استراتيجية «داعش} في ليبيا... من التمركز إلى الإنهاك

تلقى ضربات عسكرية فككت أوصال دولته المزعومة

أحد أفراد قوات مكافحة الإرهاب بمصراتة ينقل متفجرات مضبوطة داخل سيارة  كان يقودها عنصر مشتبه في انتمائه إلى «داعش» الشهر الماضي (رويترز)
أحد أفراد قوات مكافحة الإرهاب بمصراتة ينقل متفجرات مضبوطة داخل سيارة كان يقودها عنصر مشتبه في انتمائه إلى «داعش» الشهر الماضي (رويترز)
TT

استراتيجية «داعش} في ليبيا... من التمركز إلى الإنهاك

أحد أفراد قوات مكافحة الإرهاب بمصراتة ينقل متفجرات مضبوطة داخل سيارة  كان يقودها عنصر مشتبه في انتمائه إلى «داعش» الشهر الماضي (رويترز)
أحد أفراد قوات مكافحة الإرهاب بمصراتة ينقل متفجرات مضبوطة داخل سيارة كان يقودها عنصر مشتبه في انتمائه إلى «داعش» الشهر الماضي (رويترز)

في الأودية الوعرة، والدروب الصحراوية، فضّلت فلول تنظيم داعش الاختباء بالقرب من مناطق وسط وجنوب ليبيا بعد طردهم من مدينة سرت؛ كي يسهل عليهم الانقضاض، وتنفيذ «هجمات خاطفة»، والفرار ثانية إلى ملاذاتهم الآمنة؛ ما أدى إلى استدعاء بعض المخاوف من احتمالية عودة «داعش» إلى البلد الغني بالنفط، للتمركز كما كان.
فالتنظيم الذي سبق وبسط سيطرته على مدن ليبية، وأقام «دعائم دولته» المزعومة، وقطّع رؤوس مئات المواطنين، ظهرت عناصره، الشهر الماضي، ست مرات على الأقل، في شوارع وبلدات بالمنطقة الغربية، استوقفت خلالها المارة، ولوّحت براياته السوداء، ومارست السرقة في وضح النهار، لكن العميد محمد الغصري، المتحدث باسم وزارة الدفاع في حكومة الوفاق الوطني، بطرابلس (غرب البلاد)، قلل من مخاطر ظهور التنظيم، ووصف الأمر في حديثه إلى «الشرق الأوسط» بأنه «مجرد جيوب إرهابية، وبعض من العناصر التي فرت من سرت، سيتم التخلص منها قريباً». غير أن هبوط عناصر التنظيم من الدروب الصحراوية وصولاً لوسط البلاد، تجاوز المخاوف إلى تحذير جهات دولية، ومراكز بحثية غربية، من أن عناصر التنظيم «شكّلت جيشاً في الصحراء الليبية، وأعادت لمّ شملها وسط وجنوب ليبيا، بما في ذلك مناطق قريبة من أكبر حقول النفط»؛ ما دفع أميركا وإيطاليا إلى الإعلان عن اتفاق، منتصف الأسبوع الماضي، على «منع تحويل ليبيا إلى قاعدة للتنظيم».
وتعد موقعة حقل الظهرة النفطي، على طريق زلة - مرادة، (200 كلم جنوب شرقي مدينة سرت) التي جرت وقائعها في الثالث من الشهر الحالي، وقُتل فيها ثلاثة من مسلحي تنظيم داعش في اشتباكات مسلحة مع قوة عسكرية كبيرة من الجيش الوطني الليبي وقضى فيها ثلاثة جنود، هي الأخطر في دلالاتها، بحسب ما أرجعه خبراء إلى «قدرة عناصر التنظيم على التسرب مجدداً داخل مدن الغرب الليبي، وبخاصة إلى سرت وما حولها، لإحداث ضربات سريعة، قد يحصّل من ورائها بعض المكاسب».
وسعى عضو مجلس النواب، محمد عامر العباني، إلى إيجاد تفسير لعمليات «داعش» المباغتة، وقال لـ«الشرق الأوسط»: إن «البيئة الحاضنة»، التي تتمثل في «هشاشة الدولة، وضعف المنظومة اﻷمنية في البلاد تساعد على عودته مرة ثانية».
ومضى العباني يقول: إن «تدمير المواطن خلال الأحداث المتلاحقة التي شهدتها البلاد الفترة الماضية، فضلاً عن الفقر والجهل والبطالة وغياب مشروع الدولة يجعل من بعض المناطق داخل البلاد أرضاً خصبة للتنظيم».
وفي حين رأى العباني أنه لا يمكن إغفال تأثيرات «القبلية العائلية، وضعف العقيدة الدينية لدى البعض، والتناحر بين الأطراف السياسية في خلق فرصة ملائمة لـ(داعش) في البلاد»، ذهب عضو المجلس الأعلى للدولة، عبد الرحمن الشاطر إلى أن تنظيم داعش «يحظى بدعم دولي واستخباراتي بمليارات الدولارات، ويستهدف الشباب المتهور العاطل عن العمل».
وتضامن الشاطر مع العباني حول طرح «هشاشة الدولة»، كسبب لعودة التنظيم، ورأى أن «الوضع الأمني الضعيف في ليبيا فرصة ثمينة لكافة أنواع المتطرفين»، ومضى يقول: «هم يريدون إفشال ثورة فبراير، وكلما تم إخراجهم من منطقة يعودون لتجميع أنفسهم والبدء في أعمالهم التخريبية من جديد».
وانتهى الشاطر قائلاً: «ما لم يتم توحيد السلطات التنفيذية والتشريعية والمالية والرقابية فسوف تبقى ليبيا مسرحاً واسعاً للإرهاب... وفي حال عدم تواجد حكومة واحدة فإن الشغب هو سيد الموقف والمسيطر على المشهد».

