أكاديمية كومبيوتر في فرنسا تتحدى الأفكار التقليدية

مؤسس «42» يسعى لإحداث تغيير في منظومة التعليم الرصينة

أكاديمية 42 الفرنسية للبرمجة لا تتطلب من الدارسين شهادة الثانوية ({نيويورك تايمز})
أكاديمية 42 الفرنسية للبرمجة لا تتطلب من الدارسين شهادة الثانوية ({نيويورك تايمز})
TT

أكاديمية كومبيوتر في فرنسا تتحدى الأفكار التقليدية

أكاديمية 42 الفرنسية للبرمجة لا تتطلب من الدارسين شهادة الثانوية ({نيويورك تايمز})
أكاديمية 42 الفرنسية للبرمجة لا تتطلب من الدارسين شهادة الثانوية ({نيويورك تايمز})

في دولة تعج بالمدارس التي تحمل أسماء كلمات مختصرة ذات دلالة معينة أو أسماء العظماء الراحلين في فرنسا، يبدو الرقم 42 الذي جرى إطلاقه كاسم على إحدى مؤسسات التعليم العالي غريبا بعض الشيء. بيد أنه إذا عرف السبب بطل العجب، فأكاديمية التكنولوجيا الجديدة، التي افتتحها زافييه نيل، الرائد في مجال الأعمال والتكنولوجيا، تهدف إلى أن تكون غير تقليدية.
متسلحا بروح المرح، قضى خافيير نيل، وهو رجل دمث الأخلاق ورائد في مجال الاتصالات حاصل على شهادة ثانوية عامة ويمتلك ثروة تقدر بمليارات اليوروهات، السنوات العشر الأخيرة وهو يحاول إحداث تغيير في منظومة فرنسا الرصينة، وكانت «أكاديمية 42» إحدى الوسائل البسيطة واللافتة للنظر في آن معا التي سعى من خلالها لإحداث تغيير في الأساليب المتبعة في مجال التعليم العالي في فرنسا. وتوفر أكاديمية 42 دروسا في حقل البرمجة الحاسوبية وتفتح أبوابها للدارسين هذا الشهر.
وتتميز الأكاديمية بأسلوب تعليم غير تقليدي، حيث إنه لن يكون هناك الشكل التقليدي للتعليم من محاضرات ومدرسين، بل هي مشروعات جماعية و«منظمون يتحلون بروح الود» يلبسون ملابس غير رسمية. كما أن الأكاديمية لا توفر شهادة معتمدة من الحكومة الفرنسية، ولا تشترط أن يكون الطلبة الملتحقون بها، والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاما، يحملون شهادة ثانوية عامة. وتوفر أكاديمية 42، التي تحتل إحدى البنايات الإدارية التي جرى تجديدها وتقع على أطراف العاصمة باريس، دروسا مجانية، حيث تسعى لاجتذاب الطلبة الذين يقطنون الأحياء الأشد فقرا.
وفي إشارة إلى ثقافة روح الدعابة في العمل التي تميز شركات وادي السليكون، والتي يحترمها رواد الأعمال هنا كثيرا، هناك خطط لإنشاء منزلق (زحلقة) بين سطح المبنى والمطعم الملحق به.
وتهدف الأكاديمية إلى تقديم أساليب تعليمية بعيدة كل البعد عن الطرق الجامدة والفلسفة المعتادة التي يطبقها نظام التعليم الحكومي حيثما كان، فنيل يؤمن بأن أكاديميته ستعمل على تقديم خريجين يتمتعون بقدرات إبداعية، قادرين على العمل في أي تخصص ولديهم قدرات متنوعة ومفيدة بالتالي في تحريك الاقتصاد الفرنسي الراكد.
وفي الوقت الذي يبجل الفرنسيون نظام التعليم القومي المطبق في مدارسهم، تبدو أكاديمية 42، التي تهدف بشكل واضح إلى كسر القيود التعليمية التقليدية، وكأنها عمل شائن وسط جو التقاليد الذي يضرب بجذوره في القدم.
