الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

بعد قرار تدريس الأمازيغية... وبسببه

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»
TT

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

فجَر قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، من جديد، الصراع بين أنصار الاستعاضة عن العربية بالأمازيغية لغةَ تداول رسمية وهم في غالبيتهم مُفرنَسون، و«العروبيين» المتحمّسين لـ«العنصر العربي الإسلامي في الهوية الجزائرية». كانت الأمازيغية قد أصبحت لغة رسمية في الجزائر بجنب العربية، بموجب مراجعة للدستور تمت في 7 فبراير (شباط) 2016. ومن ثم، احتدم خلاف كبير، أخذ في أحيان كثيرة طابعاً آيديولوجياً، بين فريقين: الفريق الأول في هذا الخلاف هو مَن يسميهم الإعلام المحلي «بربريست» (نسبة إلى البربر، السكان الأصليين لشمال أفريقيا) يناضلون من أجل تدريس الأمازيغية في كل الأطوار التعليمية، وقطاع من هؤلاء انخرط في تنظيم انفصالي يطالب باستقلال منطقة القبائل (شرق العاصمة الجزائر) التي يتكلم سكانها – البالغ تعدادهم نحو 3 ملايين – اللغة الأمازيغية. أما الفريق الآخر، فيشكّله «العروبيون» الذين يعتبرونها أهم رافد للهوية ولا يرضون بديلاً عن العربية، التي حلّت محل الفرنسية لغةَ تداول في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وهذا خلال سنوات قليلة بعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي عام 1962.
في أعقاب الضجة التي أثارها قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، التقت «الشرق الأوسط» نخبة من أهم الباحثين الذين يتصدّرون واجهة الإعلام الجزائري لمناقشة موضوع الأمازيغية، وقراءة تفاعلات الموضوع، وما إذا كانت «لهجة» أم «لغة» وعلاقتها بالدين.
امحند أرزقي فرَاد، المؤرخ والباحث الآنثروبولوجي، قال شارحاً: «عادت المسألة الأمازيغية في السنوات الأخيرة إلى مسرح الأحداث ببلدان شمال أفريقية بقوة، وهذا لسببين اثنين على الأقل: أولهما يتمثل في تراكم نضالات أجيال كثيرة من أجل إعادة الاعتبار للمكوّن الأمازيغي في الهويّة المغاربية. والسبب الآخر هو «الربيع العربيّ» الذي رفع الحيف والضيم عن الأمازيغ في ليبيا وتونس».
وبحسب فرَاد، الذي يتحدَر من منطقة القبائل: «لا يختلف اثنان عاقلان حول أمازيغية شمال أفريقية، ومن ثم فإن المتحدّثين بها ليسوا أقلية، وهذا رغم انكماش اللسان الأمازيغي وانحساره في المناطق المعزولة كالجبال والواحات وجزيرة جربة بتونس. وعليه – كما يضيف فرّاد – فإن الجدال حول اللغة الأمازيغية هو في الحقيقة جدال بين إخوة في الجنس والعرق، احتفظ بعضهم بلغة الأجداد، وتعرّب بعضهم الآخر بفعل انتشار اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. وعليه، من الخطأ اعتبار انتشار اللسانين حالياً معياراً للتمييز بين الجنسين الأمازيغي والعربي».
- تحدّي كتابة اللغة
وحول الحرف الذي ينبغي أن تكتب به الأمازيغية، يقول فرَاد «التحدي الصعب الذي يواجه الأمازيغية بعد تجاوز العقبة السياسية، هو اختيار طريقة كتابتها. فهي الآن تكتب بالأبجديات الثلاث: (التيفيناغ) في الجنوب، والأبجدية العربية في جبال الأوراس وغرداية، والأبجدية اللاتينية في منطقة القبائل. وسبب ذلك التهميش والإقصاء اللذين عانت منهما اللغة لعقود طويلة؛ لذا سعى أبناؤها إلى الحفاظ عليها بكل الطرق كلّ حسب إمكاناته في الجزائر الواسعة». ويضيف فرّاد: «في الحقيقة، تعايشت الأمازيغية مع العربية لقرون طويلة فاقترضت منها الكثير من الكلمات والمصطلحات، وتأثرت بالثقافة الإسلامية إلى درجة يصعب الآن تصوّر كتابتها بغير الأبجدية العربية. لكن، من جهة أخرى، فإن النخبة المُفرنَسة المهيمنة على (المحافظة السامية للأمازيغية) هي التي تكفلت بالنضال من أجل إحيائها وترقيتها بالأبجدية اللاتينية، وهناك ألوف الكتب منشورة بها. أمّا في الجنوب فمن الصعب إقناع إخواننا الطوارق بالتنازل عن الكتابة التيفيناغية الأصيلة ذات الحمولة الرمزية».
