«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين الدولي (3)‬: هانية التي لم تكن... وشيلا التي اكتشفت ذاتها

حط نبأ وفاة الناقد والسينمائي الزميل علي أبو شادي ثقيلاً على العرب الحاضرين لدورة هذا العام من مهرجان برلين السينمائي. امتزج جو الاكتشاف الذي يعيشه الواحد منّا في مهرجانات السينما بالحزن لرحيل أحد روّاد حركة الثقافة السينمائية في العالم العربي، وهو الشعور الذي ساد عندما ورد، خلال إقامة الدورة الـ66 قبل عامين، نبأ وفاة المخرج نبيل المالح الذي كانت الحرب في سوريا قد دفعته للهجرة منذ سنواتها الأولى حيث أمضى تلك السنوات في محاولات مستميتة لتحقيق فيلم ما في المهجر من دون نجاح.
أبو شادي كان لولب النقد السينمائي في مصر في نهضته بالستينات وما بعد، لجانب فتحي فرج وسامي السلاموني وسمير فريد، وهو الوحيد بينهم الذي تولّى مهمّة رئاسة الرقابة على المصنفات الفنية لثلاثة أعوام (1996 إلى 1999). تسلم إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد ذلك، حتى عام 2001، ثم رئاسة المركز القومي للسينما بعد ذلك التاريخ وحتى 2008. وقد ترك ثروة من المعرفة في مئات المقالات التي وضعها ناقداً، وقرابة 20 كتابا في الثقافة السينمائية.
عربياً: احتفاء وفيلم
الحضور العربي لبرلين هذه السنة يتبلور على خطين متلازمين: حضور فردي لسينمائيين ومدراء مهرجانات، وآخر على شكل أفلام مختلفة بعضها في عروض رسمية وبعضها الآخر يعرض بهدف بيعه في سوق السينما.
لكن هذه الدورة ستعرف أساساً بأنّها الدورة التي أُنشئت فيها جائزة معنوية خاصة ما بين مجلة سينمائية رائدة هي «ذا هوليوود ريبورتر» ومؤسسة سينمائية عربية تعنى بشؤون الإعلام والتوزيع هي «ماد سوليوشن». فقد اتُفق بينهما على تقديم جائزة خاصة باسم «الشخصية السينمائية العربية للعام» ولو أنّها في دورتها الأولى ذهبت، في حفل نُظّم يوم أمس السبت، إلى شخصين اثنين وليس واحداً هما عبد الحميد جمعة، رئيس مهرجان دبي السينمائي، ومسعود أمر الله مدير المهرجان الإماراتي ذاته.
ذلك لم يأت صدفة، بل تبعاً لخطوات مدروسة قاما بها من سنوات المهرجان الأولى إلى اليوم، جعلتهما من أبرز الشخصيات العربية المؤثرة في محيطها السينمائي وعلى مشارف عالمية بما أنّ مهرجان دبي (وسيكون لنا عودة إليه)، أثبت عالميته وجدارة هذه الصفة.
شمل الحفل حضوراً كثيفاً من السينمائيين والإعلاميين واستمر لساعتين تناثرت فيه القضايا التي طُرحت عن المحتفى بهما وإنجازات دبي ووضع السينما العربية التي ساهما بوضعها على خريطة عالمية كبيرة.
يوم الأول من أمس، كان العرض الأول لفيلم «بلا موطن» للمغربية نرجس النجار التي سبق لها أن قدّمت، فيما قدمت، عدة أفلام لافتة (من بينها «السماء السابعة» و«مرآة الأغبياء» و«استيقظي يا مغرب»)، وهذا الفيلم من بين الأقلها إجادة.
بطلة الفيلم اسمها هانية، وهو اسم مناقض لوضعها التعس (تقوم به الغالية بن زاوية)، فهي واحدة من نحو 45 ألف مغربي رُحّلوا سنة 1975 من الجزائر ووضعوا عند الحدود المغربية غير مرحب بعودتهم. كانت هانية صغيرة حينها ووالدها توفي مباشرة بعد نقله، لكنّ والدتها ما زالت في الجزائر. كبرت هانية وكبر معها واقعها كامرأة بلا أوراق هوية، وكلاجئة تحلم بالعودة إلى الجزائر. هذا الواقع وذلك اللجوء يسودان الفيلم بصرياً ودرامياً وعلى نحو تتكرّر طرق التعبير عنه طوال مدة الفيلم.
دائماً برموش طويلة ونظرات هائمة وغطاء رأس تستخدمه في البيت أكثر ممّا تستخدمه حين خروجها منه، هذه المرأة ليس لديها الكثير ممّا تبديه لأن دورها المكتوب لا يحمل أي تطوير للشخصية، بل هي أشبه بجدار يتلقّى كرات البينغ بونغ. المخرجة تفرض شرطاً قاسياً على ممثلتها فتجعلها واجمة وقليلة الكلام. في الحقيقة لا تجيب - مطلقاً - على أي شخص يناديها باسمها. تتجاهله وفي المقدمة الرجل العجوز الذي تزوّجته بغرض الحصول على أوراق ثبوتية.
هنا يدخل الفيلم منزلقاً ميلودرامياً فيتحول إلى واحد من تلك الحكايات في أفلام مصرية من الأربعينات والخمسينات عندما ترتبط فتاة ما بابن من تزوّجته فتحبل منه، لكنّ زوجها آخر من يعلم. هنا تغيّر المخرجة من توزيع الأحداث بعض الشيء، لكنّ النهاية واحدة، بل سنكتشف أنّ الأعمى لم يكن أعمى بل تظاهر بذلك ليكشف لابنه أنّه كان يعلم بفعلته وليفضحه أمام زوجته الفرنسية التي جاءت لزيارة هذا اللامكان. حسناً تفعل عندما تستقل سيارة أجرة إلى المطار متخلّصة من تبعات فيلم أضعف من أن يحمي فكرته بحلول أفضل ممّا اختار.
