حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

عندما تستخدم الديمقراطية والحرية طريقاً نحو تعزيز التيارات الأصولية

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا
TT

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

هل بدأت أوروبا تراجع مواقفها من جماعة «الإخوان المسلمين»، بعد أن تبين كثرة ازدواجيتها الأخلاقية، وكيف أنها تستغل أجواء الديمقراطية الأوروبية المتاحة للجميع لتنفيذ أجندتها داخل أوروبا وخارجها دفعة واحدة؟
الشاهد أن الفترة الماضية شهدت أحداثاً ومراجعات عديدة تؤكد ما نقول به. فقد أثبتت الأحداث، وبخاصة في ضوء موقف الجماعة في أوروبا من الانتخابات الرئاسية المصرية، أن الإخوان لم يرتدعوا رغم كل ما لحق بهم من هزائم على الأرض، ومن رفض شعبوي ونخبوي لمشروعهم، بدا ذلك في صورة الملايين التي خرجت إلى الميادين مطالبة بعزلهم وإقصائهم، ولاحقاً تصنيف الجماعة كونها «فصيلاً إرهابياً». على أن السؤال الجوهري في هذه القراءة: هل كان موقف «إخوان أوروبا» من مصر وما يجري فيها هو السبب الرئيسي في إعادة قراءة الأجهزة الاستخبارية في بعض الدول الأوروبية حقيقة جماعة الإخوان المسلمين، المعين الأول والأكبر الذي خرج من جوفه كل التيارات الأصولية والجهادية حول العالم العربي، عطفاً على انتشارها وما تسببه من كوارث في أوروبا وأميركا؟
في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، وبينما كان المرشحون للانتخابات الرئاسية المصرية يجهزون أوراقهم للترشح، طُرح على المائدة اسم رئيس أركان الجيش المصري الأسبق الفريق سامي عنان، والذي أثيرت حوله شائعات كثيرة حول علاقته بجماعة الإخوان. لم تكن قصة ترشيح الرجل هي القضية أو الإشكالية بل موقف الإخوان المسلمين منه، لا سيما القيادات الهاربة إلى أوروبا، والتي أعطتها دول القارة العجوز حقوقاً تستحق المراجعة اليوم، وبعضها يراجع بالفعل وبدأ في اتخاذ مواقف بعينها. في هذا السياق كان المفوض السابق لـ«الإخوان» المسلمين والمكلف بإدارة ملف العلاقات الدولية للجماعة «يوسف ندا» يوجه رسالة إلى الفريق عنان، أقل ما توصف به أنها «لعب على المتناقضات» و«حلم بالعودة إلى الماضي»، غير أن اللعب والحلم مرتبطان بشروط ستة إخوانية إن أراد «عنان قبل إبطال ترشحه» أن يحصد أصوات الإسلامويين من إخوان وسلفيين وجهاديين وبقية الدائرة المعروفة. في رسالة «ندا» لـ«عنان» قوله: «أقول لك بلا مواربة إن الإخوان المسلمين سيظلون مع التوافق الوطني، وقد يقبلون بانتخابات للرئاسة مراعاةً لعدة أمور». يستوقفنا هنا بداية الحديث الزائف عن فكرة «التوافق الوطني»، ذلك أن الإخوان لم يكونوا يوماً في سياق الفصيل الوطني البنّاء، وإنما جماعة فوقية دوجمائية، تصنف ضمن مَن يُعرفون بـ«ملاّك» الحقيقة المطلقة، وإن كانت حقيقتهم دائماً ملتصقة بالعنف والإرهاب، وموصومة بالكذب والرياء والخداع.
ويبدو السيد «ندا» في حديثه كأن له الباع الطويل في الموافقة على الانتخابات الرئاسية، ولهذا قد يقبل، وربما لا يقبل هو وجماعته بها، إلا مراعاة لتقديراته هو وجماعته. مهما يكن من أمر، فإن «ندا» وضع 6 محددات حتى تقبل جماعة الإخوان بترشح عنان وهي: عودة الجيش لخدمة الشعب وحمايته وحماية الدولة- إعادة الاعتبار لنتائج الانتخابات والطلب من رئيسها المنتخب محمد مرسي التنازل لصالح الأمة- «تطهير القضاء» وإلغاء الأحكام المسيسة التي حكمت في عهده- الإفراج عن المعتقلين وتعويضهم- تطهير الشرطة- إعادة النظر في القرارات المتعلقة بثروة مصر وحدودها.
تحتاج مناقشة هذه المحددات إلى أكثر من قراءة قائمة بذاتها، غير أنه وباختصار غير مخلٍّ نحن أمام طرح انقلابي إخواني يعكس نياتها الحقيقية لا تجاه مصر الكنانة فحسب، بل لجهة مخططهم الأكبر للسيطرة على مقدرات العالم بأسره وأوروبا في البداية، بعد أن تسلقوا هناك سلم الديمقراطية مرة واحدة، ومن ثم يحاولون –إنْ قدّر لهم– إزاحته بعيداً إلى الأبد، كي يتم لهم تنفيذ مخططهم الأوسع.

