«الجحش» أسسه «العلاف الأول» ليصبح مقصداً لعشاق الفول والطعمية بالقاهرة

تأكل فيه صامتاً لتستمتع بالنكات والضحك

مطعم الجحش يقصده محبو الأطباق المصرية الشعبية مثل الفول والطعمية
مطعم الجحش يقصده محبو الأطباق المصرية الشعبية مثل الفول والطعمية
TT

«الجحش» أسسه «العلاف الأول» ليصبح مقصداً لعشاق الفول والطعمية بالقاهرة

مطعم الجحش يقصده محبو الأطباق المصرية الشعبية مثل الفول والطعمية
مطعم الجحش يقصده محبو الأطباق المصرية الشعبية مثل الفول والطعمية

في مطعم الجحش بمنطقة السيدة زينب ليس من تقاليد أصحاب المحل أن تتناول طعامك من الفول والطعمية والباذنجان المخلل أو المقلي، صامتاً، العاملون هناك يوزعون النكات الساخرة والقفشات المضحكة، بين الجالسين على المقاعد والطاولات، يستقبلك عم نخلة أطول العاملين وأكبرهم سناً، بابتسامة عريضة، وحين ينتهي من عرض قائمة الوجبات عليك، يبدأ في مناداة أحد زملائه، يا جحش: «فول وبطاطس، وطعمية، وزود (العلفة) إشارة إلى علف الحيوانات»... دقائق ويأتي لك بطبق البصل الأخضر، والخيار، والجرجير، والفجل، والطماطم، والباذنجان المحشو بالخلطة الحامية، وهي مزيج من الشطة الحمراء، والثوم، والبهارات.
التقيت عم «نخلة» بعد أن قابلت سيدة أربعينية تجلس على كرسي في مدخل المطعم، فوقها يافطة كتب عليها باللون الأحمر «مطعم الجحش»، وعلى يسارها إلى أعلى كلمة «فول» بخط أزرق، وفي المنتصف مجسم لحمار باللون الأبيض، استقبلتني السيدة بابتسامة طيبة، تشبه ابتسامة ابنة الجيران، وكأنها تعرفني منذ زمن، قالت لي إن نخلة هو الوحيد الذي يعرف تاريخ المحل.
ويعتبر الفول البلدي المحصول البقولي الأول في مصر من حيث المساحة المنزرعة، وترجع أهميته إلى قيمته الغذائية العالية، والتي تصل إلى 28 في المائة من البروتين، و58 في المائة من الكربوهيدرات، فضلاً عن العديد من الفيتامينات والعناصر المفيدة الأخرى.
جلست وسط صالة الطعام، صور «الجحش» الحمار الصغير، تنتشر في كل الأركان، فوق الحوائط، وعلى الأعمدة... بدأ عم نخلة الذي كان يرتدي قميصاً على هيئة علم مصر، يسرد حكاية «الجحوشية» التي قادت الناس من كل الجنسيات لزيارة ميدان السيدة، والاستمتاع بأكلة فول مختلفة عن سائر مطاعم العاصمة المصرية، قال في البداية: كنا لا نملك سوى عربة فول هنا في الميدان، كان صاحبها بمثابة «العلَّاف الأول»، وهو حنفي الجحش، جاءه الزبائن من كل مكان، وذاع صيته في الأحياء القريبة والبعيدة، بعدها انتقل إلى محل صغير، كان أمامه ساحة واسعة وضع فيها طاولات كبيرة لاستقبال ضيوفه، وكانت تمتلئ بهم على الدوام، وبخاصة في أيام وليالي شهر رمضان.
وهناك عدد من أصناف الفول المعروفة تقارب 12 صنفا، منها: جيزة 3، وجيزة 2، وجيزة 402، وسخا 4، والنوبارية 1، و2، و3. وتزرع جميعها في النصف الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول)، بصعيد مصر، ومنطقتي الدلتا ومصر الوسطى أوائل نوفمبر (تشرين الثاني)، ويحرص المصريون على زراعته في هذين الشهرين، لأن التبكير أو التأخير عن هذين الموعدين يؤدي إلى نقص يصل إلى 40 في المائة، من المحصول الاستراتيجي الذي عرفه المصريون من قديم الزمان.
