حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

عندما تستخدم الديمقراطية والحرية طريقاً نحو تعزيز التيارات الأصولية

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا
TT

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

حالة «الإخوان المسلمين» في أوروبا

هل بدأت أوروبا تراجع مواقفها من جماعة «الإخوان المسلمين»، بعد أن تبين كثرة ازدواجيتها الأخلاقية، وكيف أنها تستغل أجواء الديمقراطية الأوروبية المتاحة للجميع لتنفيذ أجندتها داخل أوروبا وخارجها دفعة واحدة؟
الشاهد أن الفترة الماضية شهدت أحداثاً ومراجعات عديدة تؤكد ما نقول به. فقد أثبتت الأحداث، وبخاصة في ضوء موقف الجماعة في أوروبا من الانتخابات الرئاسية المصرية، أن الإخوان لم يرتدعوا رغم كل ما لحق بهم من هزائم على الأرض، ومن رفض شعبوي ونخبوي لمشروعهم، بدا ذلك في صورة الملايين التي خرجت إلى الميادين مطالبة بعزلهم وإقصائهم، ولاحقاً تصنيف الجماعة كونها «فصيلاً إرهابياً». على أن السؤال الجوهري في هذه القراءة: هل كان موقف «إخوان أوروبا» من مصر وما يجري فيها هو السبب الرئيسي في إعادة قراءة الأجهزة الاستخبارية في بعض الدول الأوروبية حقيقة جماعة الإخوان المسلمين، المعين الأول والأكبر الذي خرج من جوفه كل التيارات الأصولية والجهادية حول العالم العربي، عطفاً على انتشارها وما تسببه من كوارث في أوروبا وأميركا؟
في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، وبينما كان المرشحون للانتخابات الرئاسية المصرية يجهزون أوراقهم للترشح، طُرح على المائدة اسم رئيس أركان الجيش المصري الأسبق الفريق سامي عنان، والذي أثيرت حوله شائعات كثيرة حول علاقته بجماعة الإخوان. لم تكن قصة ترشيح الرجل هي القضية أو الإشكالية بل موقف الإخوان المسلمين منه، لا سيما القيادات الهاربة إلى أوروبا، والتي أعطتها دول القارة العجوز حقوقاً تستحق المراجعة اليوم، وبعضها يراجع بالفعل وبدأ في اتخاذ مواقف بعينها. في هذا السياق كان المفوض السابق لـ«الإخوان» المسلمين والمكلف بإدارة ملف العلاقات الدولية للجماعة «يوسف ندا» يوجه رسالة إلى الفريق عنان، أقل ما توصف به أنها «لعب على المتناقضات» و«حلم بالعودة إلى الماضي»، غير أن اللعب والحلم مرتبطان بشروط ستة إخوانية إن أراد «عنان قبل إبطال ترشحه» أن يحصد أصوات الإسلامويين من إخوان وسلفيين وجهاديين وبقية الدائرة المعروفة. في رسالة «ندا» لـ«عنان» قوله: «أقول لك بلا مواربة إن الإخوان المسلمين سيظلون مع التوافق الوطني، وقد يقبلون بانتخابات للرئاسة مراعاةً لعدة أمور». يستوقفنا هنا بداية الحديث الزائف عن فكرة «التوافق الوطني»، ذلك أن الإخوان لم يكونوا يوماً في سياق الفصيل الوطني البنّاء، وإنما جماعة فوقية دوجمائية، تصنف ضمن مَن يُعرفون بـ«ملاّك» الحقيقة المطلقة، وإن كانت حقيقتهم دائماً ملتصقة بالعنف والإرهاب، وموصومة بالكذب والرياء والخداع.
ويبدو السيد «ندا» في حديثه كأن له الباع الطويل في الموافقة على الانتخابات الرئاسية، ولهذا قد يقبل، وربما لا يقبل هو وجماعته بها، إلا مراعاة لتقديراته هو وجماعته. مهما يكن من أمر، فإن «ندا» وضع 6 محددات حتى تقبل جماعة الإخوان بترشح عنان وهي: عودة الجيش لخدمة الشعب وحمايته وحماية الدولة- إعادة الاعتبار لنتائج الانتخابات والطلب من رئيسها المنتخب محمد مرسي التنازل لصالح الأمة- «تطهير القضاء» وإلغاء الأحكام المسيسة التي حكمت في عهده- الإفراج عن المعتقلين وتعويضهم- تطهير الشرطة- إعادة النظر في القرارات المتعلقة بثروة مصر وحدودها.
تحتاج مناقشة هذه المحددات إلى أكثر من قراءة قائمة بذاتها، غير أنه وباختصار غير مخلٍّ نحن أمام طرح انقلابي إخواني يعكس نياتها الحقيقية لا تجاه مصر الكنانة فحسب، بل لجهة مخططهم الأكبر للسيطرة على مقدرات العالم بأسره وأوروبا في البداية، بعد أن تسلقوا هناك سلم الديمقراطية مرة واحدة، ومن ثم يحاولون –إنْ قدّر لهم– إزاحته بعيداً إلى الأبد، كي يتم لهم تنفيذ مخططهم الأوسع.