من حلم البنا إلى حاضرات أيامنا
قبل أن يحلم الخميني في نهاية سبعينات القرن الماضي، بأن يرفرف علم الثورة الإيرانية على العواصم العربية، مصدِّراً ثورته، سبقه حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، في حلم يخص أوروبا الجار الأقرب جغرافياً، والأكثر تشابكاً ديموغرافياً، والأوثق علاقة تاريخياً مع العرب والمسلمين، حلم أن يرى علم جماعة الإخوان يرفرف على كل أنحاء العالم بدءاً من أوروبا.
ولعل مساقات الأحداث وما جرى من خلافات عميقة بين عبد الناصر والإخوان، قد فتح الباب واسعاً لهجرة هؤلاء في خمسينات وستينات القرن الماضي إلى أوروبا، كان في مقدمهم زوج ابنته «سعيد رمضان» والد «طارق رمضان» الذي تم توقيفه الأيام الماضية بتهمة مخلة بالأخلاق، ما يؤكد الازدواجية الروحية والأدبية التي تحكم الجماعة ونظرتها إلى أوروبا والأوروبيين.
عبر 7 عقود وفي مناخات أوروبية توفر مظلة واسعة للحريات الدينية استغل الإخوان تلك الأجواء في تأسيس مئات الجماعات والجمعيات تحت عناوين المؤسسات الشبابية والخيرية والإرشادية، ناهيك بالأنشطة المرافقة لها، الأمر الذي وفّر لـ«الإخوان» عبر 3 أجيال، جيشاً من «الاحتياطيين» المستعدين للمضي قدماً في تنفيذ سيناريوهات البنا لتحويل الحلم إلى حقيقة.
وفي هذا الإطار كذلك كانت تلك الجماعات ولا تزال -وأغلب الظن أنها ستظل طويلاً- منصة للانطلاق في مسارين:
المسار الأول، يتصل بالدول العربية سواء في منطقة الخليج العربي أو المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، ومحاولة استنساخ سيناريوهات الربيع المغشوش قبل 7 سنوات.
بينما يتصل المسار الثاني بتلك الجمعيات والمؤسسات التي أضحت حاضنات للفكر المتشدد والأصولي، ومن هنا عرف العديد من شباب تلك المجتمعات الأوروبية طريقه إلى التطرف، ما تم ترجمته في الانضمام إلى «داعش»، وباتت عودة هؤلاء إلى بلادهم بعد القضاء على «داعش» لوجيستياً في سوريا والعراق، خطراً جسيماً ماثلاً أمام أعين الأوروبيين، وباتوا غير قادرين على مداراة أو مواراة مخاوفهم من تعاظم مدهم، فيما الكارثة الكبرى لا تتمثل في الحوادث الإرهابية التي يمكن أن يقوموا بها على فداحتها، بل في تصاعد الفكر الداعشي، وتوالده ضمن صفوف جماعات أوروبية في طول البلاد وعرضها، ما يعرض أوروبا ومن جديد لمخاطر التوتاليتاريات التي عرفتها في النصف الثاني من القرن العشرين عبر النازية والفاشية.

{إخوان} أوروبا... شهادة من القلب
عادةً ما نعلم أدق أسرار جماعة الإخوان المسلمين من الأعضاء المنشقين عنها، هؤلاء غالباً وعند نقطة معينة يكتشفون كارثية المشهد الذي ينتمون إليه، وعليه يغادر بعضهم السفينة لسبب أو لآخر، والشهادات هنا عن «إخوان أوروبا» أكثر من أن نضمّنها المسطح المتاح للكتابة.
خذ إليك على سبيل المثال ما اختطّه الكاتب والباحث المغربي «محمد لويزي» الناشط السابق في حركات إسلامية تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، عبر كتابه المعنون «لهذه الأسباب غادرت الإخوان المسلمين».
في حوار له مع محطة «دويتشه فيلله» الألمانية حول استغلال الإخوان أجواء الحرية، يعود بنا إلى مايو (أيار) من عام 2001، حين اجتمعت قيادات الإخوان المسلمين الأوروبيين في جنيف بسويسرا لتدارس موضوع «كيف نربي أبناءنا في أوروبا؟»، وكان من بين الحاضرين القيادي الإخواني «أحمد جاب الله» وهو رئيس سابق للتنظيم الإخواني في فرنسا، ويومها قال: «إن حرية التعبير مكفولة في أوروبا في حدود واسعة، ولو أن هذا الأمر يُستخدم كذلك لترويج الأفكار الإباحية، لكنه يتيح فرصاً للتعبير عن الرأي، وهذا يمنح الفرد مجالاً للإفصاح عن آرائه، فيخلصه من عقدة الكبت والخوف»... ماذا يعني هذا الرأي؟
بلا شك هذا مثال واحد فقط للتدليل على استغلال فضاء الحرية والديمقراطية للدعوة والتوسع والانتشار مع الحرص الدائم على سلوك «التقية» والالتواء وعدم الإفصاح عن حقيقة تصوراتهم ونياتهم لكل ما يعتبرونه مخالفاً للدين كما يتصورونه، وهم لا يعدون ذلك تناقضاً بل يرونه تكتيكاً ذكياً يقع في شباكه بعض «السذج» من أنصارهم من غير المسلمين.

