الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
TT

الأصولية النمساوية... فوز بطعم نهاية أوروبا الموحدة

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان تتحدث إلى مجموعة من الصحافيين خلال زيارتها إلى مركز إيواء المهاجرين خارج العاصمة باريس يوم الثلاثاء الماضي (أ.ف.ب)

خيل للعالم في نهايات 2016 أن النمسا قد استطاعت الفكاك من المصير الأصولي المتطرف الذي كان ينتظرها؛ وذلك بعد أن خسر هذا التيار المتشدد مقعد الرئاسة الذي كان يحلم به وكاد أن يقترب منه قولاً وفعلاً. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تلك الأصولية البغيضة ستعود وبقوة إلى هذه الدائرة بعد أقل من عامين لتضحى رسمياً أول دولة في أوروبا تُحكَم من قبل اليمين القومي المحافظ واليمين الشعبوي المتطرف من ناحية، وبعد أن بات سباستيان كورتز مستشاراً للبلاد من جهة ثانية.
يضعنا المشهد النمساوي الحالي أمام تساؤلات عدة، فبداية ما الذي حدث في جمهورية انقطعت صلتها بالحركات النازية واليمينية المتطرفة منذ عقود بعيدة وقادها إلى تلك النتيجة؟ ثم، وربما هذا هو الأخطر، ما تبعات وانعكاسات هذا الفوز على بقية أوضاع اليمين في أوروبا، سواء كان يمين وسط أو قومياً شعبوياً متطرفاً، وكلهم ربما يختلفون في الرتوش والتفاصيل الشكلية، لكن تجمعهم وحدة التوجه الراديكالي بالمعنى السلبي للكلمة، من رفض للآخر أول الأمر، وتالياً كراهيته، وصولاً إلى استهدافه معنوياً وجسمانياً.

اليمين النمساوي ونتيجة متوقعة
هل ما جرى في النمسا كان وعن حق مفاجأة، أم أن الأمر كان بالفعل متوقعاً؟
المؤكد أن نجاح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف لم يكن مفاجأة أبداً، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين تابعوا تطورات الأحوال السياسية في البلاد عن كثب في الأعوام الأخيرة.
هنا يضحى التذرع بموضوع اللاجئين والمهاجرين تكئة غير مقبولة، ولا سيما أن النمسا كانت دائماً تميل إلى أحزاب مماثلة.
في تحليل لها تقدم صحيفة «الديلي تليغراف» البريطانية رؤية تقريبية لما حدث؛ إذ ترى أن الأحداث التي أعقبت عام 2015 قد أعطت حزب الحرية النمساوي دفعة، لكن «علاقة الحب» النمساوية باليمين المتطرف تتعدى هذا التاريخ وتذهب إلى أعمق من ذلك.... ماذا عن حزب الحرية هذا؟
يعد حزب الحرية أحد أقدم الحركات القومية الأوروبية، وقد أسسه نازيون سابقون، لكنه يقول إنه نبذ ماضيه وطرد الكثير من أعضائه في السنوات القليلة الماضية بسبب مزاعم تتعلق بالنازية، وقد تركزت حملته على خطاب مناهض للمهاجرين المسلمين، عطفاُ على امتلاكه هو وحزب المحافظين منطلقات تمجد العهد النازي المجرّم قانونياً في النمسا التي ولد بها هتلر وضمها للرايخ الثالث.
لا يستقيم الحديث عن حزب الحرية دون النظر إلى شخص سباستيان كورتز، وزير الخارجية الحالي، وزعيم حزب الشعب النمساوي، والمعروف بمواقفه اليمينية، سواء تجاه فكرة أوروبا الموحدة، أو بالنسبة للاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العامين الماضيين.
وفي الانتخابات الأخيرة رأيناه متحالفاً مع قوى اليمين المهيمنة على المشهد النمساوي، واضعاً نُصب عينيه قضايا من نوعية تعزيز النظام الاجتماعي والأمني، وضرورة تعزيز كل ذلك بمحاربة الهجرة غير الشرعية. كان من الطبيعي إذن أن يحصل حزب الشعب المحافظ على 31 في المائة، في حين حاز حزب الحرية القومي على 26 في المائة، أي معاً أكثر من نصف أصوات النمساويين الذين انتخبوا، وقبلها أكثر من 40 في المائة في انتخابات رئاسية 2016.