- «الهويّة» ومسؤولية فرنسا
من جهة ثانية، أفاد الدكتور أحمد شنَة، أحد أبرز الباحثين بالمجتمع المدني – وهو مسؤول حكومي سابق – بأن اعتماد اللغة الأمازيغية لغةً رسميةً في البلاد «لا يعني أنه سيتم تلقائياً إبعاد اللغة العربية أو التقليل من شأنها أو إنزالها إلى المرتبة الثانية. ذلك ما لن نقبله مهما كانت الظروف والمسوّغات... كما أننا لن نقبل أيضاً تهميش باقي اللهجات الأمازيغية، كالشاويّة التي تشكل النسبة الأكبر في المشهد الديموغرافي، إلى جانب المزابية (الميزابية) والتارقية والشلحية والشنوية وغيرها من اللهجات المنتشرة في طول البلاد وعرضها». وأردف شنّة: «إن كانت الإرادة صادقة (من جانب السلطات) لإعادة الاعتبار للبعد الأمازيغي في هويتنا وشخصيتنا الوطنية، إلى جانب البعدين الإسلامي والعربي، مثلما هو منصوص عليه في الدستور، يتوجب على الجميع العمل على إشراك كل المكوّنات والعناصر على قدم المساواة، وإتاحة الفرص لجميع اللهجات المحلية في مسار التأسيس العلمي الجاد لهذه اللغة الأمازيغية المنشودة. وهي اللغة التي نرجو، في نهاية المطاف، أن تكون معبّرة عن فكر ووجدان كل الجزائريين والجزائريات، في إطار احترام الخصوصيات ومراعاة الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين منطقة وأخرى؛ ما يحقق الثراء الوطني المرتقب من دون إقصاء أو احتكار أو تطرّف في الرأي».
ويتابع شنّة: «في ظل ما يدور في الساحة الوطنية من جدل وتجاذب حول المسألة الأمازيغي، وبخاصة ما تشهده مواقع التواصل الاجتماعي من نقاشات حادة حول هذا الموضوع، وتطور التجاذبات في القضية إلى حد التجريم والتخوين والتراشق بالتهم بين بعض الفعاليات في المؤسسات البرلمانية والحزبية والإعلامية، فإنه بات من الضروري أن نؤكد مرة أخرى، بأن (مسألة الهوية) لم تكن في أي يوم من الأيام مشكلاً في الجزائر، إلا مع دخول المستعمر الفرنسي إلى بلادنا... المستعمر الذي أقدم على تمزيق اللحمة الوطنية وتطبيق سياسة (فرّق تَسُد) انطلاقاً من كراهية فرنسا الاستعمارية للإسلام والعربية باعتبارهما الإسمنت المسلح الذي يوحّد الجزائريين والجزائريات باختلاف أعراقهم وثقافاتهم المحلية، ويدفعهم بقوة وثبات إلى التطلع نحو المستقبل، وإعادة بناء الدولة الجزائرية التي دمّرها الفرنسيون على امتداد قرن و32 سنة، بأبشع ما في التدمير من وسائل وأساليب».