القرضاوي... دولة «الإخوان الأوروبية»
واحدة من أهم الدراسات التي قدمت عن إخوان أوروبا تلك التي قدمها الدكتور طارق دحروج «عن الجغرافيا السياسية لجماعة الإخوان في أوروبا» والمنشورة في صحيفة «الأهرام» المصرية أغسطس (آب) الماضي، ولعل ما يهمنا بنوع خاص فيها أنه يلفت نظرنا ومن جديد إلى «يوسف القرضاوي» الإخواني الطبع والتطبع عبر عقود طوال، والدور الذي لعبه خلال العقود الثلاثة الماضية في خلق الدولة الإخوانية داخل أوروبا... ماذا عن ذلك؟
أولاً، نذكِّر بأن قطر لا تزال هي المتهم الأول بتمويل كل تلك الجماعات في الداخل الأوروبي، وهو الأمر الذي يدركه كثير جداً من الباحثين والدارسين، فضلاً عن الأمنيين ورجالات الاستخبارات في أوروبا، غير أن «رنين ذهب المعز القطري» لا يزال يعمي كثيراً من عيون الأوروبيين بفضل التبرعات والمنح والهبات الآتية من الدوحة.
يعد القرضاوي «خميني الإخوان» إن جاز التعبير، وكان الرجل قد أصدر عام 1990 كتابه المعروف باسم «أولويات الحركة الإسلامية خلال المرحلة المقبلة»، ويبدو أن دالته على الفكر اليهودي والصهيوني بنوع خاص، قد مهدت له الطريق الفكري لاقتباس طرح «الجيتو اليهودي» التاريخي ليضحى حاضراً إسلامياً في أوروبا، ذلك أنه روّج لفكرة إنشاء مجتمع منفصل لمسلمي الغرب، أطلق عليه مصطلح «الجيتو المسلم في الغرب».
واعتُبر كتاب القرضاوي «الدستور الإخواني الجديد في الغرب»، وقد بلوره الشيخ الإخواني النافذ، للبناء على الرصيد الذي راكمته الأجيال الإخوانية السابقة وبخاصة في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ما مكّن للجميع العمل بشكل أفقي في القارة الأوروبية من خلال إنشاء اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الذي اتخذ من بريطانيا مقراً مؤقتاً له.
ولم يتوقف هذا الاتحاد عند حدود الدول الأوروبية القديمة التي وُجد بها تاريخياً، بل تمدد إلى أكثر من 18 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، وعند البروفسور «دحروج» النشاط الأكثر خطورة في أداء اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا إقدامه على تأميم فضاء الفتوى في القارة من خلال إنشاء المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء الذي يرأسه القرضاوي وتأسس عام 1996 في العاصمة الآيرلندية دبلن، ويعد إحدى الأذرع الرئيسية للتوسع الأفقي لجماعة الإخوان في أوروبا.
السؤال الفصل: كيف تركت أوروبا مثل هذه القوى تنمو على أراضيها، وخبراؤها يدركون الأبعاد الظلامية الحقيقية لمحتواها الآيديولوجي... وهل حان أوان انكشاف المستور؟
ومع السنوات السبع الماضية وما عاشته دول الشرق الأوسط من اضطرابات وقلاقل من جراء فصيل «الإخوان» ومن لفّ لفهم، ناهيك بالطامة الكبرى التي تمثلت في ظهور «داعش»، بات جلياً أن الأوروبيين يراجعون أوراقهم ويعيدون تقييم أحوال الإخوان على أراضيهم وفي مقدمتهم الألمان والبريطانيون بنوع خاص.
إحدى أهم آليات المراجعة الألمانية وجدنا أخبارها في الفترة الأخيرة لدى مشروع «كلاريون» الأميركي، المتخصص في شؤون مكافحة التطرف، ورغم أنه أميركي، فإنه قد أخضع إخوان أوروبا لدراسة تمحيصية عالية الجدوى، وذلك بالتعاطي مع وكالة الاستخبارات الألمانية، والنتيجة التي توصل إليها الألمان هي أن «الإخوان المسلمين تنظيم مخادع ومتطرف، يُظهر ما لا يبطن، ويقول علناً ما يخالف إيمانه وعقيدته السرية».
لدى الألمان «رجال» من المفكرين المهرة عميقي البحث والتنقيب في تاريخ الإخوان المسلمين منذ البدايات، ولديهم «المرجعيات» المتمثلة في المعاهد البحثية والدراسية المتخصصة، ولذلك كان من اليسير على مكتب حماية الدستور في ألمانيا (الاستخبارات الداخلية) أن يرصد بقلق تزايداً ملحوظاً في نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين» داخل ولاية ساكسونيا شرقي ألمانيا، وأن يعلن رئيس الهيئة المحلي بالولاية «جورديان ماير - بلات» أن جماعة «الإخوان المسلمين» استغلت عبر منظمات مثل الجمعية الثقافية (ملتقى ساكسونيا) نقص دور العبارة للمسلمين الذين قدموا إلى ساكسونيا كلاجئين، لتوسيع هياكلها، ونشر تصورها عن الإسلام السياسي.
وتخلْص الاستخبارات الألمانية إلى أن المؤسسات العاملة على أرضيها والتابعة للجماعة الإسلامية ليست إلا واجهة لـ«الإخوان» المسلمين في ألمانيا، وأنها وإن كانت تقوّم نفسها كمنظمات وجمعيات معتدلة تشجع على الحوار، إلا أنها تخفي أهدافها الحقيقية في ألمانيا والغرب، إذ هي ترفض قيماً رئيسية في النظام الديمقراطي الحر مثل الحرية الدينية أو المساواة بين الجنسين.

بريطانيا و{الإخوان}... فراق أم اتفاق؟
وأخيراً، تبقى العلاقة بين بريطانيا والإخوان المسلمين واحدة من أكثر العلاقات غموضاً بين دولة كبرى كانت إمبراطورية وبين جماعة سرية، وليس سراً أن البريطانيين دعموا الإخوان في نشأتهم وربما كانوا هم المنشئ الأصلي، وهذا حديث يطول... لكن ماذا عن اللحظة الآنيّة، وهل تغير موقف بريطانيا من الإخوان أم أن الأمر يدخل في باب المناورة والمداورة؟ ومع الوحشية التي اتسم بها «داعش» بنوع خاص، والتي هي وليدة «القاعدة» التي بدورها نتاج لفكر الإخوان، أمر رئيس الوزراء البريطاني وقتها (2014) «ديفيد كاميرون» بإجراء تحقيق حول علاقة جماعة الإخوان المسلمين بحركات الإرهاب حول العالم عامة، وفي أوروبا بنوع خاص، وبعد نحو 20 شهراً من البحث والتحري والمتابعة المحققة والمدققة خلص القائمون على التحقيق إلى أن «الانتماء إلى الإخوان المسلمين بداية الطريق نحو التطرف». لكن العمليات الإرهابية التي شهدتها بريطانيا منذ ذلك الوقت و4 منها جرت عام 2017، وراح ضحيتها نحو 40 مواطناً ومقيماً، جعلت العيون والعقول تنفتح من جديد على حقيقة المشهد الإخواني في الداخل البريطاني.
وفي الأسبوع الأول من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي كان وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، «أليستر بيرت»، يكتب عن نية الحكومة البريطانية تغيير سياستها في مكافحة الإرهاب والتضييق على الجماعات المتطرفة ومنها «الإخوان المسلمين».
ولاحقاً رأينا أصواتاً بريطانية نافذة توجه نصالاً حادة إلى قلب الإخوان في بريطانيا، أصوات مثل «الكولونيل تيم كولنز» مؤسس منظمة «نيوسينشرى» لمكافحة الإرهاب، والذي أشار إلى أن أفراد الإخوان في بلاده «يستخدمون جمعيات ومؤسسات تعطيهم نفوذاً وحجماً أكبر من حقيقتهم، وأنهم تنظيم يستغل الدين لأغراض سياسية ويسعى لإقامة دولتهم دون احترام للمكونات الأخرى»، كما فجر «كولنز» الحقائق الخطيرة بالنسبة إلى الأوروبيين، والمتمثلة في أن تنظيم الإخوان يستطيع أن يلعب بعقول بعض المواطنين المسلمين المقيمين في الغرب، ويقوم بتحويلهم إلى أشخاص خطيرين ومستعدين للقيام بأعمال خطيرة ضد أوطانهم الجديدة في الغرب.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.