ويثير اسم الأكاديمية شيئا من الغموض، ففي رواية الخيال العلمي الكوميدية «دليل المسافر إلى المجرة»، التي ألفها دوغلاس آدامز، والتي يعشقها محبو الروايات التي تتناول التكنولوجيا، يعرف الرقم 42 بأنه «الإجابة عن سؤال الغاية النهائية من الحياة والكون وكل شيء».
يقول نيل: «يطرح الكثيرون علينا هذا السؤال، لكن لماذا لا تطبقون قواعد التعليم القومي الفرنسي؟»، وقد رصد نيل 70 مليون يورو (نحو 94 مليون دولار) كميزانية العشر سنوات الأولى لأكاديمية 42.
وتعليقا على ذلك، قال نيل في إحدى المقابلات: «حسن، الأمر يتوقف على قضية هل أسعى إلى أن ينجح هذا المشروع أم لا؟».
ولم تصدر وزارة التعليم العالي الفرنسية أي تعليق حول الأكاديمية، بيد أن مسؤولي التعليم الحكومي يعترفون بأن المؤسسات القائمة تفشل في تدريب الطلبة على المهارات التي تحتاجها سوق العمل. ويصف منتقدو التعليم العالي الجامعات بقولهم، إنها «مصانع للبطالة». ورغم معدل البطالة القومي في فرنسا الذي يصل إلى 11%، هناك نحو 60.000 فرصة عمل في مجال الكومبيوتر خالية حسبما تقول الحكومة لعدم وجود أشخاص مؤهلين.
يقول نيل، إن الأكاديمية تروج لما يصفه الفرنسيون بالمزايا الأنغلوسكسونية في مجال ريادة الأعمال المبتكرة والتفكير الإبداعي، بينما يعتمد الأسلوب القياسي الفرنسي بشكل أساسي على أسلوب الحفظ والاستظهار.
ويشير نيكولا بافيريه، المؤرخ والخبير بمعهد مونتين (Institut Montaigne) وهو مؤسسة بحثية مستقلة، إلى أنه «دائما ما تزخر فرنسا بالمهندسين العباقرة الذين يسعى الألمان لتوظيفهم بأسرع وقت ممكن للاستفادة من قدراتهم»، مضيفا أن أكاديمية 42 كشفت النقاب عن «عدم قدرة نظام التعليم الفرنسي على معالجة المشكلات المتعلقة بتشجيع الإبداع والتطور الاجتماعي المتنامي وظهور التكنولوجيات الحديثة وقطاعات العمل المستحدثة».
ويعلق نيكولا ساديراك، مدير أكاديمية 42، على نظام التعليم الفرنسي بقوله، إن الطلاب الفرنسيين يتلقون تعليما نمطيا عن بعض القواعد المحددة اللازمة لمواقف بعينها، مشيرا إلى أن «المشكلة تكمن في أن أولئك الطلاب لا يتلقون ما يساعدهم على الابتكار والإبداع.. وتلك كارثة كبرى».
وفي ظهر أحد الأيام، قام سيباستيان هوفان (28 عاما)، بالجلوس في الضوء اللامع لإحدى شاشات العرض ونقر بالصدفة على أحد الصور المصغرة (thumbnail)، يقول هوفان، الذي كان يعمل في أحد المخازن: «أحاول أن أبتكر برنامجا، يكون بالأساس سهلا ومبسطا. هذا البرنامج يقوم بتخمين المصطلحات».
والطلاب المحتمل التحاقهم بالأكاديمية، والذين من المتوقع ألا يكون لديهم خلفية عن البرمجة، يخضعون لعدة ساعات من اختبارات المنطق والذكاء. ومن بين تلك الأسئلة على سبيل المثال، يجري سؤالهم عن الحرف الناقص في التسلسل التالي:
7 (S)
11 (O)
15 (Q)
20 (V)
30 (?)
وقد تقدم 20.000 طالب للالتحاق بالأكاديمية هذا العام.
