النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

تصعيد لفظي متبادل وتأكيد من الطرفين على «حماية الحقوق» البترولية

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط
TT

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

النزاع المصري ـ التركي على صفحة مياه المتوسط

لم يكن الخلاف بين تركيا ومصر في حاجة إلى عوامل لتصعيده؛ إذ كانت العلاقات بين البلدين قد شهدت توترات وصدامات منذ الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو (حزيران) 2013، بيد أن الأسبوع الماضي شهد ملمحاً جديداً من حلقات النزاع بين القاهرة وأنقرة بسبب بوادر نزاع على ثروة الغاز الكامنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وامتد ليشمل دولاً أخرى.
على مدى الأيام الماضية دخلت السلطات المصرية في عملية شاملة لمحاربة الإرهابيين، لكن ذلك لم يمنع المتحدث باسم القوات المسلحة، العقيد تامر الرفاعي، تضمين البيانات العسكرية الإشارة إلى «استمرار العمليات العسكرية لحماية الأهداف الاقتصادية في البحر»، وعرضه مقطع فيديو مصوراً بعنوان «عمالقة البحار» يظهر قدرات «القوات البحرية المصرية» وجاهزيتها. كذلك، جرى استعراض الأسلحة الحديثة التي انضمت إلى صفوفها، مثل حاملتي المروحيات من طراز «ميسترال» الفرنسية اللتين تحملان اسمي «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات».
في المقابل، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في الرابع من فبراير (شباط) الحالي «رفض بلاده الاعتراف بقانونية اتفاق وقعته مصر وقبرص عام 2013 للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط». وقال جاويش أوغلو إن بلاده «تخطط للبدء في أعمال تنقيب عن النفط والغاز شرقي المتوسط»، وهذا، قبل أن تتطور الأحداث وتعترض قطع بحرية تركية، مطلع الأسبوع الماضي، سفينة الحفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية، كانت في طريقها للوصول إلى مياه قبرص في البحر الأبيض المتوسط للتنقيب بحقل غاز في منطقة متنازع عليها بين نيقوسيا وأنقرة.
أيضاً، حذر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم السلطات القبرصية من التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، مؤكداً إبان وجوده في العاصمة القبرصية نيقوسيا أن الخطوات التي تقوم بها قبرص «في غير وقتها وخطيرة»، ومشدداً على أن «أنقرة ستواصل حماية حقوق ومصالح القبارصة الأتراك».
- منطقة اقتصادية لمصر
لم تكن الإشارة التي حملها بيان المتحدث العسكري هي الأولى التي بعثت بها القاهرة باتجاه أنقرة، بل سبقها تصريح لوزارة الخارجية المصرية على لسان المتحدث الرسمي، المستشار أحمد أبو زيد، فضلاً عن تجديد البحرية المصرية التأكيد على «استمراريتها في تأمين الأهداف الحيوية في عمق المنطقة الاقتصادية».
الموقف المصري بدا واضحاً وحاسماً تجاه أزمة بدت متصاعدة بشكل مفاجئ. إذ استهله أبو زيد قائلاً: إن «اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص لا يمكن لأي طرف أن ينازع في قانونيتها، وأنها تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها في الأمم المتحدة»، وأضاف: «أي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، تعتبر مرفوضة، وسيتم التصدي لها».
فضلاً عن ذلك، أعاد العميد بحري (أركان حرب) وليد عطية، التأكيد على «استمرار القوات المسلحة في تأمين الأهداف الحيوية الاستراتيجية على الساحل، وفي عمق المنطقة الاقتصادية الخالصة لجمهورية مصر العربية». وأردف خلال مؤتمر صحافي نظمته إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، أول من أمس، (الخميس): إن تأمين الأهداف جارٍ «باستخدام كافة الإمكانات من وحدات بحرية ومنظومات فنية لحماية المقدرات الاقتصادية للبلاد من الثروة المعدنية (غازية أو نفطية) في عمق وقاع البحار».
ومن جانبه، ردّ الخبير الاستراتيجي والعسكري المصري، اللواء جمال مظلوم، على تقليل تركيا من شأن اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص، بالقول: إن مصر «اتبعت الطرق القانونية المتعارف عليها دولياً عندما وقّعت تلك الاتفاقية عام 2013 للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، ولا يحق لتركيا الاعتراض على ذلك من أي ناحية». ورأى أن أنقرة «اتجهت إلى هذا الملف استرضاءً لجماعة الإخوان المسلمين، ولإيهامها بأن تمتلك أوراق ضغط على مصر».
