شهادة ذاتية على مرحلة تاريخية مضطربة

مذكرات محمد سلماوي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اغتيال السادات

شهادة ذاتية على مرحلة تاريخية مضطربة
TT

شهادة ذاتية على مرحلة تاريخية مضطربة

شهادة ذاتية على مرحلة تاريخية مضطربة

بعنوان مستوحى من القرآن الكريم «يوماً أو بعض يوم» يُمهد الكاتب والروائي المصري محمد سلماوي لمذكراته الصادرة حديثاً عن دار الكرمة للنشر بالقاهرة بالحديث عن عائلة سلماوي وجذورها التي تتحدر من الجزيرة العربية، وهي الصفحات التي تعطي لمحة عن حياة العائلات الكبيرة في ريف مصر آنذاك في بدايات القرن العشرين.
وبأسلوب سلس، يروي سلماوي سيرته الذاتية التي يلقي من خلالها الضوء على مصر من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مقتل الرئيس السادات، كجزء أول من مذكراته التي كتبها على مدار عام كامل. وتتقاطع مع نصوصه السردية مقاطع حوارية بينه وبين شخصيات التقى بها؛ مما لا يدع مجالاً لتململ القارئ أو انشغاله عن متابعة قراءة المذكرات حتى نهايتها، فهو يقدم للقارئ نفسه عبر تشريح نفسي ذاتي، سارداً كيف بلورت تفاصيل حياته مساره في مجالَي الأدب والصحافة.
لا تنحصر المذكرات بالجانب الذاتي، بل يجد فيها القارئ البعد السياسي والثقافي والاجتماعي والدولي للأحداث، وكذلك كواليس العمل الصحافي بـ«الأهرام»... وعبر أكثر من 150 صورة يوثق الكاتب الكثير من الوقائع والأحداث، كاشفاً عن أرشيف ثري حرص على تكوينه منذ طفولته، حيث كان عاشقاً للتصوير الفوتوغرافي.
تحتل «فيكتوريا كوليدج» نصيباً كبيراً من مذكرات خريجيها، فمثلما أتى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان» على تأثير «فيكتوريا كوليدج» في تكوينه، يروي لنا سلماوي كيف أثرت تلك المدرسة البريطانية في تشكيل وعيه وحرصه منذ طفولته على ألا يفقد هويته ووطنيه وينخرط في تيار «النجلزة» الذي سحق هويات عدد كبير من طلابها، فانبهروا بثقافة الغرب وتناسوا هوياتهم وتراثهم. ويكشف كيف كانت مكتبة منزله في حي الزمالك بوابته لعالم الأدب والصحافة: «أول كتب قرأتها في علم النفس... فعرفت (فرويد) و(يونج) و(آدلر) الذي كنت أفضله على الآخرين. وفي التاريخ عرفت تاريخ الولايات المتحدة ودستورها، وتاريخ الحرب العالمية الثانية، كما قرأت في الاقتصاد الذي استهواني لفترة، وقرأت سير المشاهير مثل (نابليون) و(راسبوتين) والمخترع (توماس ألفا إديسون)»... إلى جانب زياراته الأسبوعية للسينما في وسط القاهرة. ومثلما شكّل الأدب الإنجليزي الخلفية الثقافية له، تأثر سلماوي بقصص إحسان عبد القدوس القصيرة التي كان ينشرها في مجلة «صباح الخير»، رغم أنه لم يكن كاتبه المفضل بالعربية، بل كان يفضل يوسف إدريس وتوفيق الحكيم ويحيى حقي.
اعتمد سلماوي منهج المكاشفة في حديثه عن نفسه، وكيف أنه كان طفلاً خجولاً منطوياً يعشق القراءة، وتطرق إلى حياته العاطفية وعلاقاته، وقصة حبه مع زوجته الفنانة التشكيلية نازلي مدكور. وهو يمزج عبر 425 صفحة ما بين الحكايات الحزينة والمواقف الدرامية والطرائف، فما بين حلق رأسه مثل الممثل الأميركي يول براينر، مروراً بوفاة صديقه في مرحلة الطفولة أثناء ركوب الخيل بالهرم؛ ذلك الحادث الذي جعله أكثر تمرداً على الحياة، وتأميم ثورة يونيو (حزيران) بعضاً من ممتلكات والده، وتحطم حلمه بالسفر لبريطانيا لاستكمال دراسته الجامعية.
وهنا يتحدث عن حكمة والده في تشكيل وعيه وتوجهاته الحياتية حين قال له ولإخوته عن قرار التأميم «عبد الناصر لم يأخذ ما جرى تأميمه لنفسه، وإنما يحاول أن يصلح من مشكلة سوء توزيع الثروة في مصر»، ثم قال لهم بعد مرور سنوات: «لم أرغب أن تكونوا على خلاف مع عصركم وأنكم غرباء في مجتمعكم»، كان الأب من الذكاء أن جنب أطفاله الشعور بالمرارة الذي قد يدمر حياتهم، بل وكان دافعاً له ولإخوته بإيمانه بمبدأ «سر النجاح أن تعمل ما تحب».
