أفلام ذات نوعية وقيمة.
لكن الحديث ذاته يفتح جانبا مهمـا للنقاش، وهو إذا ما كان حضور نجوم السينما شرطا لإقامة مهرجان عربي ناجح.
لقد أمـت معظم المهرجانات العربية، من القاهرة إلى دبي ومن مراكش إلى أبوظبي والدوحة، تجارب في هذا النطاق. قبل سنوات كثيرة حاول مهرجان القاهرة جلب سلفستر ستالون وقيل بأن الاهتمام كان ذات مرة بدعوة شارون ستون وأن محادثات جادة تمـت بينه وبين وكيل أعمالها. في سواه من المهرجانات تم استحضار رتشارد غير وسامويل ل. جاكسون ومارتن سكورسيزي وجورج كلوني وأوليفر ستون وفورست وتيكر وغيرهم. هذا بالطبع إلى طاقم من الفنانين الخليجيين والمصريين والسوريين والمغاربة. ما نتج عنه هذا الاستقبال الحافل هو تداول إعلامي عربي، في الأساس، لمن سار على «السجادة الحمراء» (التي أصبحت معيارا للنجاح!) ووقف أمام عدسات المصورين وأم المؤتمرات الصحافية.
في المقابل، لم يعمد هذا الحضور إلى تفعيل نقلة نوعية لأي مهرجان عربي على غرار المهرجانات الدولية الأخرى ولسبب رئيسي: في مسألة حضور نجم ما إلى «كان» أو برلين أو فينيسيا أو صندانس أو روما تكمن عملية مزدوجة أحد وجهيها هو تسجيل حضوره، لكن الثاني هو الترويج لفيلمه غالبا. أسواقنا العربية من ضعف التأثير سابقا واليوم إلى حد أن هذا الوجه الثاني لا وجود له. بالتالي أمام المهرجانات العربية مهمـة جذب النجوم بدفع أجور كبيرة يراها النجم من حقـه ويعتبرها المهرجان ضرورية لأن عليه الظهور بمظهر الجاذب عالميا.
هذا ما يدلف بنا هنا إلى جانب آخر: سواء أتى توم كروز أو نيكول كيدمان أو لم يأتيا إلى هذا المهرجان أو ذاك، فإن تأثير ذلك الإعلامي على الصعيد الدولي ليس كبيرا. في الحقيقة قد تتداول مواقع الإنترنت الإخبارية نبأ وصول هذا الممثل أو تلك الممثلة إلى مهرجان يقع خارج المهرجانات الأميركية أو بعض الأوروبية، لكن على كثرة هذه الرحلات المكوكية للنجوم وعلى وفرة المهرجانات التي تريد أن تدعو فإن المسألة تصبح تقليدية تماما.
هذا إلى أن يقترن وجود النجم بوضع ثقافي أو ببرنامج عمل مطروح أو - على الأقل - بوجود أفلام له في البرنامج الرسمي، كما الحال في مهرجان مراكش الذي احتفى بجولييت بينوش وعرض لها في الوقت ذاته فيلمها الأخير «ليلة سعيدة ألف مرة»، أو كما كان الحال عندما أم توم كروز مهرجان دبي قبل ثلاث سنوات عندما افتتح بفيلمه «مهمـة مستحيلة 4».
* مسيرة عاطفية
* مهرجان مراكش كان على موعد، يوم أول من أمس (الأحد) مع فيلم مهم عنوانه «المسيرة» لمخرج مولود في بلجيكا يحقق هنا فيلمه الثاني بعد «البارونز» سنة 2009 اسمه نبيل بن يادير. كما حال فيلمه الأول، يدور «المسيرة» عن الجيل الشاب من العرب المولودين في أوروبا. لكن المخرج انتقل هذه المرة من بلجيكا إلى فرنسا ومن المدينة، بروكسل في الفيلم السابق، إلى محطـات مختلفة في الريف والمناطق المدنية وصولا إلى باريس، في الفيلم الحالي.