وتابع مظلوم في حديث إلى «الشرق الأوسط»: إن مصر «ستدافع عن حدودها الاقتصادية، وقد أعدت نفسها عسكرياً جيداً للدفاع عن ثرواتها الطبيعية في مواجهة أي اعتداء». وذهب إلى اتهام أنقرة بممارسة «البلطجة» في البحر المتوسط، عندما اعترضت قطع بحرية تركية سفينة الحفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية بينما كانت في طريقها للتنقيب عن الغاز المكتشف أخيراً في المياه القبرصية.
ولفت الخبير العسكري المصري إلى أن قبرص لها حدود «يجب أن تُحترم من قِبل أنقرة، وسيادة على مياهها الإقليمية يجب عدم تجاوزها تحت أي مزاعم»، مستدركاً «في ظني، تركيا لن تصعّد مع مصر في هذه الملف أكثر من ذلك». وأرجع ذلك إلى «أنها مشغولة بملفات عدة، من بينها سوريا والعراق، وبالتالي - لن تصنع عداءات جديدة، وأي مشكلة ستؤثر عليها حتماً».
- حقوق القبارصة الأتراك
في المقابل، تركيا تنطلق في هذه القضية من نقطة أن «ما أقدمت عليه، وما تعتزم القيام به، ما هو إلا دفاع عن حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك ومنع اتخاذ خطوات أحادية في شرق البحر المتوسط». وهذا، بينما تحاول الحكومة الإيطالية احتواء مستوى الأزمة معها. وكإجراء احترازي أمرت القوات البحرية بنقل وحدة عسكرية تشكل جزءاً من بعثة حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط. ونقلت وكالة «سبوتنيك»، عن مصادر صحافية إيطالية، أن قائد الوحدة «تلقى أوامر بتفادي أي تصرفات من شأنها أن تؤدي إلى زيادة التوتر بينها وبين القوات التركية التي تحاصر سفينة (سايبيم)».
وتجدر الإشارة إلى أن جزيرة قبرص المتوسطية مقسمة شطرين منذ عام 1974: الأول هو «جمهورية قبرص الشمالية» التي لا تعترف بها سوى أنقرة، والآخر هو «جمهورية قبرص» المعترف بها عالمياً والعضو في الاتحاد الأوروبي. وجاء تقسيم الجزيرة بعدما استولت القوات التركية على الجزء الشمالي من الجزيرة، رداً على ما تقول أنقرة إنها محاولة القبارصة اليونانيين «الانقلاب على الحكومة وإلحاق الجزيرة باليونان».
- الأعراف الدولية
الدكتور نبيل حلمي، عميد كلية الحقوق بجامعة الزقازيق الأسبق وأستاذ القانون الدولي العام، أبدى في حديث إلى «الشرق الأوسط» استغرابه من التحركات التركية، التي رأى أنها «تتعارض مع الأعراف الدولية». واعتبر أن ذلك «مجرد محاولة منها لإثبات نفسها أمام قبرص، المعترف بها دولياً، وسعيها وراء مزاعم بأنها رئيسة الشرق الأوسط الجديد». واستطرد الأكاديمي المصري قائلاً: «تركيا لن تستطيع التنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر لأسباب قانونية عدة، منها أن الاتفاق بين مصر وقبرص أُودع في الأمم المتحدة، وروعيت فيه المعايير الدولية واتفاقية الأمم المتحدة للبحار». ولفت إلى أن أي اعتداء على هذه المنطقة يمثل عدواناً، وتستطيع الدول التي تمارس حقوقها في المنطقة أن تدافع عن نفسها وفقاً للمادة الـ151 من ميثاق الأمم المتحدة».
وأضاف حلمي: إن «قبرص دولة ذات سيادة، وتسيطر على ثلثي الجزيرة فيما عدا الجزء الشمالي الذي تحتله تركيا منذ عام 1974. ولقد أعلنت أنقرة إنشاء جمهورية شمال قبرص التركية، لكن لم تعترف أي دولة في العالم بها سوى الدولة التركية، وبالتالي، فالاتفاقية سارية المفعول وملزمة قانوناً ولا يحق لتركيا أن تعترض عليها». وضرب حلمي مثلاً على ذلك باتفاقيات مماثلة، وُقعت بين دول المتوسط، ولا تستطيع تركيا أن تنازع فيها أيضاً، مثل اتفاقية ترسيم الحدود بين قبرص وإسرائيل عام 2010، وترسيم الحدود بين قبرص ولبنان عام 2007، ثم مصر وقبرص... وجميعها يتوافق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982.
وانتهى حلمي إلى أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «يحاول تسويق تركيا على أنها القوة الأولى في الشرق الأوسط، اعتماداً على الخلفية العثمانية، لكن المنطقة لن تعود إلى القرن التاسع عشر»!
