سر الشعر الباقي

سر الشعر الباقي
TT

سر الشعر الباقي

سر الشعر الباقي

هل يوجد أعذب من بورخيس حين يتحدث عن الشعر؟ قليلون جدا في تاريخ النقد الأدبي تنطبق عليهم صفة العذوبة كما تنطبق على نقد بورخيس، ربما لأنه ليس ناقداً محترفاً. فقد اعتدنا أن يطل الناقد من على النص، وغالبا بريبة وشك، فيعمل به تفكيكاً وتقطيعا حتى يستحيل عظما تعافه النفس. وفي أفضل الأحوال، تقرأ «نقداً»، يمارسه غالباً شعراء مع بعضهم البعض، فتعافه النفس أيضاً لكثرة ما فيه من دسم زائد. ويبدو أننا الآن عموماً لا نملك سوى هذين الصنفين اللذين ينتهي مفعولهما مع نهوضنا من المائدة.
انتهى عصر نقاد الشعر العظام منذ أمد بعيد. لم نعد نقرأ كتبا من نوع «الشعر والتجربة» لأرشيبالد ماكليش، أو «الشعر... كيف نفهمه ونتذوقه» لإليزابيث درو. وعربيا، توقفنا منذ زمن بعيد عن إنجاب نقاد من أمثال محمد مندور أو محمد النويهي.
بورخيس، هذا القارئ الخرافي، يعيدنا إلى جوهر الشعر ليس فقط في حواراته ومحاضراته -كان المترجم المجتهد صالح علماني قد نقلها إلى العربية، ونشرتها دار «المدى» العراقية قبل سنوات-، بل حتى في قصصه القصيرة. إنه ليس مهووساً بقراءة الشعر فقط، بل يحاول أن ينقل إلينا هذا الهوس الرائع، فيعلمنا كيف نقترب من النص، وندخل فيه، بل نسكن فيه لاكتشاف جماله الفريد من الداخل. وقبل ذلك، علينا أن نسلّم النفس كاملة، فهذا هو الشرط الأساسي للغوص واكتشاف اللؤلؤ الكامن في العمق، أو العودة فارغي اليدين. ومع ذلك، علينا أن نغوص أولاً. ولكن أي شعر يستحق ذلك؟ أو، بكلمة أخرى، أي شعر ذاك الذي يقودنا، بل يسحبنا للغوص فيه؟ الشعر هو الشعر. لا يمكن لأحد أن يقول ما هو. إننا، كما يقول بورخيس، «عاجزون عن تعريفه، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الأحمر أو الأصفر، أو معنى الغضب، الجبن، الكراهية، الفجر، الغروب، أو حب بلادنا».
ولكن نتعرف على الشعر، نعني الشعر، من الهزة الكبرى التي يحدثها في أعمق أعماقنا، حتى يرتجف جهازنا العصبي كله. وما يحدث ذلك ليس كوم الكلمات الذي نراكمه، ولا الجمل الذهنية المتواترة التي تقود لما بعدها، ولا البلاغة في الكلام، ولا الكلمات نفسها، كما في كثير من شعرنا العربي الآن للأسف، بل شيء خلف ذلك كله. إنها التجربة وقد تحولت إلى «صورة مفكرة»، بتعبير هيغل. مثل هذا الشعر نادر عندنا لأن الكلام حل محل التجربة الحسية والذهنية، والمعرفة التي تولدها بالضرورة.
الشعر الحقيقي الباقي عبر الزمن، هو عاطفة ومتعة جمالية كبرى. وعلينا أن ننظر إليه باعتباره كذلك. بمعنى آخر، أن نعرف كيف نقرأه. يقول بورخيس عن نوعية من النقاد في إحدى محاضراته: «كلما تصفحت كتباً في علم الجمال، راودني إحساس مقلق بأنني أقرأ أعمالاً لفلكيين لم ينظروا إلى النجوم قط، ما أعنيه هو أن مؤلفيها يكتبون عن الشعر كما لو أن الشعر واجب، وليس كما هو عليه في الواقع: عاطفة ومتعة».
في «صنعة الشعر»، يتنقل بورخيس من شكسبير وجون ميلتون إلى جون كيتس وبراوننغ، ويعطف على تحولاتهم العجيبة للغة، وطرق التعبير، عائداً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو، وكل ذلك في أسطر منسابة بلا مصطلح زائد، ولا جملة مقعرة تحير كيف تفسرها. وأثناء ذلك يغوص عميقاً ليكشف ونكتشف معه سر الشعر الباقي، الذي يعبر القرون والمسافات من الإغريق إلى الجزيرة الإنجليزية.
صحيح، إن الزمن يتبدل، واللغة تتبدل، والقارئ يتبدل، لكن الجمال لا يتبدل، هو باقٍ هناك بانتظارنا في القصيدة التي نعرفها من الرعشة الخاصة التي تصيبنا بها.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.