مقتل قيادي ميداني
لم تكن مواجهات طريق زلة - مرادة، هي الأولى من نوعها، التي تشير إلى تغوّل التنظيم قرب حقل نفطي، خلال الأشهر الماضية، أو تجوّل عناصره على أطراف العاصمة طرابلس، فقد سبق وأجرى عمليات عدة، إلا أن ما يميز هذه العملية سقوط أحد قادته الميدانيين، وسعيهم لتفجير محطة القطار التابعة لشركة الواحة النفطية – ثاني أكبر منتج للنفط الليبي - .
وهنا أوضح المكتب الإعلامي لـ«سرية مرادة المقاتلة»، تفاصيل العملية، وقال: إن «دورية استطلاع تابعة لكل من سرية (مرادة المقاتلة) و(سرية شهداء الظهرة) اشتبكت صباح الثالث من الشهر الحالي، مع مجموعة مسلحة تنتمي لـ(داعش) الإرهابي بعد محاولتها تفجير محطة القطار».
وأضافت «سرية مرادة» عبر حسابها على «فيسبوك» أنه «تم تجهيز قوة عسكرية كبيرة وعند اقترابها من حقل الظهرة، وقعت اشتباك مع عناصر من (داعش) أدت إلى سقوط 3 أفراد من القوات المسلحة وجرح آخرين، بالإضافة إلى مقتل ثلاثة من التنظيم، بينهم قيادة ميدانية، ومطاردة باقي المجموعة في الطرق الصحراوية».
واختلفت وسائل إعلام محلية حول هوية أحد القتلى، ففي حين ذهب البعض إلى أن «أبو بكر الشيشاني» الذي يعتقد بأنه أحد أبرز قيادي التنظيم في ليبيا، قال مصدر عسكري لموقع «الوسط» الإلكتروني: إن «الجثة الوحيدة التي تم التعرف عليها تعود إلى أحمد بن ناصر، وهو قائد ميداني كبير في التنظيم».
وأضاف المصدر العسكري: إن القتيل «بن ناصر» كان منخرطاً في صفوف تنظيم أنصار الشريعة قبل أن ينضم إلى «داعش»، غير أن العباني، أرجع فلسفة هذا الانخراط إلى أن «التنظيمات الإرهابية الخبيثة مثل اﻷوبئة تظهر وتنمو متى توفرت لها الظروف المناسبة»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ولعل غرب ليبيا الذي لم يتم تطهيره بعد من الإرهاب، مليء بالخلايا النائمة الداعمة لـ(داعش) والمستعدة لاحتضانه والتفاعل معه».
لكن التنظيم، الذي سعى في الماضي إلى «تأسيس دولة» مزعومة في سرت، واعتبرها معقلاً له، بات يمارس عمليات قطع الطرق، والسطو المسلح، أو سرقة سيارات المواطنين كما حدث مطلع الشهر الحالي في براك الشاطئ أقصى الجنوب الليبي.
وترجع الواقعة، عندما تمكنت الوحدات الأمنية والعسكرية في منطقة براك الشاطئ، من القضاء على مسلحين اثنين من تنظيم داعش، في مطاردة قُتل فيها أحد جنود اللواء 12 مجحفل، محمد إبراهيم المقرحي.
ونقلت وكالة «الأنباء الليبية»، أن العنصرين الإرهابيين تسللا إلى منطقة براك الشاطئ بسيارة بهدف التزود ببعض الاحتياجات الأساسية من أحد المحال التجارية، وبعد الاشتباه بهم تمت مطاردتهم والاشتباك معهم في حي العافية، وتمكنا من الفرار بعد سرقة سيارة لأحد المواطنين فتم تعقبهما وقتلهما واسترداد السيارة المسروقة. غير أنه في مع نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي وقعت ثلاث عمليات للتنظيم، دفعت مسؤولاً أمنياً رفيعاً بالجيش الوطني الليبي إلى تحذير المواطنين ومنتسبي القوات المسلحة، والشرطة المارين بين مدينتي سرت والجفرة إلى توخي أقصى درجات الحيطة والحذر؛ بسبب رصد تحركات لمسلحي تنظيم داعش بالمنطقة.