- المكامن المشتركة للغاز
واستكمالاً لذلك؛ يرى الدكتور نائل الشافعي، خبير الاتصالات المصري - الأميركي، الباحث المهتم بتأثير قانون البحار الدولي على الكابلات البحرية وعلى الانتفاع بمكامن الغاز البحرية، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن الاتفاقية التي ترفضها تركيا تنظم «آلية تقاسم المكامن المشتركة للغاز بين البلدين، حسب حجم المكمن في كل طرف»، فإذا استخرجت دولة غازاً من مكمن مشترك، فعليها أن تتنازل للدولة الأخرى عن نسبة من الريع، تتناسب مع نسبة وجود المكمن في الدولة الأخرى».
وأضاف الشافعي: إنه «إذا تم اكتشاف حقل غاز في مكمن مشترك بين مصر وقبرص، وأظهرت الدراسات (السيزمية) لحجمه أن ثلاثة أرباعه يقع في الجانب المصري، والبقية في قبرص، فإن إنتاجه يوزع بين البلدين بالنسبة نفسها». ولفت إلى أنه في كل الأحوال، تطالب «بحق شمال قبرص في حقل أفروديت، الذي اكتُشِف في المياه التي تنازلت عنها مصر لقبرص بمقتضى تلك الاتفاقية. ونطاق التحركات التركية الراهنة تقع داخل الحدود القبرصية، وفق اتفاق 2003، ولا تأثير له على الإطلاق فيما يتعلق بأعمال التنقيب داخل الحدود المصرية».
- الصدام مع «إيني» والغاز الإسرائيلي
المتغيرات في الموقف التركي، في البحر المتوسط، لم تتوقف عند محطة القاهرة، بل إن الرئيس رجب طيب إردوغان، نقل الأزمة من «مرحلة التوتر» مع القاهرة إلى «التهديدات المباشرة»، ضد اليونان وقبرص، باستخدام التدخل العسكري ضدهما في بحر إيجة والبحر المتوسط. وقال بلهجة حادة في كلمة أمام اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم بالبرلمان التركي: «نحذر من يتجاوزون حدودهم في بحر إيجة والبحر المتوسط، ويقومون بحسابات خاطئة مستغلين تركيزنا على التطورات عند حدودنا الجنوبية».
وفي مواجهة تصعيد إردوغان ضد اليونان وقبرص، أرجع اللواء أركان حرب ممدوح حامد عطية، في حديث إلى «الشرق الأوسط» سبب تصدّي السفن الحربية التركية لمنصة الحفر التابعة لشركة «إينى» من الوصول للمياه القبرصية للتنقيب عن الغاز، إلى «وجود خطة تركية لمد خط أنابيب عبر قبرص للحصول على الغاز من حقل ليفياثان البحري الإسرائيلي». ولفت عطية إلى أن الدراسات الاقتصادية التي أعدتها أنقرة، وتتحدث عنها تقارير دولية، أكدت أن مسار هذا الخط ويمر عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص اليونانية سيكون مجدياً لتركيا، قبل أن يضيف مستدركاً «...لكن زمن الاستيلاء على أرضي الغير بالقوة انتهي، ولا بد أن يدرك إردوغان ذلك». بعدها تساءل عطية: «إذا كان الرئيس التركي يتذرع بأوهام تاريخية تتعلق بالخلافة وقيادة العالم الإسلامي، فلماذا ينكر على جيرانه حقوقهم التاريخية وحدودهم الاقتصادية؟... نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، لكنه يقحم نفسه في أمور تتعلق بسيادة دولتنا».
غير أن الرئيس إردوغان يهدد بأنه في حال انتهاك المياه الإقليمية التركية بالقرب من الجزر الصخرية التركية في بحر إيجة، وانتهاك الطائرات اليونانية المجال الجوي التركي، فإن «جنودنا سيقومون بما يلزم»، ناصحاً الشركات الأجنبية التي تقوم بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص «بألا تكون أداة في أعمال تتجاوز حدودها وقوتها من خلال ثقتها بالجانب القبرصي اليوناني». ويستطرد الرئيس التركي قائلاً: «حقوقنا في الدفاع عن الأمن القومي في منطقة عفرين (شمال غربي سوريا) هي نفسها في بحر إيجة وقبرص... وقيام القوات المسلحة التركية بعملية (غصن الزيتون) لتطهير عفرين شمال سوريا من التنظيمات الإرهابية، لن يعيق تركيا عن حماية حقوقها في البحر المتوسط وبحر إيجة».
وبالفعل، زادت تركيا من تهديدها، معلنة عزمها القيام «بكل الخطوات اللازمة من أجل الحفاظ على حقوقها وحقوق الشطر الشمالي من الجزيرة القبرصية – أو (جمهورية شمال قبرص) التركية – لكن وزارة الخارجية اليونانية، طالبت أنقرة «بالامتناع عن القيام بأنشطة أخرى غير مشروعة، والانصياع لجميع الالتزامات المنبثقة عن القانون الدولي»، وحذّرت من أن «سلوك تركيا لا يفيدها بصفتها دولة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي».
بدورها، دخلت المفوضية الأوروبية، على خط الأزمة، ودعت تركيا إلى «الإحجام عن أي تصرفات قد تضر بعلاقات حسن الجوار»، وقالت متحدثة باسم المفوضية الأوروبية أنه «يتعين على تركيا تجنب أي مصدر للاحتكاك أو التهديد أو التصرف الموجه ضد دولة عضو بالاتحاد الأوروبي»، مؤكدة على احترام سيادة الدول الأعضاء على مياهها الإقليمية ومجالها الجوي».
- خطوات استفزازية
في هذه الأثناء، وصف مركز «المستقبل» للأبحاث والدراسات المتقدمة، إجراءات أنقرة بأنها «محاولات لإرباك الحسابات المصرية والقبرصية فيما يتعلق بالتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط»، بعد إعلان وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو، في الخامس من فبراير الحالي عدم اعتراف أنقرة باتفاقية ترسيم الحدود التي أبرمتها مصر وقبرص، باعتبار أنها «تنتهك الجرف القاري التركي».
وقال المركز في تقرير حديث، أول من أمس، (الخميس) تحت عنوان «تزايد المواجهات المباشرة بين دول الإقليم»: إن تركيا اتخذت خطوات إجرائية على الأرض تجاه قبرص تحديداً، حيث تعمدت منع منصة حفر «سايبم 12000» التابعة لشركة «إيني» الإيطالية من التنقيب عن الغاز في 11 فبراير الحالي، في جنوب شرقي الجزيرة: «بحجة قيام القوات البحرية التركية بإجراء مناورات بالقرب من تلك المنطقة». وأشار إلى أن التحذيرات التركية امتدت إلى اليونان أيضاً من مغبة ما اعتبرته أنقرة «انتهاكاً لمياهها الإقليمية»، ووصل الأمر إلى حد التهديد بإمكانية استخدام القوة في حسم هذا الخلاف». ولفت إلى أن «الاكتشافات المحتملة لحقول الغاز في شرق المتوسط، ربما تكون هي التي دفعت تركيا إلى تصعيد موقفها في هذا الصدد».
وذهب التقرير إلى القول إن نجاح القاهرة في إنجاز مشروع حقل «ظُهر» الذي اكتشفته شركة «إيني» الإيطالية في 2015 - ويعد أكبر الاكتشافات الغازية في منطقة شرق البحر المتوسط - في فترة ليست طويلة ربما يكون متغيراً مهماً في هذا السياق، حيث استغرق نحو 28 شهراً منذ تحقيق الكشف وبدء الإنتاج، في الوقت الذي تستغرق فيه مشروعات مماثلة فترة تتراوح بين 6 و8 سنوات.
- تشبيك الملفات الإقليمية
وربط مركز «المستقبل» بين التوترات حول حقول الغاز في المتوسط، وبين «تشبيك الملفات الإقليمية»، فقال: «لا يمكن فصل تلك المواجهات المباشرة عن الملفات الخلافية العالقة بين الأطراف المنخرطة فيها بشكل أساسي. وبعبارة أخرى، فإن لتراكم التباينات تأثيراً مباشراً في هذا السياق، على نحو يبدو جلياً في الخلافات المصرية - التركية، والخلافات الإسرائيلية - الإيرانية، والخلافات الإسرائيلية - اللبنانية».
وتابع تقرير المركز: إن «تركيا ما زالت مصرّة على موقفها الداعم سواء لجماعة الإخوان المسلمين (الإرهابية) في مواجهة القاهرة، أو لدور الأخيرة في الملفات الإقليمية المختلفة، مثل الأزمة مع قطر، والصراع في ليبيا، والعلاقات مع السودان. كما أنها لا تبدي ترحيباً بالتقارب الملحوظ في العلاقات بين القاهرة وكل من قبرص واليونان، وترى أنها أحد الأطراف المستهدفة منه بشكل مباشر».
وانتهي الخبراء الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» إلى أن الاكتشافات التي تصل استثماراتها إلى 12 مليار دولار أميركي، ساهمت في سعي عدد من الدول المطلة على تلك المنطقة البحرية إلى التنقيب عن النفط والغاز؛ ما دفع ستيفان ميشيل، المسؤول عن أنشطة الاستكشاف بمنطقة الشرق الأوسط، في مجموعة «توتال» الفرنسية إلى القول: «من الواضح أن اكتشاف (ظُهر) غيّر المشهد».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.