ويضيف شنّة، المتحدر من منطقة الأوراس التي يتكلّم سكانها الشاويّة، إحدى لهجات الأمازيغية: «لم نسمع في تاريخ الأولين من الآباء والأجداد، منذ الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، عن أي خروج للسكان المحليين عن سلطة الإسلام أو رفضهم اللسان العربي... بل على العكس تماماً من كل تلك المزاعم والأباطيل التي روّجها المؤرخون الاستعماريون، ويردّدها اليوم ببلاهة كثرة من أشباه المثقفين من أبناء هذه المدرسة الاستعمارية المغشوشة. الأمازيغ، الذين استقبلوا الإسلام والعربية في الجزائر وفي كل بلدان الشمال الأفريقي، استقبالاً كريماً مباركاً، عملوا كل ما في وسعهم خلال قرون من الإشعاع الحضاري والعلمي والثقافي، على بناء دول ومجتمعات قوية متقدمة وصل صداها إلى كل أوروبا، واستفاد من خيراتها جياع فرنسا ومشرّدو إسبانيا والبرتغال».
- مؤامرة للتمكين للفرنسية
ويذهب عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، في الاتجاه نفسه تقريباً؛ إذ يقول: «أنا أتعجب من الحرب التي يريد بعض المغفلين والمتعصّبين والسذَّج أن يشعلوها بين العربية والأمازيغية، وهم لا يدرون أنهم وقود فتنة كان ولا يزال الاستعمار القديم والجديد يشعلها بيننا ضمن قاعدة (فرّق تَسُد). الأمازيغية والعربية كلاهما مهمشتان في هذا البلد لصالح الفرنسية. المؤامرة القائمة في الجزائر هي للتمكين للغة الفرنسية والثقافة الغربية الفرنسية، وليس للعربية أو الأمازيغية. العربية والأمازيغية شقيقتان... شقيقتان شقيقتان. كما هي الفارسية والعربية، والتركية والعربية والأردية وغير ذلك من اللغات التي انصهرت معاً ضمن الأخوة الإسلامية التي لا تفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. لقد كان صهيب الرومي وسلمان الفارسي أقرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عمّه أبي لهب. إن المطلوب هو أن تتحالف العربية والأمازيغية ضد الاستعمار والثقافة الاستعمارية، كما كانتا إبان الاحتلال الفرنسي».
وبرأي مقري «ما شهدناه في المدة الأخيرة، من سبّ وشتم متبادل بين الجزائريين على أساس الهويّة اللغوية أمر خطير. فلو وجد الجزائريون راحتهم وأنسهم وكرامتهم ورخاءهم، تحت العلم الوطني لما تعالى بعضهم على بعض بانتمائهم اللغوي، ولما تدخل الأجنبي في شأن خصوصياتهم يعبث باستقرارهم ووحدتهم، كما هو ديدنه دائماً، لتحقيق مصالحه وفرض حضارته الاستعمارية الظالمة».
وبخصوص الحرف الذي تكتب به الأمازيغية، يوضح مقري أن الأمازيغية «لغة موجودة من خلال لهجات متعدّدة منها الشاويّة والقبائلية والمزابية والترقية والشلحية... ولا يمكن تعليمها بفاعلية إلا ببناء هذه اللغة بناءً أكاديمياً يجعل لها (فصحى) تتيح للأمازيغ، بمختلف لهجاتهم، أن يفهموا بعضهم بعضاً. ومن ثم، مَن يرد أن يتعلم هذه اللغة من غير المتحدثين يسهل عليهم ذلك... تماماً مثل أي لغة أخرى. فلولا وجود العربية الفصحى مثلاً، لما استطاع العرب أن يفهموا بعضهم بعضاً... سواءً بخصوص تنوع لهجات الجزائر في مختلف جهات الوطن، وبشكل أوضح على مستوى العالم العربي، لولا الفصحى لما استطاع المغاربة أن يتواصلوا مع المصريين والخليجيين والعراقيين والسوريين، والعكس صحيح».
ويتابع مقري: «حينما نصل إلى المرحلة الأكاديمية، يتدخل الجانب الثقافي والحضاري في اختيار الحرف الذي تبنى به اللغة الأمازيغية الفصحى. وإذا اعتبرنا أن القضية الأمازيغية هي قضية كل الجزائريين، فمن حقنا في (حركة مجتمع السلم) كجزائريين أن نناصر رأي الأكاديميين، الذين يعتبرون أن اختيار الحرف العربي هو الاختيار الطبيعي؛ لأن البعد الحضاري للأمازيغ ارتبط بالبعد الحضاري العربي الإسلامي. إن الجامع بين اللغتين تاريخي وجغرافي وثقافي وسياسي واجتماعي، مثل البعد الحضاري للفرس الذي ارتبط بالإسلام بعد الفتح... واليوم تُكتب الفارسية بالحرف العربي. الشيء نفسه بالنسبة للأتراك، فاللغة التركية كانت تكتب بالعربية أيام مجد الأتراك (العثمانيين)، ثم غيّرها كمال أتاتورك للاتينية فمزّق الشعب التركي وأدخله في الصراع والتخلف».
