الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)

خيل للعالم في نهايات 2016 أن النمسا قد استطاعت الفكاك من المصير الأصولي المتطرف الذي كان ينتظرها؛ وذلك بعد أن خسر هذا التيار المتشدد مقعد الرئاسة الذي كان يحلم به وكاد أن يقترب منه قولاً وفعلاً. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تلك الأصولية البغيضة ستعود وبقوة إلى هذه الدائرة بعد أقل من عامين لتضحى رسمياً أول دولة في أوروبا تُحكَم من قبل اليمين القومي المحافظ واليمين الشعبوي المتطرف من ناحية، وبعد أن بات سباستيان كورتز مستشاراً للبلاد من جهة ثانية.
يضعنا المشهد النمساوي الحالي أمام تساؤلات عدة، فبداية ما الذي حدث في جمهورية انقطعت صلتها بالحركات النازية واليمينية المتطرفة منذ عقود بعيدة وقادها إلى تلك النتيجة؟ ثم، وربما هذا هو الأخطر، ما تبعات وانعكاسات هذا الفوز على بقية أوضاع اليمين في أوروبا، سواء كان يمين وسط أو قومياً شعبوياً متطرفاً، وكلهم ربما يختلفون في الرتوش والتفاصيل الشكلية، لكن تجمعهم وحدة التوجه الراديكالي بالمعنى السلبي للكلمة، من رفض للآخر أول الأمر، وتالياً كراهيته، وصولاً إلى استهدافه معنوياً وجسمانياً.

اليمين النمساوي ونتيجة متوقعة
هل ما جرى في النمسا كان وعن حق مفاجأة، أم أن الأمر كان بالفعل متوقعاً؟
المؤكد أن نجاح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف لم يكن مفاجأة أبداً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين تابعوا تطورات الأحوال السياسية في البلاد عن كثب في الأعوام الأخيرة.
هنا يضحى التذرع بموضوع اللاجئين والمهاجرين تكئة غير مقبولة، ولا سيما أن النمسا كانت دائماً تميل إلى أحزاب مماثلة.
في تحليل لها تقدم صحيفة «الديلي تليغراف» البريطانية رؤية تقريبية لما حدث؛ إذ ترى أن الأحداث التي أعقبت عام 2015 قد أعطت حزب الحرية النمساوي دفعة، لكن «علاقة الحب» النمساوية باليمين المتطرف تتعدى هذا التاريخ وتذهب إلى أعمق من ذلك.... ماذا عن حزب الحرية هذا؟
يعد حزب الحرية أحد أقدم الحركات القومية الأوروبية، وقد أسسه نازيون سابقون، لكنه يقول إنه نبذ ماضيه وطرد الكثير من أعضائه في السنوات القليلة الماضية بسبب مزاعم تتعلق بالنازية، وقد تركزت حملته على خطاب مناهض للمهاجرين المسلمين، عطفاُ على امتلاكه هو وحزب المحافظين منطلقات تمجد العهد النازي المجرّم قانونياً في النمسا التي ولد بها هتلر وضمها للرايخ الثالث.
لا يستقيم الحديث عن حزب الحرية دون النظر إلى شخص سباستيان كورتز، وزير الخارجية الحالي، وزعيم حزب الشعب النمساوي، والمعروف بمواقفه اليمينية، سواء تجاه فكرة أوروبا الموحدة، أو بالنسبة للاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العامين الماضيين.
وفي الانتخابات الأخيرة رأيناه متحالفاً مع قوى اليمين المهيمنة على المشهد النمساوي، واضعاً نُصب عينيه قضايا من نوعية تعزيز النظام الاجتماعي والأمني، وضرورة تعزيز كل ذلك بمحاربة الهجرة غير الشرعية. كان من الطبيعي إذن أن يحصل حزب الشعب المحافظ على 31 في المائة، في حين حاز حزب الحرية القومي على 26 في المائة، أي معاً أكثر من نصف أصوات النمساويين الذين انتخبوا، وقبلها أكثر من 40 في المائة في انتخابات رئاسية 2016.