وقد دعي هوفان، ومعه 2550 طالبا الذين جاءوا بالإجابة الصحيحة وهي «T» الحرف الأول من كلمة «Trente» الفرنسية، والتي تعني 30، دعوا جميعا للمشاركة في معسكر مكثف يستغرق شهرا في باريس أطلق عليه اسم «المسبح» لتحديد من سيكون بإمكانه «السباحة»، أي الدراسة، في أكاديمية 42. وقد تدفق على هذا المعسكر الكثير من الطموحين من شتى أنحاء فرنسا، غالبيتهم من الرجال، بعضهم من المعتدين بأنفسهم من شباب الطبقة الأرستقراطية، وأكثرهم من ذوي الشعر اللامع والنظارات القديمة. جميعهم عسكروا في المبنى، وفي النهاية جرى اختيار 900 طالب للالتحاق ببرنامج تعليمي يمتد لثلاثة أعوام في أكاديمية 42.
ويقول القائمون على الأكاديمية، إن الطلاب سوف يتلقون دروسا في ما يتعلق بحل المشكلات المختلفة. غير أن بعض العاملين في حقل التعليم يصفون تلك الخطوة بالساذجة، حيث يصرح بيير بيليه، الذي يعمل موظفا إداريا في معهد الاتصالات، لمجلة «الطالب» (LEtudiant) المتخصصة في شؤون التعليم، أن إعطاء الطلاب «الوصفات» فقط لا يكفي، «فينبغي أن تعلمهم كيف يصنعون الطعام».
ويعلق مارك نوفو، أستاذ علوم الحاسب الآلي، والذي يرأس النقابة الوطنية للتعليم العالي (أكبر نقابة فرنسية تضم العاملين في حقل التعليم الجامعي)، على ذلك بقوله إنه قد يشوب تقييم البعض لأكاديمية 42 قصر النظر. فمن المؤكد أن خريجي الأكاديمية سوف يثبتون موهبتهم في مجال البرمجة، لكنهم قد يجدوا أنفسهم مقيدين في «مجال عمل محدد للغاية» والذي لن يكون متاحا على الدوام.
ويتابع نوفو: «أعتقد أن ذلك تفكير قاصر فيما يخص مجال المعرفة، فالمجتمع لا يتقد فقط عن طريق القفزات التكنولوجية التي تحدث على المدى القصير».
ورغم ذلك، رحب بعض المسؤولين في الحكومة بأكاديمية 42، وخصوصا المهتمين بحالة الاقتصاد الفرنسي.
وتقول فلور بيللرين، وزيرة الشركات الصغيرة والمتوسطة والاختراعات والاقتصاد الرقمي: «نحتاج أن تنمو لدينا ثقافة الاعتياد على تقبل المبادرات الخاصة والفردية». وتضيف بيليرين، في إحدى المقابلات، أن «هناك حاجة ماسة لأن يتوفر لدينا الكثير من الأشخاص المؤهلين والمدربين جيدا»، وأكاديمية 42 «تتوافق بالضبط» مع «الطريقة التي نحتاجها في تدريب شباب اليوم على كيفية تطوير الاقتصاد الرقمي».
وهناك أيضا بعض الطرق المماثلة التي تنفذها بعض الجامعات الخاصة، مثل كلية المعلومات والتكنولوجيا الحديثة (Ecole pour Linformatique et les nouvelles technologies)، والتي كان يديرها في السابق نيكولا ساديراك، مدير أكاديمية 42، وتعد بشكل عام أفضل معاهد فرنسا في هذا المجال.. لكن الدراسة في تلك الجامعات والمؤسسات المشابهة تتكلف آلاف اليوروهات كل عام.
ويعلق على ذلك كورنتان دينوس (18 عاما) بقوله إنه يحتاج إلى «حقيبة ملأى بالنقود» حتى يمكنه الدراسة في تلك المعاهد. وقد استطاع دينوس أن يتخطى اختبارات «المسبح» ليلتحق بأكاديمية 42.
ويقول دينوس عن الأكاديمية إنها ربما تبدو «غريبة بعض الشيء»، مضيفا: «لكنها مثالية بالنسبة لي».
* خدمة «نيويورك تايمز»



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي