أحزاب إسلامية تتقاسم الجامعات العراقية

تحركت للسيطرة على مرافقها بعد 2003

طلاب في كلية الطب جامعة البصرة التي سيطر عليها حزب الفضيلة
طلاب في كلية الطب جامعة البصرة التي سيطر عليها حزب الفضيلة
TT

أحزاب إسلامية تتقاسم الجامعات العراقية

طلاب في كلية الطب جامعة البصرة التي سيطر عليها حزب الفضيلة
طلاب في كلية الطب جامعة البصرة التي سيطر عليها حزب الفضيلة

شتاء عام 2004، زارنا الناقد الأكاديمي مالك المطلبي في الجامعة المستنصرية وتزامنت زيارته مع أيام شهر محرم، حيث تنتشر مظاهر التعزية الحسينية في كل مكان تقريبا. فاستقبله لفيف من الأساتذة والتدريسيين في ممر الجامعة الرئيسي، وهو ممر طويل وأنيق، وقبل أنْ يسلِم علينا صاح بوجهي، هل هذه الجامعة شيعية؟ فقلت: كلَا إنها جامعة وطنية لكل العراقيين، فضحك وقال: ما هذا السواد الذي يلفها إذن؟! ففي شهر محرم الحرام، شأن بقية الأماكن، تتحول جدران أغلب الجامعة ومنها المستنصرية إلى لافتات سود بسبب الاحتفالات الدينية، مما يعني أنَ المد الديني، أو التدين الشعبي، أو الطقوسي زحف بقوة إلى أهم معاقل التنوير والتحديث المفترضة في البلاد.
أظن أن هذه الحادثة الصغيرة ربما تمثل مدخلا مناسبا للدخول إلى عالم الجامعات العراقية بعد 2003، ذلك العالم الذي كنا وما زلنا نعول عليه ليُسهم في بناء البلد، ويدفع بكفاءاته لصناعة المشهد العراقي. لكن المؤسف، أن الجامعات كانت من أوائل المؤسسات التي تعرضت للنهب والسلب والحرق، حتى إنَ المكتبة العظيمة في الجامعة المستنصرية، وتضم بين رفوفها أهم المراجع والمخطوطات، هاجمها السراق أيام الفوضى بعد 2003، فقاموا برمي المخطوطات القيمة والمراجع الكبرى والنادرة وسرقوا خشب المكتبات فقط، علما بأن كتاباً واحداً قد يكون بسعر كل الخشب الذي سرقوه!
بعد لحظة 9 أبريل (نيسان) 2003، حاولتْ الجامعات أنْ تستعيد شيئا من أدائها، لكن المشكلة الكبرى التي طرحت نفسها بقوة حينذاك، هي أن أغلب قيادات الجامعات من رؤساء جامعات، وعمداء كليات، وحتى رؤساء أقسام، كانوا ينتمون إلى «حزب البعث» فحدثت الفوضى في اختفاء البعض، وفي الاعتداء على البعض الآخر، بالضرب والإهانة والطرد من قبل طلابهم، أو زملائهم في الأقسام، لذلك اختفى شيئا فشيئا الجيل الذي كان يُمسك الجامعات لأكثر من عشرين عاما، رغم أن فترة الاختفاء ليست بالطويلة فبعد ما يقارب أربعة أعوام استطاع عدد من القيادات البعثية الحصول على استثناءات من هيئة المساءلة والعدالة (هيئة اجتثاث البعث) سابقا، وعادوا بمناصب متقدمة في المشهد الأكاديمي، وقد أبدلوا بجلباب حزب البعث لحى خفيفة، ومسابح، وبالاتكاء على طائفة أو حزب سياسي ما، ومن كل الجهات سنيِها وشيعيِها.