مظاهرات في الداخل وقلق أوروبي
هل جاءت النتيجة المتقدمة لتلقى هوى كبيراً عند عموم النمساويين؟
مؤكد للذين تابعوا أحوال الشارع النمساوي أن هناك حالة واسعة من الرفض لدى النمساويين؛ فقد خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات مناوئة للحكومة الجديدة أمام القصر تزامناً مع مراسم حفل التنصيب... لماذا؟
يدرك النمساويون أن النتائج الأخيرة تشعل النيران في الماضي المؤلم للبلاد، والجميع هناك يعلم أن حزب الحرية تم تأسيسه من قِبل ضباط نازيين سابقين؛ ولهذا فإننا نقرأ في نص الاتفاقية الموقعة بين أطراف الحكومة الجديدة: «إننا نريد حماية وطننا النمسا، لنحيا فيها بكل ميزاتها الثقافية، وهذا يشمل أن نقرر بأنفسنا من يمكنه الهجرة إلينا والعيش معنا، وإنهاء الهجرة غير الشرعية».
هل هناك شيء ما مصيري حدث على صعيد الحياة السياسية النمساوية منذ عام 2000؟ الشاهد أنه عام 2000 أدى دخول حزب الحرية النمساوي إلى حكومة المستشار المحافظ فولفغانغ شوسل إلى زلزال سياسي في أوروبا، وفرضت عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وواجه عميد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا أيضاً أزمة داخلية كبيرة بعد انضمامه إلى الحكومة إلى جانب المحافظين بزعامة شوسل، وقد تمكن هاينز – كريسيتان ستراكي من السيطرة بشكل وثيق منذ عام 2005 على الحزب الذي شهد مؤخراً تباينات سياسية مختلفة، لكن من دون انقسامات كبيرة، غير أن الأجواء تغيرت؛ إذ إن حزب الحرية هذب خطابه هو وبقية الأحزاب القومية؛ ولذا حققت تقدماً في كل مكان تقريبا بينما تواجه المفوضية الأوروبية أزمات أخطر.
ما يحدث يدلل على أن الأصولية الأوروبية ماضية قدماً وبشكل يدعو للخوف في أوروبا، خذ إليك على سبيل المثال ما غرد به السياسي البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني على موقع «تويتر» قائلاً: «عام 2000 كنت أحضر جلسة في البرلمان الأوروبي، أرادات فرض عقوبات على النمسا؛ لأن حزب الحرية النمساوي كان ضمن ائتلاف الحكومة، والآن نحن في 2017 في الوضع نفسه، لكن ما من أحد يتفوه بكلمة لقد أضحت السياسة المتشككة بأوروبا هي التيار السائد».
هل يمكن أن تضحى النمسا إذن حصان طروادة الأصولي لبقية الدول الأوروبية؟
الثابت، أن ذلك ومن أسف يمكن أن يضحى كذلك، ولا سيما أن حزب الحرية النمساوي يدعو إلى تقارب مع مجموعة «فيزيغراد» التي تضم دولاً مثل بولندا والمجر والتي تخوض اختبار قوة مع المفوضية الأوروبية... هل يعني هذا الفوز أن وحدة أوروبا ذاتها يمكن أن تضحى في خطر؟

دعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي
جاء فوز اليمين الأصولي في النمسا ليلقى هوى كبيراً عند بقية الأحزاب اليمينية في أوروبا؛ فقد رحب قادة أحزاب يمينية متطرفة أوروبية من بينهم الفرنسية مارين لوبان والهولندي غيرت فيلدرز خلال مؤتمر عقد في براغ منذ نحو أسبوعين بما وصفوه بـ«الحدث التاريخي» في النمسا، حيث يستعد زعيم «حزب الحرية» هاينز شتراخه لتسلم منصب نائب المستشار.