لكن «المسيرة» زئبقي المعالجة. يضرب على الوتر المعادي للعنصرية ويفعـل خطابات قوية ضدها، ويشحن المشاعر بمشاهد عاطفية لا يمكن إغفالها، وفي الحين ذاته، وبعد تعداد ما حدث لعرب قـتلوا أو سحلوا أو أهينوا من قبل عنصريين فرنسيين، يرفع راية أن فرنسا بلد الحرية والمساواة والعدالة. ثم ينهي كل ذلك بالقول: إن الأحداث العنصرية ما زالت قائمة. هذا التأرجح محسوب جدا. ففي صلبه، هذا فيلم رسالة موجـهة لجمهور يتوخـاه كثير من الفرنسيين والعرب - الفرنسيين على حد سواء. وفيلم حملة إعلامية مركـزة على إثارة موضوع هو بحد ذاته إيجابي الهوية وصادق النيـة لكنه موجـه في نهاية الأمر صوب عقد مصالحة بين طرفين من دون أن يبحث عميقا عن الأسباب أو في الثقافات. ما يفعله «المسيرة» هو طرح نقاط بحث لا يكملها وأحيانا لا يسبر غورها مطلقا. وفي حين أن النتائج التجارية ما زالت تنتظر الساعات المقبلة لكي نعرف رد فعل الجمهور الفرنسي على الفيلم (بوشر بعرضه في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني في فرنسا) فإن ردود فعل النقاد كانت غالبا إيجابية خصوصا من صحف ومجلات مثل «لو باريسيان» و«إيل» و«مترو» و«برميير» و«تليراما»، بينما وجده ناقد «الليبراسيون» اليسارية معتدلا وهاجمته صحيفة «لو موند» اليمينية مانحة إياه نجمتين من أصل خمسة.
«المسيرة» مأخوذ عن وقائع حقيقية بدأت في الخامس عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1983 عندما قتل شرطي عربي بدم بارد. أصدقاء القتيل من مهاجرين وفرنسيين (نحو تسعة) يجتمعون ويقررون التوجـه بمسيرة تطوف ربوع فرنسا وصولا إلى باريس احتجاجا على هذا الفعل ودعوة لفرنسا جديدة ملؤها التسامح والمساواة. في مطلع الأمر لم يتجاوز المتظاهرون، وقد انطلقوا من نقطة بعيدة في الريف الفرنسي، أكثر من حفنة تعرضت لاعتداءات وتهديدات على طول الطريق. لكن مع اقترابها من العاصمة باريس، وتبعا لأحداث عنصرية أخرى وقعت بينما المسيرة في طريقها، ازداد اهتمام الإعلام بها وارتفع عدد المشاركين فيها إلى عدة آلاف. بعد شهرين وصلت إلى باريس واستقبلها (من دون أن نراه) الرئيس ميتران مقررا إحداث تغييرات وسن قوانين معادية للعنصرية. إنه هنا يبلغ الحماس درجة التهييج الأقرب منه إلى ابتزاز العواطف التي استثمرها الفيلم لأكثر من ساعتين.
* بين الخطب
* المخرج نبيل بن يادير يعرف ما يفعله. يريد فيلما مشاعا بين الفئات يحكي حدثا وقع بالفعل، ويؤازر الرسالة الإيجابية التي يحملها الفيلم كما يمدح فرنسا كوطن للجميع من دون عنصرية. ثلاثة أمور الفيلم على حق في عرضها وتداولها، لكن المسألة المقلقة هي في الكيفية.