دخل بعض الزبائن، عرف نخلة من هيئتهم أنهم أوروبيون، نادي على فتى صغير: «يا جحش»، نظف الطاولة. في الركن هناك، أجلس الضيوف حيث يريدون، واستأذن دقائق، ثم عاد يحكي عن مرحلة تالية في تاريخ «الجحش»، حدثني عن رواد كثيرين زاروا المحل يشار لهم بالبنان، رجال أعمال مصريين، وعرب، فضلا عن الأجانب الذين راح يناوش بعضهم، وهو يقول: «تعرف حضرتك لو الاتحاد الأوروبي حاول عمل اجتماع مثل هذا، لأعيته الحيلة، لكن كما ترى الجحش يمكن أن يعقده في ساعة».
وجعل الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الفول وجبة أساسية يبدأ بها المصريون يومهم، وكان وقتها يعطي بائعه الذي يتجول في الشوارع بعربة يجرها، مقداراً من الذهب سنوياً، تعويضاً له عما يعانيه من تعب في الطهي والسير بين الأحياء، وقد دفع هذا التقدير الذي أولاه سلاطين وحكام البلاد، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، والسعي إلى محاولات تصديره، وهو ما كان يتم حتى فترة السبعينيات، لكنه تراجع بعد ذلك حتى 35 في المائة، حسب تقرير أصدره مركز البحوث الزراعية في نهاية شهر نوفمبر من العام الفائت، ليتم استيراد الباقي من الخارج.
سرح نخلة في الزمن البعيد، وعاد ليقول: «إن الشيخ الشعراوي، رحمة الله عليه، كان يأتي إلينا، ويحب وجباتنا»، ثم حدثني عن الممثل المصري طلعت زكريا الذي ذكَّر جمهوره بعربة فول المعلم حنفي، في حوار له داخل أحداث فيلمه «طباخ الريس».
غاب عم نخلة قليلا وعاد معتذراً، لأنه يجب عليه أن يقدم الأطباق بنفسه للزبائن، ذكر أنه وزع أكثر من جحش في أنحاء المطعم، أحدهم على الفرش، يقصد أنواع الطعام، وآخر في المخزن واثنان للسُّفرة، في الداخل والخارج، فضلا عن الجحش الذي يبلغ الناس بلائحة طعامه المصري الشعبي الموروث والمعروف للقاصي والداني: «نحن لا نبيع لحوما فاسدة ولا دجاجا منتهي الصلاحية. كل شيء لدينا من إنتاج أرضنا الطيبة ومزارعنا التي لا تبخل علينا بشيء».
ولفت إلى أن المحل الصغير ظل مفتوحاً حتى ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، عندها شعرنا بأن عدة المطعم من أطباق وقدور وخزين عرضة للخطر، بسبب الانفلات الأمني الذي كان سائداً وقتها، عند ذلك قررنا الانتقال إلى هذا المكان، وتوسيع «الزريبة»، لتكون قادرة على استيعاب أكبر عدد من رعايا «الأمم المتحدة»، قالها وهو يشير إلى أن قاعة الجحش قادرة على حل مشكلات العالم ونشر الحب والسلام بين أبناء الشعوب المختلفة دون الحاجة للسلاح وسفك الدماء والقتل، «كل شيء هنا يمكن أن يحصل بالمفاوضات، عَلفة فول واحدة وتنتهي كل أسباب النزاعات والحروب».
زبائن الجحش، حسب عم نخلة لا ينحصرون في طبقة واحدة، بل يأتي له الناس من جميع الطبقات، سواء الشعبية، أو الأغنياء، أما عن أسعار الوجبات فهي واحدة لا تتجاوز الخمسين جنيها، دولارين ونص تقريباً، يمكن لأي جائع أن يزورنا ويخرج وهو يشعر بشبع لا يغادره إلا بعد ساعات طويلة، لأن فولنا «حياته أطول».
نحن نستقبل الناس بترحاب كبير، ونضاحكهم، نقول لهم: «ابتسموا أنتم في حضرة الجحش»، لتنفتح نفوسهم بسعادة، على طعامنا. ندعهم يأكلون بأريحية مطلقة، وحين ينتهون نودعهم بحب، ليعودوا لنا مرة أخرى، وهم يشتهون ما نقدم لهم من أطباق.


مقالات ذات صلة

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

صحتك 6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

لا يزال كبار الطهاة العالميين، إضافة إلى ربات البيوت الماهرات في الطهي، يستخدمون أواني الطهي المصنوعة من الحديد الزهر Cast Iron Cookware.