- أخطاء الفاتحين مع الأمازيغ
أما محمد صالحي، الباحث في علوم اللسان (الألسنية)، فيقول: إن كل اللغات المستخدمة في العالم الإسلامي «تأثرت باللغة العربية معجماً ونحواً وصرفاً وصوتاً وكتابة، ولا يمكن إنكار هذا الأمر الواضح والراسخ. لقد وجد من مائة لغة تكتب بالحرف العربي، إلا أن الاستعمارين الغربي والسوفياتي سابقاً، غيَرا حروف لغات القوقاز والقرم وآسيا الوسطى. ولم تسلم الأمازيغية من هذه المحاولة؛ إذ سعى الفرنسيون بطرق عدة لتغيير حرفها العربي الذي كتبت به منذ بداية التدوين بها لفائدة كتب التفسير والفقه وخطب الجمعة والمناسبات. ولقد أوعز لأتباعه من الجزائريين أنه من مصلحة الأمازيغية كتابتها بالحرف الفرنسي (اللاتيني)، لكن في حقيقة الأمر الهدف هو إحداث شرخ بين العربية والأمازيغية، وتفريق الشعب الجزائري وتعميق صراع الهوية».
أما عدَة فلاحي، مستشار وزير الشؤون الدينية وعضو البرلمان سابقاً، فيقول: إن الأمازيغ اعتنقوا أغلب الديانات والملل والنحل التي وفدت إليهم، من مجوسية إلى وثنية إلى يهودية إلى مسيحية... وأخيراً الإسلام الذي قبلوه وارتضوه واعتنقوه طواعية بعد مقاومته في البداية. استمرت هذه المقاومة لعشرات السنين بسبب طبيعة الأمازيغي المتمرد الرافض لكل من يريد أن يهيمن عليه، إلا أن المسلمين الفاتحين حينها فقدوا الكثير من خصائصهم الروحانية الأولى التي تربى عليه الجيل الأول من الصحابة، وتصرفوا مع الأمازيغ في البداية بصفتهم عرباً، وهذا ما جعل الفتح الإسلامي عصيّاً وصعباً ومُكلفاً في البداية. ولكن يبدو أن هذه العقيدة العسكرية القديمة للمسلمين القادمين من المشرق، باستعلاء، والتي استبعدت القاعدة القرآنية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والقاعدة السنية المحمدية «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، خلّفت عقدة ما زالت تتحكم في أمزجتنا إلى اليوم، حتى على مستوى النخبة، سواءً المعرّبة أو الأمازيغية».
ويتابع فلاحي «بعض المعرّبين البعثيين في بلادنا، أساؤوا التعامل مع المطالبين بإحياء الأمازيغية، ولذا شاهدنا ردات فعل متطرفة طالب أصحابها بكتابة الأمازيغية بـ«التيفيناغ» أو بالأحرف الفرنسية بدلاً عن العربية. وكان هناك طرف آخر كان له رد فعل عقائدي بسبب سوء تصرّف بعض المنتسبين للتيار الديني، أو ما يسمى بأصحاب الإسلام السياسي الذين قدّسوا اللغة العربية من باب تقديسهم للقران، وعلى حساب أي لهجة أو لغة أخرى، لدرجة أن بعض الأمازيغيين انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن الإسلام واعتنقوا المسيحية. بل، وذهب البعض منهم إلى الدعوة لانفصال منطقة القبائل عن الجزائر وتأسيس دولة مستقلة خاصة بهم تحمل هويتهم. وهذا للأسف، بمباركة وتشجيع ودعم الكولونيالية الفرنسية القديمة التي تستثمر في خلافاتنا».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.