يعنّ لنا في هذا السياق التساؤل هل جاء فوز اليمين النمساوي ليعطي بقية أحزاب اليمين الأوروبي زخماً جديداً بعدما أخفقت غالبية، إن لم يكن كل تلك الحركات، في الوصول إلى مقاعد الحكم في العامين الماضيين؟
والمؤكد، أن ذلك الفوز أعطى دفعة قوية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من أجل العودة إلى الواجهة، بعد الهزائم التي لقتها، جراء خطابها العنصري والمناهض للآخرين، ولا سيما من المسلمين في أوروبا.
عينة من تلك النتائج نجدها عند زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي ماريان لوبان، التي استغلت صعود حزب الحرية إلى الحكم في النمسا، من أجل الدعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي، وقد تحدثت في مؤتمر براغ بالقول: «إن الاتحاد الأوروبي في النفس الأخير، وهناك أمل في أننا سنسقط هذه المنظمة غير الصحيحة من داخلها، وعلينا أن نتصرف كما يتصرف الفاتح».
ليس هذا فحسب، بل إن لوبان اعتبرت أن الأحزاب اليمينية قادرة على تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، ومشددة، على أن هذه القوى تستطيع القضاء على الاتحاد الأوروبي.
تعلو اليوم صيحات التطرف اليميني في الداخل الأوروبي، تزخمها أوضاع اقتصادية غير منضبطة، ومشاعر كراهية متأججة؛ ولذلك يرى هؤلاء وأولئك أن: «الشعوب الأوروبية عليها تحرير نفسها من أغلال الاتحاد الأوروبي تلك المؤسسة التي يصفونها بالكارثية التي تقود القارة الأوروبية إلى الموت». لكن ما هو البديل الذي يفكر فيه التيار الشعبوي الأوروبي بديلاً عن الاتحاد الأوروبي؟
إنهم يروجون لطرح ما يعرف لـ«اتحاد الشعوب الأوروبية»، وهو مشروع ينص على التعاون الطوعي بين الدول، يقوم على الاحترام المتبادل ومراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية.
والمقطوع به، أن حالة صحوة اليمين الأصولي بدأت تتجلى كذلك في جمهورية التشيك، والداعي للقاء براغ كان رجل الأعمال توميو أوكامورا، زعيم الحزب اليميني التشيكي المتطرف «الحرية والديمقراطية المباشرة»، الذي حصل مؤخراً على 10 في المائة من أصوات الناخبين في اقتراع تشريعي بفضل خطابه الصارم ضد الإسلام، وضد الاتحاد الأوروبي.
ولعل ما ساعد أوكامورا على هذا الفوز، وجود رئيس تشيكي، ميلوش زيمان، يساري النزعة معروف بخطابه المؤيد لروسيا وللصين والمعادي للإسلام.
زيمان هذا كان قد شبّه أزمة الهجرة «بالغزو المنظم» ويعتبر المسلمين أشخاصاً من المستحيل دمجهم، في المجتمع، وهو كذلك المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية يناير (كانون الثاني).
2018 لم يكن غيرت فيلدرز بدوره ليصمت وهو رمز التطرف الأصولي اليميني في هولندا، وقد ذهبت تصريحاته في مؤتمر براغ إلى طريقين، الأولى خاصة بأوروبا، والأخرى بالمسلمين من المهاجرين.
فقد شدد في كلمته خلال مؤتمر براغ على ضرورة «منع الهجرة الجماعية إلى أوروبا...»، مضيفاً: «حتى لو اضطرونا إلى إقامة حد»، ومشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد بإمكانه «إبقاء الأبواب والنوافذ مفتوحة أمام المهاجرين من العالم الإسلامي». وأضاف فيلدرز: إن «بروكسل تشكل تهديداً وجودياً لدولنا»، معبراً عن أمله في أن «يبقي التشيكيون أبوابهم مغلقة تماماً أمام الهجرة الجماعية».