إنَ لحظة الفراغ الرهيب استدعت الصوت العالي والضجيج الذي لم يهدأ طوال ستة أعوام بعد 9 أبريل، فالأحزاب الإسلامية تحركت بشكلٍ قوي وعنيف على مرافق الجامعات، فأسست تجمعات طلابية بديلة للاتحاد الوطني الذي كان يسيطر عليه مقربون من «عدي صدام حسين»، النجل الأكبر للرئيس الراحل صدام حسين، وقد كان ذلك الاتحاد ذراعاً قوياً في الجامعات، برغم صفته غير الحكومية، وكانت تلك الأذرع متحكمة بتفاصيل مهمة داخل الحرم الجامعي، ولها مقرٌ رسمي في كل كلية، وكان أعضاؤها يُنتخبون من قبل الطلاب، ومعظمهم كانوا من المنتمين إلى تنظيمات حزب البعث، حتى إنَ رئيس الاتحاد الوطني في كل كلية، كان يدخل اجتماعات مجلسها وله سطوة على جميع الأساتذة.
عشية هزّة التغيير عام 2003، أُلغي اتحاد الطلبة البعثي مباشرة، ولم يعد له مكان إطلاقا، لكنه، وتلك واحدة من المشاهد الفنتازية المعادة في البلاد أبدا! استبدِل بمجموعة منظمات طلابية معظمهما من الإسلاميين، وبدأوا يتقاسمون الجامعات مثل أي غنيمة حرب!
فالشباب المتحمسون للتيار الصدري مثلا، عمدوا إلى السيطرة على الجامعة المستنصرية التي تقع شرق العاصمة بغداد حيث يقع معقلهم في مدينة الصدر (صدام سابقا)، بينما تقاسم حزب «الدعوة» و«المجلس الأعلى» السيطرة على جامعة بغداد العتيدة التي تقع وسط بغداد.
وكان نصيب «الحزب الإسلامي» السني الهيمنة على «الجامعة العراقية» في حي الأعظمية، وعلى جامعات المحافظات الغربية، وامتدت أذرع «حزب الفضيلة» إلى جامعة البصرة في أقصى جنوب العراق، وعلى بعض الكليات في بغداد والمحافظات.
ومثلما حدث مع «اتحاد الطلبة البعثي» المنظمة غير الحكومية، أديرت المنظمات الجديدة من قبل طلاب شباب استطاعوا أنْ يتحكموا بمفاصل الجامعات، وأنْ يوجهوها حسب ما يعتقدون، أو حسب المصلحة التي ينطلقون منها، وبذلك ظهرت قيادات شبابية إسلامية في الجامعات فرضت الحجاب على الطالبات في عدد من الجامعات، ومنعت مظاهر الحياة المعتادة في هكذا أجواء كالاحتفالات والسفرات والموسيقى، كما أسهمت كثيراً بانتشار الموالين لهم في مسك الإدارات على حساب الكفاءة والمهنية، وأصبحت تلك المنظمات تُدير شؤون عدد من الجامعات، وأضحى هؤلاء الطلبة الجانب الأقوى والمُهاب في الحرم الجامعي، وصاروا مصدرا للخوف والخشية لوجود أذرع مسلحة تساندهم، وصار بإمكانهم أنْ يعتدوا على رئيس جامعة، أو عميد كلية دون أنْ يُحاسبوا!
عدد غير قليل من أولئك كبروا وتخرجوا وصاروا ملزمين بمغادرة الأروقة الجامعية، لكن ذلك أمر لم يكن ليروق لهم، فوجدوا في مواصلة دراساتهم العليا في الماجستير والدكتوراه سببا وجيها للبقاء على قيد النفوذ والهيمنة في تلك الجامعات، فحصلوا على ما يريدون وتعينوا معيدين وأساتذة في الجامعات نفسها. ثم حدث أن هدأ البعض منهم واستقرَ، والتفتَ إلى نفسه، فيما بقي البعض الآخر صارخاً على طول الطريق.
إنَ فترة هيمنة الشباب الإسلاميين على الجامعات، كانت من أفقر المراحل معرفة وإنتاجاً، ومن أكثرها فوضى، وهي المرحلة التي أنتجت لنا أساتذة يتتبعون خطى أولئك الشباب، عسى أنْ يعطفوا عليهم بمنصب إداري، وللأسف فإن عددا كبيرا من الإداريين الذين مسكوا الإدارة في الجامعات جاءوا بتزكية من تلك المنظمات.