د. عبير مبارك (الرياض)
مذاقات توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات إم غريل متخصص بالمشاوي (الشرق الاوسط)

دليلك إلى أفضل المطاعم الحلال في كاليفورنيا

تتمتع كاليفورنيا بمشهد ثقافي غني ومتنوع، ويتميز مطبخها بكونه خليطاً فريداً من تقاليد عالمية ومكونات محلية طازجة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
مذاقات صندوق من الكعك والكعك المحلى من إنتاج شركة «غريغز سويت تريتس» في نيوكاسل أبون تاين - بريطانيا (رويترز)

حلويات خطيرة لا يطلبها طهاة المعجنات أبداً في المطاعم

في بعض المطاعم والمقاهي، توجد بعض الخيارات الاحتياطية التي تجعل طهاة المعجنات حذرين من إنفاق أموالهم عليها؛ لأنها على الأرجح خيار مخيب للآمال.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
مذاقات «الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

«الأقاشي» السودانية تغازل سفرة المصريين

لقمة خبز قد تأسر القلب، ترفع الحدود وتقرب الشعوب، هكذا يمكن وصف التفاعل الدافئ من المصريين تجاه المطبخ السوداني، الذي بدأ يغازلهم ووجد له مكاناً على سفرتهم.

إيمان مبروك (القاهرة)

المؤثرة «ماما الطبّاخة» نموذج للمرأة العربية العصامية

تقول إن مهنتها صعبة وتصلح للرجال أكثر من النساء (ماما طباّخة)
تقول إن مهنتها صعبة وتصلح للرجال أكثر من النساء (ماما طباّخة)
TT

المؤثرة «ماما الطبّاخة» نموذج للمرأة العربية العصامية

تقول إن مهنتها صعبة وتصلح للرجال أكثر من النساء (ماما طباّخة)
تقول إن مهنتها صعبة وتصلح للرجال أكثر من النساء (ماما طباّخة)

تلتصق بالأرض كجذور شجرة منتصبة تصارع العواصف بصلابة بانتظار الربيع. زينب الهواري تمثل نموذجاً للمرأة العربية المتمكنّة. فهي تطهو وتزرع وتحصد المواسم، كما تربّي طفلتها الوحيدة المقيمة معها في إحدى البلدات النائية في شمال لبنان. غادرت زينب بلدها مصر وتوجّهت إلى لبنان، ملتحقة بجذور زوجها الذي رحل وتركها وحيدة مع ابنتها جومانا. تركت كل شيء خلفها بدءاً من عملها في وزارة الثقافة هناك، وصولاً إلى عائلتها التي تحب. «كنت أرغب في بداية جديدة لحياتي. لم أفكّر سوى بابنتي وكيف أستطيع إعالتها وحيدة. أرض لبنان جذبتني وصارت مصدر رزقي. هنا كافحت وجاهدت، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي رحت أنشر ما أقوم به. توسّع جمهوري ليطول الشرق والغرب. اليوم تنتظرني آلاف النساء كي يتعلمّن مني وصفة طعام لذيذة. وكذلك يكتسبن من منشوراتي الإلكترونية كيفية تحضير المونة من موسم لآخر».

"ماما الطبّاخة" تزرع وتسعد بحصاد موسم الخرشوف (ماما طباّخة)

تروي زينب لـ«الشرق الأوسط» قصة حياتها المليئة بمواقف صعبة. «كانت ابنة أختي التي رحلت في زمن (كورونا) هي ملهمتي. قبلها كنت أجهل كيف أتدبّر أمري. فتحت لي حساباً إلكترونياً، ونصحتني بأن أزود المشاهدين بوصفات طعام. وانطلقت في مشواري الجديد. لعلّ جارتي أولغا هي التي لعبت الدور الأكبر في تقدمي وتطوري. علّمتني طبخات لبنانية أصيلة. كما عرّفتني على أنواع المونة اللبنانية اللذيذة. كل ما أقوم به أصنعه من مكونات طبيعية بعيداً عن أي مواد كيمائية. أزرع وأحصد وأطهو على الحطب. أعيش بسلام في قرية نائية مع ابنتي. هنا اكتشفت معنى الحياة الهانئة والحقيقية».

تحب تحضير الطعام كي تسعد الناس حولها (ماما طباّخة)

قصتها مع الطبخ بدأت منذ كانت في الـ13 من عمرها. «كانت والدتي تعمل فأقوم بمهام المطبخ كاملة. صحيح أنني درست الفنون الجميلة، ولكن موهبة الطهي أسرتني. في لبنان بدأت من الصفر عملت في مطعم وتابعت دورات مع شيف عالمي. اكتسبت الخبرة وتعلّمت أصول المطبخ الإيطالي والصيني. ولكنني عشقت المطبخ اللبناني وتخصصت به».