في حين أنّ المشاهد لا يستطيع أن يكون جزءاً من المشاعر المطلوبة ولا من الأفكار المطروحة، بسبب قطع الطريق على أي فرصة للتعاطف مع بطلته، تتلهّى المخرجة باختيارات تصوير تعتبرها، ربما، إنجازات مثل وضع الشخصيات الأخرى في غشاوات. أحيانا تسمح لمدير تصويرها الفرنسي (وهناك اليوم مدراء تصوير أجانب في الأفلام العربية أكثر من أي وقت مضى) أن يغير البؤرة المغبّشة من الشخصية الأولى إلى الثانية وبالعكس. تسأل نفسك لماذا وليس من مجيب.
رحيل ونهايتان
في المسابقة ذاتها عُرض فيلم نسوي المحور والاهتمام أكثر تكاملاً من مخرج أقل تجربة، اسمه مارسيلو مارتنيزي المولود في باراغواي موطن إنتاج هذا الفيلم الذي تعدّدت وسائل تمويله لتشمل شركات ألمانية وبرازيلية ونرويجية وفرنسية.
عنوانه «الوريثتان» ويدور حول امرأتين في النصف الثاني من عمريهما تعيشان في بيت كبير ورثته شيلا (آنا برون) التي لم تتزوّج والتي تركت شؤون إدارته لصديقتها شكويتا (مرغريتا إرون). هذه، وتبعاً لشخصيتها الأكثر ديناميكية، لم تتسلم شؤون إدارة البيت فقط، بل شؤون إدارة حياة شيلا ذاتها. لذلك عندما تدخل شكويتا السجن بسبب تزوير حوالة، تكتشف شيلا معنى أن تكون وحيدة في بيت كبير ومدينة أكبر. هناك خادمة أفريقية تعيش معها لكنها ليست بديلاً كاملاً بل مساعداً. على شيلا أن تقبل على وضع جديد بصرف النظر عن استعدادها لذلك أم لا. وهي تفعل ذلك وتجد نفسها تنقل السيدات الثريات والعجائز كسائق خاص في سيارة شكويتا المرسيدس القديمة. هذا من دون أن تحوز على رخصة قيادة سيارات، ناهيك برخصة العمل كسائق أجرة.
واحدة من اللواتي تتعرف عليهن، ليست عجوزاً وهذه تتبدّى كفرصة متاحة لشيلا بأن تحاول بناء صداقة جديدة بديلة. تبدأ بالابتعاد العاطفي عن شكيتا وتقليل زياراتها للسجن في مقابل انشغالها مع الصديقة الجديدة آنجي (آنا إيفانوفا)، في نقلها ونقل والدتها من مكان لآخر.
النهاية حزينة وهناك تشابه بصري بينها وبين نهاية «بلا موطن»: في الفيلم المغربي تقرّر هانية أنّ الخلاص هو الغرق: تفتح باب البيت وتخرج إلى البحر الفاصل بين الأرضين المغربية والجزائرية وتواصل السير حتى تختفي تحت الماء.
في «الوريثتان» تختفي شيلا من الباب المفتوح حيث لا ندري إلى أين. وهذا يأتي في أعقاب خروج شيكيتا من السجن لتكتشف شيلا بأنّ حضور شيكيتا في الأصل، هو ما تسبّب في كبتها العاطفي والاجتماعي فتترك لها البيت وترحل.
الرحيل مكتوب كذلك فوق كل لقطة من لقطات فيلم الوسترن الأوروبي «آنسة» (Damsel) فهو عن رجل يرحل إلى الولايات المتحدة حاملاً معه حصاناً أسكوتلندياً (واحد من تلك الخيول القصيرة جداً)، بحثاً عن حبيبته ليكتشف أنّها لم تنتظره طويلاً بل تزوّجت من سواه. بعد ذلك تبدأ هي رحلتها الطويلة بحثاً عن ملجأ ما.‬
روبرت باتنسون هو الشاب المحمّل بالحب الرومانسي الباحث في الغرب القاحل عن حبيبته ليهديها الحصان وليتزوج منها. عند منتصف الفيلم ينتهي دوره، إذ ينتحر عندما يدرك أنّها لم تتوقع عودته وتوقفت عن مبادلته الحب. النصف الثاني يؤول إلى الممثلة ميا فاسكيفوسكا التي تُفجّر المنزل (كل شيء جاهز سلفاً)، بعد مقتل زوجها. القاتل هو الشخصية الثالثة (ديفيد زلنر) الذي صاحب بطل الفيلم في رحلته ويصاحب بطلة الفيلم في النصف الثاني. شخصية قلقة تبحث عن هوية ترتعد خوفاً طوال الوقت ويبعث في الأوصال الرغبة في أن يتخلّص الفيلم من حضوره كما فعل مع باتنسون. لكنّ ذلك لا يحدث، فهو أيضاً المخرج لجانب شقيقه ناتان (الذي يلعب أيضاً شخصية مهترئة من شخصيات هذا الفيلم).
هل شرط تقديم فيلم وسترن للمهرجانات إحالة النوع إلى هذا المنوال من الحكايات التي لا قيمة لها؟ هناك إخفاق واضح في كتابة مادة مثيرة تدفع للمتابعة، ثم إخفاق أوضح في تفعيل المشاهد درامياً التي كلّما استمر الواحد منها لفترة زمنية أطول، كشف عن فراغ في صلبه وتكراراً مفجعاً في مفاداته.