مديرة «بي بي سي» القاهرة: اعتدنا الانتقادات... ونعتذر عندما يجانبنا الصواب

صفاء فيصل أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن مكتب الهيئة لا يواجه تضييقاً أمنياً

صفاء فيصل
صفاء فيصل
TT

مديرة «بي بي سي» القاهرة: اعتدنا الانتقادات... ونعتذر عندما يجانبنا الصواب

صفاء فيصل
صفاء فيصل

تسلمت الإعلامية المصرية صفاء فيصل، منصب مديرة مكتب «بي بي سي» القاهرة، عقب مسيرة حافلة بالمقر الرئيسي في لندن، خلفاً للإعلامي أكرم شعبان، في ظل ما يتردد عن بعض الاتهامات من قِبل الإعلام المصري بعدم المهنية في تغطية الأحداث الإرهابية في مصر، وأحاديث عن تضييق أمني يتعرض له المكتب الإقليمي بالقاهرة.
«الشرق الأوسط» التقت فيصل في أول أيام توليها العمل؛ فقالت: «بدأت عملي في الإعلام في الصحافة المكتوبة، وأعترف بأنني كنت شغوفة للغاية بفكرة الصحافة المكتوبة منذ دراستي الجامعية... وكانت الفكرة حلماً يراودني منذ الصغر، وعملت بالفعل في صحيفة (الوفد) المصرية، ومكاتب وكالتي الأنباء (الألمانية والعمانية) في القاهرة. لكن، عندما تلقيت عرضاً للعمل في «بي بي سي» أدركت أنها فرصة ذهبية للانضمام إلى هيئة ذات سمعة عالمية.
خضت أيضاً العمل التلفزيوني في مرحلة ما من حياتي المهنية، وأفتخر بهذه التجربة التي كانت نتاجاً لمسابقة في الابتكار على مستوى الخدمة العالمية، وعملت أيضاً في قسم التخطيط وجمع الأخبار، لكن الراديو بقي بالنسبة لي البيت الذي أعود إليه دوماً».
ترى فيصل أن كل وسيلة إعلامية لها المميزات الخاصة بها، وأن «الصحافة المكتوبة تمنح المتلقي العمق والتحليل والخلفيات للخبر، وتبقى مؤثرة مدة أطول من الإذاعة والتلفزيون؛ لكنها تعاني حالياً من أزمة تمويل حقيقية في كل أنحاء العالم، أما الراديو فهو وسيلة جذابة وسريعة، ويمكن للمتلقي أن يستمع ويستمتع به أينما كان؛ لكنه يواجه حالياً منافسة عالية من الثورة في وسائل التواصل الاجتماعي، والتلفزيون صورة، والصورة تروي ألف حكاية في لقطة واحدة».
تكشف فيصل عن أنها ليست السيدة الأولى التي تتولى منصب مديرة مكتب القاهرة بقولها: «سبقتني إليه الزميلة نجلاء العمري، شخصياً لا أحس أن كوني سيدة يشكل عامل ضغط على الإطلاق، بل على العكس؛ فـ(بي بي سي) كانت حافلة دوماً بالقدرات النسائية الرائعة التي أثبتت نفسها عبر سنوات، سواء في الإدارة أو في غرفة الأخبار أو وراء الميكرفون، والمعيار الحقيقي للتقييم هو الكفاءة». وتقول: «فخورة للغاية بتولي هذا المنصب، وسعيدة جداً بقيادة فريق من أفضل الصحافيين في العالم العربي في أحد أهم المكاتب الخارجية لـ(بي بي سي) في الشرق الأوسط، بل في العالم».
وتؤكد: «هناك تحديات مهنية كبيرة تكتنف العمل الإعلامي في مصر والمنطقة بأسرها؛ نظراً للظروف الحالية السياسية والأمنية؛ لكن لدينا إصراراً على تقديم خدمة إعلامية متميزة تليق بمؤسسة عالمية مثل (بي بي سي)، ونطمح إلى إثراء المشهد الإعلامي المصري».
وتضيف: «بالنسبة لي لدي خطة متكاملة تعتمد أولاً على استقطاب وتدريب الكوادر البشرية، والتأكد من تطبيق المعايير التحريرية الثابتة للهيئة التي اكتسبتها عبر عقود طويلة من العمل الإعلامي الدولي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على روح الابتكار والتنوع لدى طاقم العمل، ونسعى أيضاً للاستفادة من ثورة الإعلام الرقمي وتزويد استوديوهاتنا بأحدث التقنيات... والأهم من ذلك، نسعى لعقد شراكات دولية مع روافد الإعلام في العالم العربي لتسويق منتج عال الجودة».