لحسن الحظ، فإن دور تلك المنظمات ضعف كثيرا بعد عام 2010. حين قام الوزير حينذاك، علي الأديب، بإلغاء تلك المنظمات وطارد عدداً من عناصرها، لكنْ رماد أولئك الطلبة بقي يشتعل بين مدة وأخرى.
إن البانوراما السريعة الآنفة، هي عبارة عن لمحات تؤشر لمرحلة من مراحل العراق ولزاوية مهمة من زواياه وهي الأكاديمية العراقية التي بقيت تعمل وتدور عجلتها وإن كانت بطيئة ومتأخرة في بعض الأحيان. كما أن هذا المشهد وهذه السطوة لا تعني خلو الجامعات من الكوادر والكفاءات المهمة التي التزمت الصمت فانزوت جانبا فبين يدي عشرات الأكاديميين الذين نأوا بأنفسهم عن صراعات الديكة واكتفوا بالبحث العلمي والدرس فأنتجوا جيلا يعتد بمعرفته ومكانته العلمية، وهذا الجيل الذي نأى بنفسه في الحقيقة هو الوجه التنويري والمعرفي للأكاديمية العراقية التي تتعالى على فتات ما ترميه الأحزاب لبعض الأساتذة الذين يقفون في طوابير طويلة للحصول على منصب إداري مهم في الجامعات.
شخصيا ربما أجد العذر للبعض من ناحية هوسه بالمنصب، لأسباب عديدة يقف في مقدمتها الفارق الكبير في الراتب ما بين المسؤول (العميد أو رئيس الجامعة) وبين الأستاذ الجامعي الذي يحمل نفس اللقب العلمي ونفس سنوات الخدمة، حتى أن الفرق في الأجور يصل بينهما لأكثر من ثلاثة أضعاف الراتب.
اليوم وبعد مرور نحو عقد ونصف على لحظة أبريل 2003. يمكن ملاحظة التغيير الذي طرأ على المشهد العام في الجامعات، حيث شكَل الضغط والنقد الذي يُمارس على القيادات الإدارية عاملاً مؤثرا في تغيير بوصلة اهتماماتهم، حتى إنَ الدولة التفتت إلى أهمية البعثات فأسست ما يسمى بـ«مبادرة رئيس الوزراء» لإرسال آلاف الطلبة للدراسة خارج العراق، ونحن بانتظار أنْ يحصد البلد ثمار هؤلاء المُبتعثين.
الجدير بالملاحظة هنا، هو أن معظم الإدارات التي توالت على ملف التعليم العالي انصب اهتمامها كثيراً على الجانب العلمي التطبيقي، وفي مقابل إغفالها للجانب الإنساني، بل إنَ أحد رؤساء الجامعات المهمة في البلد ينظر بازدراء للعلوم الإنسانية، علماً بأن أحد التقارير العلمية التي نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية عام 2017 يشير إلى أن أغلب المنتمين للجماعات الإرهابية هم من خريجي الاختصاصات العلمية أطباء ومهندسين، كما أشار تقرير نشرته الأمم المتحدة للتنمية البشرية عام 2003، إلى أنَ مناهج التعليم العربية تشجع التسليم والطاعة والتبعية والامتثال بدلا من التفكير النقدي الحر.
إنَ هذا الاهتمام بالجانب العلمي - على أهميته - على حساب الجانب الإنساني نعتقد أنَه يُسهم بصناعة الفرد الناقد للمجتمع، والمفكك للخطابات المتطرفة والطائفية التي هي سبب من أسباب مشاكلنا، إنْ لم تكن السبب الرئيسي، فعدم الاهتمام بها سيُنتج لنا مجتمعاً مطيعاً لا يناقش ولا يعترض.


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.