من حلم البنا إلى حاضرات أيامنا
قبل أن يحلم الخميني في نهاية سبعينات القرن الماضي، بأن يرفرف علم الثورة الإيرانية على العواصم العربية، مصدِّراً ثورته، سبقه حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، في حلم يخص أوروبا الجار الأقرب جغرافياً، والأكثر تشابكاً ديموغرافياً، والأوثق علاقة تاريخياً مع العرب والمسلمين، حلم أن يرى علم جماعة الإخوان يرفرف على كل أنحاء العالم بدءاً من أوروبا.
ولعل مساقات الأحداث وما جرى من خلافات عميقة بين عبد الناصر والإخوان، قد فتح الباب واسعاً لهجرة هؤلاء في خمسينات وستينات القرن الماضي إلى أوروبا، كان في مقدمهم زوج ابنته «سعيد رمضان» والد «طارق رمضان» الذي تم توقيفه الأيام الماضية بتهمة مخلة بالأخلاق، ما يؤكد الازدواجية الروحية والأدبية التي تحكم الجماعة ونظرتها إلى أوروبا والأوروبيين.
عبر 7 عقود وفي مناخات أوروبية توفر مظلة واسعة للحريات الدينية استغل الإخوان تلك الأجواء في تأسيس مئات الجماعات والجمعيات تحت عناوين المؤسسات الشبابية والخيرية والإرشادية، ناهيك بالأنشطة المرافقة لها، الأمر الذي وفّر لـ«الإخوان» عبر 3 أجيال، جيشاً من «الاحتياطيين» المستعدين للمضي قدماً في تنفيذ سيناريوهات البنا لتحويل الحلم إلى حقيقة.
وفي هذا الإطار كذلك كانت تلك الجماعات ولا تزال -وأغلب الظن أنها ستظل طويلاً- منصة للانطلاق في مسارين:
المسار الأول، يتصل بالدول العربية سواء في منطقة الخليج العربي أو المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط، ومحاولة استنساخ سيناريوهات الربيع المغشوش قبل 7 سنوات.
بينما يتصل المسار الثاني بتلك الجمعيات والمؤسسات التي أضحت حاضنات للفكر المتشدد والأصولي، ومن هنا عرف العديد من شباب تلك المجتمعات الأوروبية طريقه إلى التطرف، ما تم ترجمته في الانضمام إلى «داعش»، وباتت عودة هؤلاء إلى بلادهم بعد القضاء على «داعش» لوجيستياً في سوريا والعراق، خطراً جسيماً ماثلاً أمام أعين الأوروبيين، وباتوا غير قادرين على مداراة أو مواراة مخاوفهم من تعاظم مدهم، فيما الكارثة الكبرى لا تتمثل في الحوادث الإرهابية التي يمكن أن يقوموا بها على فداحتها، بل في تصاعد الفكر الداعشي، وتوالده ضمن صفوف جماعات أوروبية في طول البلاد وعرضها، ما يعرض أوروبا ومن جديد لمخاطر التوتاليتاريات التي عرفتها في النصف الثاني من القرن العشرين عبر النازية والفاشية.

{إخوان} أوروبا... شهادة من القلب
عادةً ما نعلم أدق أسرار جماعة الإخوان المسلمين من الأعضاء المنشقين عنها، هؤلاء غالباً وعند نقطة معينة يكتشفون كارثية المشهد الذي ينتمون إليه، وعليه يغادر بعضهم السفينة لسبب أو لآخر، والشهادات هنا عن «إخوان أوروبا» أكثر من أن نضمّنها المسطح المتاح للكتابة.
خذ إليك على سبيل المثال ما اختطّه الكاتب والباحث المغربي «محمد لويزي» الناشط السابق في حركات إسلامية تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، عبر كتابه المعنون «لهذه الأسباب غادرت الإخوان المسلمين».
في حوار له مع محطة «دويتشه فيلله» الألمانية حول استغلال الإخوان أجواء الحرية، يعود بنا إلى مايو (أيار) من عام 2001، حين اجتمعت قيادات الإخوان المسلمين الأوروبيين في جنيف بسويسرا لتدارس موضوع «كيف نربي أبناءنا في أوروبا؟»، وكان من بين الحاضرين القيادي الإخواني «أحمد جاب الله» وهو رئيس سابق للتنظيم الإخواني في فرنسا، ويومها قال: «إن حرية التعبير مكفولة في أوروبا في حدود واسعة، ولو أن هذا الأمر يُستخدم كذلك لترويج الأفكار الإباحية، لكنه يتيح فرصاً للتعبير عن الرأي، وهذا يمنح الفرد مجالاً للإفصاح عن آرائه، فيخلصه من عقدة الكبت والخوف»... ماذا يعني هذا الرأي؟
بلا شك هذا مثال واحد فقط للتدليل على استغلال فضاء الحرية والديمقراطية للدعوة والتوسع والانتشار مع الحرص الدائم على سلوك «التقية» والالتواء وعدم الإفصاح عن حقيقة تصوراتهم ونياتهم لكل ما يعتبرونه مخالفاً للدين كما يتصورونه، وهم لا يعدون ذلك تناقضاً بل يرونه تكتيكاً ذكياً يقع في شباكه بعض «السذج» من أنصارهم من غير المسلمين.