تدرك صفاء فيصل أن «العمل الإعلامي سواء بالنسبة لـ(بي بي سي) أو غيرها أصبح صعباً وخطيراً، والإعلاميون مع الأسف أصبحوا مستهدفين بشكل متزايد». وتقول: «مدركة تماماً حجم التحديات التي تواجهنا بصفتنا رافداً إعلاماً دولياً؛ لكنني ومعي كل فريق العمل لدينا إصرار على تقديم خدمة إخبارية متميزة؛ لذلك نقدم التدريبات والمهارات الكافية لطواقم العمل لدينا».
وحول ما أثارته مؤخراً أثارت البريطانية كاري غريسي حول قضية التمييز بين الرجال والنساء في الأجور في «بي بي سي»، علقت فيصل: «التفاوت في الأجور بين النساء والرجال مشكلة عالمية، وفي جميع القطاعات مع الأسف وليست قاصرة على الإعلام، وهذا بالطبع لا يبرر وجود التفاوت في الأجور في (بي بي سي)؛ بل على العكس هو يضع مسؤولية على عاتق (بي بي سي) باعتبارها رائدة... وهذا ما حدث تماماً، توني هال، رئيس المؤسسة، الذي أقر بوجود المشكلة، وأقر كذلك بأن تمثيل المرأة في المناصب العليا ليس على المستوى المأمول وتعهد بحل المشكلة ليس بمجرد بيانات أو خطب رنانة، لكن بوضع جدول زمني معين لجسر هذه الفجوة».
وترى أن «غريسي اختارت أن تضع المشكلة تحت الضوء بطريقة مختلفة، وكسبت تعاطفاً وتأييداً من بعض العاملات في الهيئة، وهذا حقها، ومع ذلك لا توجد حلول سحرية، لكن توجد حلولاً عملية؛ لكن الأمر قد يستغرق وقتاً، المهم أننا على الطريق الصحيحة، وأول الصواب الاعتراف بالمشكلة».
أما عن مرور 80 عاماً على تدشين الخدمة العربية، فتقول: «بي بي سي» بدأت بكلمة «هنا لندن» وأن تبقى هذه الكلمة بعد مرور ثمانين عاماً، بل وتتطور وتتجدد يعتبر إنجازاً رائعاً؛ لكن الأروع ما تحقق على مدى هذه السنوات فهو ليس مجرد وجود، لكنه بصمة قوية واضحة.
وتشير «بدأنا إذاعة موجهة تقدم الأخبار في عشرين دقيقة، واليوم نحن موجودون على مدى 24 ساعة على الراديو والتلفزيون والإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الرقمي، والاحتفالية التي تقام اليوم يقصد منها توجيه تحية لجيل الرواد ممن خدموا في (بي بي سي)، ونسترجع معهم تحديات عصرهم وإنجازاتهم، وفي الوقت نفسه نركز الضوء على الجيل الجديد الذي اختار (بي بي سي) طريقاً، وندعوهم للتحاور مع جيل الرواد، وننظر من خلالهم للمستقبل، والأهم من ذلك كله المستمع، الذي بقي وفياً مخلصاً لنا كل هذه السنوات نستمع إليه بدورنا، ونعطيه مساحة مستحقة وشكر وعرفان لكل هذا الحب غير المشروط».
أما عن مشروع (20-20) فتكشف «قبل عامين أعلنت الخدمة العالمية (بي بي سي) عن أكبر توسعة في تاريخها من حيث التنوع أو التعدد، وبالنسبة للقسم العربي مشروع 20-20 له عناصر وجوانب عدة تم بالفعل ترجمتها لمشروعات إعلامية، الهدف منها التركيز على منطقتي الخليج والمغرب العربي؛ لأن هذه المناطق لم تحظ بالتغطية الكافية فيما مضى، وفي المقابل كان لدينا هدف التركيز على قضايا الشباب والنساء وتعزيز الحوار المجتمعي». مضيفة: «هذا المشروع أثمر برنامجَي (الخليج هذا الصباح) و(جولة مغاربية) على موجات الإذاعة، وبرنامج (ترندينغ) على التلفزيون، ولدينا عدد من المشروعات التي تركز على القضايا الصحية وقضايا الاقتصاد... من جانب آخر أعدنا هيكلة مكاتبنا في بيروت، وافتتحنا مكتباً في تونس، ولدينا خطط للتوسع في الأردن».
وتدافع فيصل عما وجه من اتهامات لـ«بي بي سي» بعدم الموضوعية والانحياز، قائلة: «هذه الاتهامات موجودة منذ زمن في مصر وإيران وغيرهما، ونواجه اتهامات من هذا القبيل من طرف أو طرف آخر، واعتدنا على هذه الانتقادات التي تزداد حدتها في أوقات الأزمات. لكن لدينا سياسة تحريرية ثابتة تعتمد على معايير مهنية، ولا تخضع للمتغيرات السياسية في بلد بعينه» وتؤكد: «لكن عندما يجانبنا الصواب نقف ونراجع ونعتذر دون أي تحفظ، فالأخطاء البشرية واردة في أي عمل إعلامي؛ لكن المؤكد أنه لا يوجد لدينا سوء نية، ولا مصلحة لنا إلا في كشف الحقائق كاملة، وقد يكون ذلك أحياناً مؤلماً».