جاء ذلك عقب تلقي لجنة تفعيل الأجهزة الأمنية بسرت بلاغات من مواطنين مروا بـ«كمين» للتنظيم (داعش)، بوادي قريب من طريق أبو قرين - الجفرة جنوب غربي سرت.
وطالبت اللجنة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق بـ«ضرورة اتخاذ الإجراءات العاجلة لضرب مواقع العناصر الإرهابية في الأودية الجنوبية للمدينة».
وأوضح المصدر في البيضاء، أن عدداً من مسلحي «داعش» أقاموا، حاجزاً بسيارات دفع رباعي على الطريق بين مدينتي سرت والجفرة.
وسبق لشركة البريقة لتسويق للنفط، القول إن السبب الرئيسي وراء تجدد أزمة الوقود في الجنوب وعدم توفر المنتجات النفطية بمناطق الجفرة، يرجع إلى الوضع الأمني الحالي، الذي أجبر جمعيات وشركات النقل على التوقف عن تزويد المحطات بتلك المناطق: «بسبب ما يتعرض له السائقون من سطو وتهديد على الطرقات وسلب الشاحنات المحملة من العناصر المتطرفة»، لكن نوري الغويزي، مسؤول بالمجلس البلدي سبها، (جنوب البلاد) نفى ذلك، وقال لـ«الشرق الأوسط»: إن «الجنوب آمن تماماً، ولا وجود لتنظيم (داعش) لدينا»!، لكن أعضاء في مجلس النواب عن مدن بالجنوب تحدثوا عن «انتشار واسع للتنظيم هناك، وقيامه بعمليات لترويع وسرقة المواطنين.
غير أن مدير مكتب إعلام الشرطة والسجون العسكرية في بنغازي، المعتصم أحواز، قال: إن «تواجد تنظيم (داعش) في بعض مدن غرب وجنوب ليبيا، وانتشارهم بشكل متفرق ومباغت في الصحراء الكبرى أمر عادي جداً»، وأرجع ذلك في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «كثيراً من تلك المناطق لم تخضع بعد للقوات المسلحة العربية الليبية».
وتابع: «المقاتلات الأميركية حررت سرت جواً، دون هبوط على الأرض للتمشيط... المدينة لم تتحرر بشكل نهائي»؛ الأمر الذي رفضه العميد الغصري، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «قوات عملية (البنيان المرصوص) هي من حررت سرت من تنظيم داعش الإرهابي، ودفعنا دماءً غالية من أبنائنا في سبيل تحقيق ذلك وصلت 720 شهيداً و3000 جريح، كما كبدنا التنظيم خسائر فادحة في الأرواح تجاوزت 2500 عنصر؛ حتى تمكنا من دحره في سرت بعد ثمانية أشهر من قتالهم».
وانتهى الغصري قائلاً: ليبيا «تحارب الإرهاب نيابة عن العالم، منذ نحو ستة أعوام»، و«لن نتراجع عن الدفاع عن بلادنا في مواجهة الإرهابيين».
وسيطر «داعش» على مدينة سرت منذ يونيو (حزيران) 2015؛ لتصبح معقله الرئيسي في شمال أفريقيا، كما سعى إلى التوسع في ليبيا عندما تقدّم في البداية نحو الموانئ النفطية وحاول التمدد بعدها إلى باقي المدن الغربية، لكن تم طرده منها 17 ديسمبر (كانون الأول) 2016.
وأفاد تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي في الثامن من فبراير الماضي، بأن الحرب ضد تنظيم داعش دخلت مرحلة جديدة؛ إذ ما زال التنظيم والموالون له يمثلون تهديداً كبيراً ومتنامياً بأنحاء العالم، مؤكداً على أن التنظيم عازم على إعادة بناء قدراته في ليبيا، كما يواصل شن الهجمات المتفرقة هناك.


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.