لذا؛ سيجد القارئ أنه، وعلى العكس من أبناء الباشاوات الذين أمم ممتلكاتهم عبد الناصر، يرى فيه مثالاً للقائد والزعيم، ويعتبره حقق الكثير للمصريين. من جانب آخر، نجد كيف تقاطعت حياة سلماوي مع عدد كبير من الشخصيات العامة وكبار الفنانين، مثل أم كلثوم وسعاد حسني، وكبار السياسيين والأدباء والمثقفين حول العالم. ثم يأخذنا خلال رحلة عمله في عالم الصحافة إلى كواليس علاقته بمحمد حسنين هيكل، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، وغيرهم من أهل الطابق السادس بجريدة «الأهرام» أو «متحف الخالدين» كما كانوا يطلقون عليه.
ويتوسع الكاتب في ذلك، فيسرد لنا أحداثاً تاريخية تقاطعت مع عمله اليومي بالصحافة. فأثناء رئاسته قسم الأخبار الخارجية بـ«الأهرام»، وقع زلزال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وتوفي طه حسين في 28 أكتوبر. وهنا يذكر سلماوي أن طه حسين كان أول أديب عربي يرشح لجائزة نوبل عام 1949، وأن المنافسة كانت محسومة لطه حسين أمام الكاتب الأميركي ويليام فوكنر؛ إذ تفوق عليه في التصويت؛ إلا أن النفوذ اليهودي، حسب سلماوي، جعل اللجنة تقرر عدم منح الجائزة في ذاك العام ومنحها في العام التالي لـ«فوكنر» في واقعة لم تحدث في تاريخ الجائزة.
ومن المواقف التي يرويها سلماوي عن شخصية هيكل المتفردة، أنه حينما أبلغه بترشيحه لجائزة «أمير استورياس»، ولي عهد إسبانيا، رفض هيكل واعتذر لسلماوي وأعضاء اتحاد الكتاب المصريين في خطاب مؤثر يقول فيه: «ليس من حقي أن أقبل تكريما من غير قارئي».
وفي النصف الثاني من المذكرات، سوف تتطلع على كواليس حفل أم كلثوم في باريس على مسرح الأوليمبيا كما لم تسرد من قبل في الصحف، حيث كان سلماوي من بين الحضور بناءً على دعوة كوكاتريكس صاحب مسرح الأوليمبيا الذي انصاع لطلب أم كلثوم بالحصول على ضعف أجر إديث بياف فتقاضت أعلى أجر لمطرب على هذا المسرح العريق وهو 20 مليون فرنك. ويروي سلماوي موقفاً يدل على العزة والشموخ اللذين اتسمت بهما أم كلثوم، فقد كانت كوكب الشرق تتقن الفرنسية ولا تتحدث بها، وحينما طلب كوكاتريكس، صاحب المسرح اليهودي، من سلماوي أن يترجم لها أنه معترض على طريقة تقديم الحفل باعتباره انتصاراً سياسياً للعرب، انتفضت أم كلثوم وردت عليه موجهة حديثها لسلماوي أن يترجم له ردها: «نحن في مناسبة وطنية وجئت لفرنسا من أجل المساهمة في المجهود الحربي لبلادي، وإذا كان أسلوبنا لا يروق له فليعتبر اتفاقنا لاغياً، وأنا على استعداد أن أحرره من كل التزاماته لي. ثم التفتت إلى الموسيقيين وقالت لهم: لموا الآلات يا ولاد». فكاد كوكاتريكس أن يغشي عليه وظل يتوسل أم كلثوم أن تكمل الحفل. ويروي بعدها كيف أن رحيل أم كلثوم مثّل بالنسبة له كما للكثير من المصريين رحيل عصر بأكمله.
ويروي سلماوي كواليس انتفاضة الخبز أو «ثورة الجياع» عام 1977 وتجربة السجن السياسي الذي تعرض له نتيجة موقفه الرافض لسياسة الرئيس السادات في طريقة إدارة الصراع السياسي عقب حرب أكتوبر، واتهامه فيما بعد بأنه من مدعي الناصرية، وأنه أحد العناصر المحركة لأحداث «ثورة الجياع». ويسرد بدقة أحاديث «الزنزانة» كأنها فيلم سينمائي نقرأ السيناريو الخاص به. وتأتي الذروة الدرامية في سرده تفاصيل حبسه بسجن القلعة الموحش الذي يعود تاريخه إلى زمن المماليك وقد تحول إلى سجن عام 1874 بأمر الخديو إسماعيل، ولقائه في السجن بالشاعر أحمد فؤاد نجم.
ثم يعود إلى الصحافة، ويتحدث عن السياسة التحريرية للصحف القومية المصرية قبيل التمهيد لزيارة السادات للقدس. ويسهب في شرح الأحداث والقرارات النارية التي اتخذها السادات في سنوات حكمه وقرارات الاعتقالات وفصل الصحافيين، وكان واحداً منهم؛ إذ فُصل مرات عدة. ويتطرق المؤلف كذلك إلى نقل الصحافيين للعمل موظفين في هيئات حكومية، وأيضاً أستاذة الجامعات، وسحب اعتراف الدولة بالبابا شنودة بابا للإسكندرية، ضمن حملة السادات لمصادرة الحياة السياسية في مصر، التي انتهت إلى الحادث الدموي المروع «حادث المنصة»، الذي قتل فيه الرئيس السادات لتنتهي صفحة أخرى من تاريخ مصر وتبدأ معها مرحلة جديدة.
يتوقف بنا سلماوي عند هذه المحطة ليترك القارئ منتظراً صدور الجزء الثاني الذي سيتحدث فيه عن مرحلة جديدة من مراحل حياته المهنية والإبداعية.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025
TT

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.