تصويت النمسا الأخير إذن لا يعني فقط نهاية صورتها الليبرالية المتسامحة، وإنما أيضاً الوداع المؤقت لرؤية أوروبا موحدة» من جديد... هل سيدفع مسلمو النمسا، وبقية دول أوروبا ضريبة هذا الفوز؟

احتفال يذكر بالكراهية والعنصرية

هناك في عالم السياسة بعض المشاهد التي تتيح لناظرها قراءة ما وراء الأحداث، وتكشف عما يفكر فيه أو يتطلع إليه، وقد كان احتفال الحزب المحافظ واليمين القومي في النمسا، دليلاً على ما يمكن أن ينتظر المسلمين في النمسا، وتالياً عموم أوروبا... كيف ذلك؟
الشاهد، أن الحزبين قررا الاحتفال بالفوز في مكان له أهمية رمزية كبرى هو جبل كاهلنرغ، وهو المكان الذي شهد بدء عملية استعادة أوروبا الوسطى من القوات العثمانية عام 1683م.وللمكان «أهمية» ترتبط بمحاصرة العثمانيين لفيينا عام 1683، واستعادة القوات المسيحية المتحالفة بقيادة الملك البولندي جون سوبيسكي الثالث هذه التلة، ونهاية هذا الحصار وبداية انحسار الجيوش الإسلامية في أوروبا الوسطي.
هذا المكان تلجأ إليه مرة سنوياً الجماعات المتطرفة لإحياء ذكرى الانتصار على العثمانيين، وعند خبير الشؤون السياسية توماس هوفر: «أنه بعيداً عن المغالاة في أهمية الاحتفال إلا أن اختيار هذا المكان يحظى بالأهمية، على الأقل لدى حزب الحرية».
وإذا كان اليمين المتطرف في النمسا معادياً للمسلمين والهجرة واللاجئين، وتعمد على ما يبدو أن يختار مكان استعادة البلاد من المسلمين «عثمانيين أو أفارقة أو شرق أوسطيين، فهل ينذر ذلك بما ينتظر الجاليات التي عاد بعض غلاة اليمين الأوروبي اليوم يطلقون عليهم «المحمديين» في استرجاع سيئ للتاريخ؟
الشاهد، أن الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا باتت وباءً مستفحلاً في أوروبا خلال 2017، وأضحت مسألة المسلمين محورية في كل النقاشات السياسية لليمين المتطرف الذي نجح في حصد الدعم الشعبي والتقدم في استطلاعات الرأي بشكل لم يحققه منذ الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في فرنسا والتشيك والنمسا وألمانيا.
السؤال المهم هنا هو ما انعكاسات هذا الفور على نحو 700 ألف مسلم من أصول عرقية مختلفة يعيشون في النمسا، وكيف ستمضي بهم الأقدار هل للمواجهة أم للتعايش؟
الثابت، أنه لولا عزف تلك الجماعات على نبرة الكراهية ضد مواطنيهم من المسلمين لما قدر لهم الفوز في الحملة الانتخابية الأخيرة والفوز بالمركزين الأول والثالث معاً...هل في الأفق من غيوم تنذر بهبوب ريح عاصفة عاتية؟
البداية تجلت في قرار وزير التعليم النمساوي الذي أيد حظر الحجاب بالنسبة للمعلمات في المدارس النمساوية؛ ما يعني أن المواجهة الثقافية بدأت تأخذ سياقاتها المتوقعة، ومن بعد يمكن للمرء أن يتوقع الأسوأ الذي لم يأت بعد، وبخاصة في ظل الربط المغلوط بين الإرهاب من جهة واللاجئين والمهاجرين من جهة ثانية.
أوروبا اليوم في حالة صدمة، ستطول لبعض الوقت، ففي ألمانيا هناك 92 نائباً في البرلمان «البوندستاج» ينتمون إلى «حزب البديل من أجل ألمانيا» المعروف بمواقفه المتطرفة، وها هي النمسا تلحقه، وأغلب الظن أن غالبية دول أوروبا الشرقية ستلحق بهما عما قريب؛ ما سيجعل من شبه المقطوع به تسلل فيروس الأصولية إلى بقية دول أوروبا الغربية الكبرى، ولا سيما فرنسا وبريطانيا.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».