القرضاوي... دولة «الإخوان الأوروبية»
واحدة من أهم الدراسات التي قدمت عن إخوان أوروبا تلك التي قدمها الدكتور طارق دحروج «عن الجغرافيا السياسية لجماعة الإخوان في أوروبا» والمنشورة في صحيفة «الأهرام» المصرية أغسطس (آب) الماضي، ولعل ما يهمنا بنوع خاص فيها أنه يلفت نظرنا ومن جديد إلى «يوسف القرضاوي» الإخواني الطبع والتطبع عبر عقود طوال، والدور الذي لعبه خلال العقود الثلاثة الماضية في خلق الدولة الإخوانية داخل أوروبا... ماذا عن ذلك؟
أولاً، نذكِّر بأن قطر لا تزال هي المتهم الأول بتمويل كل تلك الجماعات في الداخل الأوروبي، وهو الأمر الذي يدركه كثير جداً من الباحثين والدارسين، فضلاً عن الأمنيين ورجالات الاستخبارات في أوروبا، غير أن «رنين ذهب المعز القطري» لا يزال يعمي كثيراً من عيون الأوروبيين بفضل التبرعات والمنح والهبات الآتية من الدوحة.
يعد القرضاوي «خميني الإخوان» إن جاز التعبير، وكان الرجل قد أصدر عام 1990 كتابه المعروف باسم «أولويات الحركة الإسلامية خلال المرحلة المقبلة»، ويبدو أن دالته على الفكر اليهودي والصهيوني بنوع خاص، قد مهدت له الطريق الفكري لاقتباس طرح «الجيتو اليهودي» التاريخي ليضحى حاضراً إسلامياً في أوروبا، ذلك أنه روّج لفكرة إنشاء مجتمع منفصل لمسلمي الغرب، أطلق عليه مصطلح «الجيتو المسلم في الغرب».
واعتُبر كتاب القرضاوي «الدستور الإخواني الجديد في الغرب»، وقد بلوره الشيخ الإخواني النافذ، للبناء على الرصيد الذي راكمته الأجيال الإخوانية السابقة وبخاصة في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ما مكّن للجميع العمل بشكل أفقي في القارة الأوروبية من خلال إنشاء اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الذي اتخذ من بريطانيا مقراً مؤقتاً له.
ولم يتوقف هذا الاتحاد عند حدود الدول الأوروبية القديمة التي وُجد بها تاريخياً، بل تمدد إلى أكثر من 18 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي، وعند البروفسور «دحروج» النشاط الأكثر خطورة في أداء اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا إقدامه على تأميم فضاء الفتوى في القارة من خلال إنشاء المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء الذي يرأسه القرضاوي وتأسس عام 1996 في العاصمة الآيرلندية دبلن، ويعد إحدى الأذرع الرئيسية للتوسع الأفقي لجماعة الإخوان في أوروبا.
السؤال الفصل: كيف تركت أوروبا مثل هذه القوى تنمو على أراضيها، وخبراؤها يدركون الأبعاد الظلامية الحقيقية لمحتواها الآيديولوجي... وهل حان أوان انكشاف المستور؟
ومع السنوات السبع الماضية وما عاشته دول الشرق الأوسط من اضطرابات وقلاقل من جراء فصيل «الإخوان» ومن لفّ لفهم، ناهيك بالطامة الكبرى التي تمثلت في ظهور «داعش»، بات جلياً أن الأوروبيين يراجعون أوراقهم ويعيدون تقييم أحوال الإخوان على أراضيهم وفي مقدمتهم الألمان والبريطانيون بنوع خاص.
إحدى أهم آليات المراجعة الألمانية وجدنا أخبارها في الفترة الأخيرة لدى مشروع «كلاريون» الأميركي، المتخصص في شؤون مكافحة التطرف، ورغم أنه أميركي، فإنه قد أخضع إخوان أوروبا لدراسة تمحيصية عالية الجدوى، وذلك بالتعاطي مع وكالة الاستخبارات الألمانية، والنتيجة التي توصل إليها الألمان هي أن «الإخوان المسلمين تنظيم مخادع ومتطرف، يُظهر ما لا يبطن، ويقول علناً ما يخالف إيمانه وعقيدته السرية».
لدى الألمان «رجال» من المفكرين المهرة عميقي البحث والتنقيب في تاريخ الإخوان المسلمين منذ البدايات، ولديهم «المرجعيات» المتمثلة في المعاهد البحثية والدراسية المتخصصة، ولذلك كان من اليسير على مكتب حماية الدستور في ألمانيا (الاستخبارات الداخلية) أن يرصد بقلق تزايداً ملحوظاً في نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين» داخل ولاية ساكسونيا شرقي ألمانيا، وأن يعلن رئيس الهيئة المحلي بالولاية «جورديان ماير - بلات» أن جماعة «الإخوان المسلمين» استغلت عبر منظمات مثل الجمعية الثقافية (ملتقى ساكسونيا) نقص دور العبارة للمسلمين الذين قدموا إلى ساكسونيا كلاجئين، لتوسيع هياكلها، ونشر تصورها عن الإسلام السياسي.
وتخلْص الاستخبارات الألمانية إلى أن المؤسسات العاملة على أرضيها والتابعة للجماعة الإسلامية ليست إلا واجهة لـ«الإخوان» المسلمين في ألمانيا، وأنها وإن كانت تقوّم نفسها كمنظمات وجمعيات معتدلة تشجع على الحوار، إلا أنها تخفي أهدافها الحقيقية في ألمانيا والغرب، إذ هي ترفض قيماً رئيسية في النظام الديمقراطي الحر مثل الحرية الدينية أو المساواة بين الجنسين.