تنفي فيصل وجود تضييق أمني على مكتب «بي بي سي» في القاهرة، وبخاصة بعد ما نشرته «بي بي سي» من أرقام عن ضحايا حادث الواحات الإرهابي، مؤكدة «يمكن لجهات حكومية في مصر أن تبدي تحفظاً ما على أسلوب عملنا، وهذا مفهوم في إطار المهام الموكلة إليهم والتباين في وجهات النظر، والحكومة البريطانية نفسها تبدي أحياناً تحفظاً على أسلوب عملنا؛ لكنها تتفهم أن سياستنا التحريرية ثابتة». وتؤكد: «أما عن زميلي أكرم شعبان فكان لديه رغبة منذ فترة للعودة إلى المقر الرئيسي في لندن لظروف عائلية قبل حادث الواحات بوقت، وبخاصة أنه قد أمضى في منصبه أكثر من أربع سنوات، حقق خلالها الكثير من الإنجازات المهنية، وبالفعل تمت الاستجابة لطلبه عبر طرح الوظيفة بمسابقة داخلية، والطبيعي جداً أن نتناوب على المناصب ونتبادل الأدوار حسب متطلبات العمل ووفقاً لرؤيتنا».
ترى صفاء فيصل أن «الإعلام في العالم العربي في مرحلة حراك وهذا طبيعي جداً؛ لأن الإعلام مرآة للمجتمع؛ لكن من الظلم مقارنة الإعلام الدولي بالمحلي؛ لأن لكل واحد جمهوره وأجندته الإخبارية، وهناك تجارب متميزة وكفاءات رائعة في الإعلام العربي؛ لكن ظاهرة الإعلامي النجم تضر كثيراً بالمعايير التحريرية؛ لأنها تجعل من المذيع محور الحديث وليس القضية، ومن ثم ينفرد بالرأي ويجعل الموضوع قضية شخصية، وهذا في رأيي غير مهني.
أيضاً معظم تجارب الإعلام الإلكتروني تحاول منافسة «السوشيال ميديا» بدلاً من انتهاج خط تحريري واضح وينتج من ذلك أخطاء تحريرية قاتلة وانجرار لتهافت غير مقبول على فكرة الإغراء الوقتي».
تتذكر فيصل الكثير من المواقف الصعبة والطريفة التي واجهتها أثناء عملها الإعلامي، تقول: «تؤلمني معاناة البشر، وأذكر شخصاً كان مرعوباً وأنا أجري معه حواراً، وطلب ضمانات وانتهي بنا الأمر لإجراء الحوار في سيارة العمل في أحد أركان شارع مظلم، وناشطاً سياسياً ليبياً أجريت معه حواراً على الهاتف وبعد ساعة تقريباً من إذاعة الحوار تم القبض عليه، وشعرت كما لو أنني مسؤولة بشكل ما عن اعتقاله».
تعتبر فيصل «الأخبار الكاذبة» تحدياً كبيراً للإعلام في عالمنا اليوم، وتقول: «لدينا حالياً في (بي بي سي) الخدمة العالمية وحدة مختصة لفحص الأخبار الكاذبة والتحقق منها تساعدنا مهنياً، وتقدم مساعدة للمتلقي كذلك. ولدي طموح لإقامة وحدة موازية باللغة العربية، وأعتقد أنها ستحظى باهتمام كبير من المتلقي، إضافة إلى ذلك نتلقى تدريبات دورية للتعرف على عناصر الخبر الكاذب والخبر الصحيح، وعموماً نطبق دوماً قاعدة (المصدرين) في تحرير الأخبار، ولدينا فريق في غرفة الأخبار للتحقق من صحة المقاطع المصورة».
تؤمن صفاء فيصل بأن «الإعلام كيان حي، ويجب أن يتطور ويتعايش مع مســتجدات العصر وألا يندثر».
وترى أن شبكات التواصل الاجتماعي تشكل بالطبع منافساً قوياً للإعلام في الوقت الراهن «لأنها تستقطب اهتمام الناس بشكل كبير، وتغذي عناصر التشويق والجوانب التفاعلية». لكن تؤكد أن «الإعلام «التقليدي» - إن جاز القول - يستطيع أن يطوع شبكات التواصل الاجتماعي لخدمته والوصول لأكبر قطاع ممكن، فالكثيرون يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي كنافذة للاطلاع على الأخبار والمشاركة أيضاً في برامج تفاعلية. مشيرة إلى أن «شبكات التواصل الاجتماعي هي نمط إعلامي رائج حالياً؛ لذلك أصبح لدينا في (بي بي سي) أقسام متخصصة لمواقع التواصل الاجتماعي، ليس فقط لرصد الأخبار وتتبع مصادرها؛ لكن أيضاً لطرح قضايا للنقاش، وأخيراً الوصول لأكبر قطاع ممكن».


مقالات ذات صلة

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.