يسود تقديم الشخصيات قدر كبير من التنميط. فكلـما أراد المخرج تسليط الضوء على واحدة اختار لها الموقف الخاص الذي أسسها عليها. ففريد (مبارك بلكوك) بدين يأكل كثيرا (خصوصا في الساعة الأولى من الفيلم). والأم خيرة (لبنى أزابال) شرهة في تدخينها (في كل مشهد لها) وابنتها مونيا (حفصية حرزي) تتعرف على الفرنسي المؤيد سيلفان (فنسنت روتييه) وهذا وحده سبب أن 90% من مشاهدهما معا، كذلك الحال مع شخصيتي يزيد (نادر بوساندل) وكلير (شارلوت لو بون). وحين يدخل حسن (جمال دبـوز المحبوب جدا من جماهير مختلفة) المشاهد يصبح من المعتاد مشاهدته مازحا وعفويا وتلقائيا بعدما وجد أنه يستطيع أن يلعب دورا في هذه الحركة المناهضة للعنصرية بعدما كان دوما ما يعاني من التشويه. المشكلة ليست في الدور بل في تفعيله كزر عاطفي يستخدم لمزيد من إلهاب الحماس.
يسرد الفيلم ما يريد أن يرويه عبر مفارقات من المشاحنات الداخلية وأخرى من مشاهد المجابهات مع المواقف المناهضة لها. الأولى هي التي تبقى في مغزاها الأهم، لكنها تفقد قيمتها بعد حين لأن لا شيء كبيرا يقع نتيجة لها. كل واحد يصرخ في الآخر وفي النهاية باقون في الصف الواحد. وينتقل الفيلم من خطاب إلى آخر مكررا الكلمات كما كان كرر الصور. هناك مناطق يرتفع فيها حس سينمائي واعد، لكنها تمضي ليعود الفيلم على سيرته من التداول المتكرر والتناول غير المعمـق. في النهاية، تلوح مشاهد مناسبة لوضع حد لما هو معروض، لكن الفيلم يمضي عنها ويختار لحظة دخول قادة التظاهرة إلى قصر الإليزيه كمشهد أخير، لتليه كلمات تقرر أن العنصرية ما زالت موجودة وهو أمر طبيعي لأنها لن تـمحى. هي ضد العرب وضد اليهود وضد المسيحيين وضد أقوام وعناصر وأجناس عدة في أكثر من مكان. النظرة التي يفتقدها الفيلم شمولية، لكنه لو اكتفى بمعالجة ما يطرحه على نحو أقل ضوضاء وأكثر إمعانا في فن الكيفية التي يسرد فيها ما يريد لحقق عملا جيـدا بلا ريب.
* خيانة
* فيلم آخر عرضته المسابقة هو «ميدياس» (سبق وعرضه مهرجان فينيسيا ومهرجان فيينا): دراما إيطالية منسوجة جيـدا في الغالب حققها أندريا بالاورو حول رجل وعائلته يعيشون في منطقة بعيدة من الريف. يعمل في بيع الحليب من الأبقار التي لديه ويجوب المناطق المحيطة بحثا عن موارد مالية إضافية إذا ما استطاع. لكن مشكلته الأولى هي البحث عن ذلك التوتـر الغامض الذي يسود العلاقة بينه وبين زوجته (أم أولاده الستـة). وهذا ما يكتشفه عندما يدرك أنها تخونه مع عامل محطة بنزين قريب.
هناك خطوط ملتحمة بين أسلوب المخرج بالاورو وتلك التي كان عمد إليها في السبعينات مواطنه أورمانو أولمي (صاحب «شجرة السدادات الخشبية» الذي حاز على ذهبية مهرجان كان سنة 1978). أولمي لا يزال يعمل لكن أفلامه باتت تمر مرور الكرام أمام الجميع من دون توقـف أحد عندها. هذا حدث مع «ميدياس» ليس من باب عدم التقدير بل من باب عدم وجود سند نقدي أوروبي فاعل دائما للمخرجين من ذوي سنوات الخبرة.
«ميدياس» يعاني من بعض المشاكل: حكايته مفرودة على ساعة ونصف من العرض ولا تحتوي على الكثير من المفارقات. فقط على الكثير من التأمـل وإحصاء التصرفات وملاحظة مصادر الضوء والظلال. هذا كلـه يصنع فيلما مثيرا للتأمل، ولو إلى حين، لكنه من النوع الذي لا يبقى طويلا في البال.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)