بريطانيا و{الإخوان}... فراق أم اتفاق؟
وأخيراً، تبقى العلاقة بين بريطانيا والإخوان المسلمين واحدة من أكثر العلاقات غموضاً بين دولة كبرى كانت إمبراطورية وبين جماعة سرية، وليس سراً أن البريطانيين دعموا الإخوان في نشأتهم وربما كانوا هم المنشئ الأصلي، وهذا حديث يطول... لكن ماذا عن اللحظة الآنيّة، وهل تغير موقف بريطانيا من الإخوان أم أن الأمر يدخل في باب المناورة والمداورة؟ ومع الوحشية التي اتسم بها «داعش» بنوع خاص، والتي هي وليدة «القاعدة» التي بدورها نتاج لفكر الإخوان، أمر رئيس الوزراء البريطاني وقتها (2014) «ديفيد كاميرون» بإجراء تحقيق حول علاقة جماعة الإخوان المسلمين بحركات الإرهاب حول العالم عامة، وفي أوروبا بنوع خاص، وبعد نحو 20 شهراً من البحث والتحري والمتابعة المحققة والمدققة خلص القائمون على التحقيق إلى أن «الانتماء إلى الإخوان المسلمين بداية الطريق نحو التطرف». لكن العمليات الإرهابية التي شهدتها بريطانيا منذ ذلك الوقت و4 منها جرت عام 2017، وراح ضحيتها نحو 40 مواطناً ومقيماً، جعلت العيون والعقول تنفتح من جديد على حقيقة المشهد الإخواني في الداخل البريطاني.
وفي الأسبوع الأول من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي كان وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، «أليستر بيرت»، يكتب عن نية الحكومة البريطانية تغيير سياستها في مكافحة الإرهاب والتضييق على الجماعات المتطرفة ومنها «الإخوان المسلمين».
ولاحقاً رأينا أصواتاً بريطانية نافذة توجه نصالاً حادة إلى قلب الإخوان في بريطانيا، أصوات مثل «الكولونيل تيم كولنز» مؤسس منظمة «نيوسينشرى» لمكافحة الإرهاب، والذي أشار إلى أن أفراد الإخوان في بلاده «يستخدمون جمعيات ومؤسسات تعطيهم نفوذاً وحجماً أكبر من حقيقتهم، وأنهم تنظيم يستغل الدين لأغراض سياسية ويسعى لإقامة دولتهم دون احترام للمكونات الأخرى»، كما فجر «كولنز» الحقائق الخطيرة بالنسبة إلى الأوروبيين، والمتمثلة في أن تنظيم الإخوان يستطيع أن يلعب بعقول بعض المواطنين المسلمين المقيمين في الغرب، ويقوم بتحويلهم إلى أشخاص خطيرين ومستعدين للقيام بأعمال خطيرة ضد أوطانهم الجديدة في الغرب.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.