تصف حياتها بالبسيطة وبأنها تعيش ع «البركة» كما يقولون في القرى اللبنانية. وعن منشوراتها تقول: «أحضّر الطبق مباشرة أمام مشاهديّ. وكذلك أي نوع مونة يرغبون في تعلّم كيفية تحضيرها. أمضي وقتي بين الأرض والحصاد والطبخ. أجد سعادتي هنا وبقربي ابنتي التي صارت اليوم تفضّل الاعتناء بالدجاج وقطف المحصول على أن تنتقل إلى بيروت. إنها ذكية وتحقق النجاح في دراستها. أتمنى أن تصل إلى كل ما تحلم به عندما تكبر. فكل ما أقوم به هو من أجل عينيها».

مع ابنتها جومانا التي تساعدها في تحضير منشوراتها الإلكترونية (ماما طباّخة)

وعن سرّ أطباقها اللذيذة ووصفاتها التي وصلت الشرق والغرب تقول: «أحب عملي، والنجاح هو نتيجة هذا الحبّ. لطالما كنت أبحث عما يسرّ من هم حولي. ومع الطبق اللذيذ والشهي كنت أدخل الفرح لمن يحيط بي. اليوم كبرت دائرة معارفي من الجمهور الإلكتروني، وتوسّعت حلقة الفرح التي أنثرها. وأسعد عندما يرسلون إلي نجاحهم في وصفة قلّدونني فيها. برأيي أن لكل ربّة منزل أسلوبها وطريقتها في تحضير الطعام. وأنصح النساء بأن تحضّرن الطعام لعائلتهن بحبّ. وتكتشفن مدى نجاحهن وما يتميّزن به».

لقبها «ماما الطبّاخة» لم يأتِ عن عبث. وتخبر «الشرق الأوسط» قصّتها: «كانت جومانا لا تزال طفلة صغيرة عندما كان أطفال الحي يدعونها لتناول الطعام معهم. ترفض الأمر وتقول لهم: سأنتظر مجيء والدتي فماما طباخة وأحب أن آكل من يديها. وهكذا صار لقب (ماما الطباخة) يرافقني كاسم محبب لقلبي».

ببساطة تخبرك زينب كيف تزرع وتحصد الباذنجان لتحوّله إلى مكدوس بالجوز وزيت الزيتون. وكذلك صارت لديها خبرة في التعرّف إلى الزعتر اللذيذ الذي لا تدخله مواد مصطنعة. حتى صلصة البيتزا تحضّرها بإتقان، أمام كاميرا جهازها المحمول، وتعطي متابعيها النصائح اللازمة حول كيفية التفريق بين زيت زيتون مغشوش وعكسه.

تحلم زينب بافتتاح مطعم خاص بها ولكنها تستدرك: «لا أملك المبلغ المالي المطلوب، إمكانياتي المادية بالكاد تكفيني لأعيل ابنتي وأنفّذ منشوراتي الإلكترونية. فشراء المكونات وزرع المحصول وحصاده والاعتناء بالأرض عمليات مكلفة مادياً. والأهم هو تفرّغي الكامل لعملي ولابنتي. فأنا لا أحب المشاركة في صبحيات النساء وتضييع الوقت. وعندما أخلد إلى النوم حلم واحد يراودني هو سعادة ابنتي».

مؤخراً صارت «ماما الطبّاخة» كما تعرّف عن نفسها على صفحة «تيك توك»، تصدّر المونة اللبنانية إلى الخارج: «زبائني يتوزعون على مختلف بقاع الأرض. بينهم من هو موجود في الإمارات العربية والسعودية ومصر، وغيرهم يقيمون في أستراليا وأوروبا وأميركا وبلجيكا وأوكرانيا. أتأثر إلى حدّ البكاء عندما ألمس هذا النجاح الذي حققته وحدي. واليوم صرت عنواناً يقصده كل من يرغب في الحصول على منتجاتي. وأحياناً سيدة واحدة تأخذ على عاتقها حمل كل طلبات جاراتها في بلاد الاغتراب. إنه أمر يعزيني ويحفزّني على القيام بالأفضل».

لا تنقل أو تنسخ زينب الهواري وصفات طعام من موقع إلكتروني أو من سيدة التقتها بالصدفة. «أتكّل على نفسي وأستمر في المحاولات إلى أن أنجح بالطبق الذي أحضّره. لا أتفلسف في وصفاتي، فهي بسيطة وسريعة التحضير. أدرك أن مهنتي صعبة وتصلح للرجال أكثر من النساء. ولكنني استطعت أن أتحدّى نفسي وأقوم بكل شيء بحب وشغف».