مظاهرات في الداخل وقلق أوروبي
هل جاءت النتيجة المتقدمة لتلقى هوى كبيراً عند عموم النمساويين؟
مؤكد للذين تابعوا أحوال الشارع النمساوي أن هناك حالة واسعة من الرفض لدى النمساويين؛ فقد خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات مناوئة للحكومة الجديدة أمام القصر تزامناً مع مراسم حفل التنصيب... لماذا؟
يدرك النمساويون أن النتائج الأخيرة تشعل النيران في الماضي المؤلم للبلاد، والجميع هناك يعلم أن حزب الحرية تم تأسيسه من قِبل ضباط نازيين سابقين؛ ولهذا فإننا نقرأ في نص الاتفاقية الموقعة بين أطراف الحكومة الجديدة: «إننا نريد حماية وطننا النمسا، لنحيا فيها بكل ميزاتها الثقافية، وهذا يشمل أن نقرر بأنفسنا من يمكنه الهجرة إلينا والعيش معنا، وإنهاء الهجرة غير الشرعية».
هل هناك شيء ما مصيري حدث على صعيد الحياة السياسية النمساوية منذ عام 2000؟ الشاهد أنه عام 2000 أدى دخول حزب الحرية النمساوي إلى حكومة المستشار المحافظ فولفغانغ شوسل إلى زلزال سياسي في أوروبا، وفرضت عقوبات من الاتحاد الأوروبي، وواجه عميد الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا أيضاً أزمة داخلية كبيرة بعد انضمامه إلى الحكومة إلى جانب المحافظين بزعامة شوسل، وقد تمكن هاينز – كريسيتان ستراكي من السيطرة بشكل وثيق منذ عام 2005 على الحزب الذي شهد مؤخراً تباينات سياسية مختلفة، لكن من دون انقسامات كبيرة، غير أن الأجواء تغيرت؛ إذ إن حزب الحرية هذب خطابه هو وبقية الأحزاب القومية؛ ولذا حققت تقدماً في كل مكان تقريبا بينما تواجه المفوضية الأوروبية أزمات أخطر.
ما يحدث يدلل على أن الأصولية الأوروبية ماضية قدماً وبشكل يدعو للخوف في أوروبا، خذ إليك على سبيل المثال ما غرد به السياسي البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني على موقع «تويتر» قائلاً: «عام 2000 كنت أحضر جلسة في البرلمان الأوروبي، أرادات فرض عقوبات على النمسا؛ لأن حزب الحرية النمساوي كان ضمن ائتلاف الحكومة، والآن نحن في 2017 في الوضع نفسه، لكن ما من أحد يتفوه بكلمة لقد أضحت السياسة المتشككة بأوروبا هي التيار السائد».
هل يمكن أن تضحى النمسا إذن حصان طروادة الأصولي لبقية الدول الأوروبية؟
الثابت، أن ذلك ومن أسف يمكن أن يضحى كذلك، ولا سيما أن حزب الحرية النمساوي يدعو إلى تقارب مع مجموعة «فيزيغراد» التي تضم دولاً مثل بولندا والمجر والتي تخوض اختبار قوة مع المفوضية الأوروبية... هل يعني هذا الفوز أن وحدة أوروبا ذاتها يمكن أن تضحى في خطر؟

دعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي
جاء فوز اليمين الأصولي في النمسا ليلقى هوى كبيراً عند بقية الأحزاب اليمينية في أوروبا؛ فقد رحب قادة أحزاب يمينية متطرفة أوروبية من بينهم الفرنسية مارين لوبان والهولندي غيرت فيلدرز خلال مؤتمر عقد في براغ منذ نحو أسبوعين بما وصفوه بـ«الحدث التاريخي» في النمسا، حيث يستعد زعيم «حزب الحرية» هاينز شتراخه لتسلم منصب نائب المستشار.
يعنّ لنا في هذا السياق التساؤل هل جاء فوز اليمين النمساوي ليعطي بقية أحزاب اليمين الأوروبي زخماً جديداً بعدما أخفقت غالبية، إن لم يكن كل تلك الحركات، في الوصول إلى مقاعد الحكم في العامين الماضيين؟
والمؤكد، أن ذلك الفوز أعطى دفعة قوية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا من أجل العودة إلى الواجهة، بعد الهزائم التي لقتها، جراء خطابها العنصري والمناهض للآخرين، ولا سيما من المسلمين في أوروبا.
عينة من تلك النتائج نجدها عند زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي ماريان لوبان، التي استغلت صعود حزب الحرية إلى الحكم في النمسا، من أجل الدعوة لتدمير الاتحاد الأوروبي، وقد تحدثت في مؤتمر براغ بالقول: «إن الاتحاد الأوروبي في النفس الأخير، وهناك أمل في أننا سنسقط هذه المنظمة غير الصحيحة من داخلها، وعلينا أن نتصرف كما يتصرف الفاتح».
ليس هذا فحسب، بل إن لوبان اعتبرت أن الأحزاب اليمينية قادرة على تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، ومشددة، على أن هذه القوى تستطيع القضاء على الاتحاد الأوروبي.
تعلو اليوم صيحات التطرف اليميني في الداخل الأوروبي، تزخمها أوضاع اقتصادية غير منضبطة، ومشاعر كراهية متأججة؛ ولذلك يرى هؤلاء وأولئك أن: «الشعوب الأوروبية عليها تحرير نفسها من أغلال الاتحاد الأوروبي تلك المؤسسة التي يصفونها بالكارثية التي تقود القارة الأوروبية إلى الموت». لكن ما هو البديل الذي يفكر فيه التيار الشعبوي الأوروبي بديلاً عن الاتحاد الأوروبي؟
إنهم يروجون لطرح ما يعرف لـ«اتحاد الشعوب الأوروبية»، وهو مشروع ينص على التعاون الطوعي بين الدول، يقوم على الاحترام المتبادل ومراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية.
والمقطوع به، أن حالة صحوة اليمين الأصولي بدأت تتجلى كذلك في جمهورية التشيك، والداعي للقاء براغ كان رجل الأعمال توميو أوكامورا، زعيم الحزب اليميني التشيكي المتطرف «الحرية والديمقراطية المباشرة»، الذي حصل مؤخراً على 10 في المائة من أصوات الناخبين في اقتراع تشريعي بفضل خطابه الصارم ضد الإسلام، وضد الاتحاد الأوروبي.
ولعل ما ساعد أوكامورا على هذا الفوز، وجود رئيس تشيكي، ميلوش زيمان، يساري النزعة معروف بخطابه المؤيد لروسيا وللصين والمعادي للإسلام.
زيمان هذا كان قد شبّه أزمة الهجرة «بالغزو المنظم» ويعتبر المسلمين أشخاصاً من المستحيل دمجهم، في المجتمع، وهو كذلك المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية يناير (كانون الثاني).
2018 لم يكن غيرت فيلدرز بدوره ليصمت وهو رمز التطرف الأصولي اليميني في هولندا، وقد ذهبت تصريحاته في مؤتمر براغ إلى طريقين، الأولى خاصة بأوروبا، والأخرى بالمسلمين من المهاجرين.
فقد شدد في كلمته خلال مؤتمر براغ على ضرورة «منع الهجرة الجماعية إلى أوروبا...»، مضيفاً: «حتى لو اضطرونا إلى إقامة حد»، ومشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يعد بإمكانه «إبقاء الأبواب والنوافذ مفتوحة أمام المهاجرين من العالم الإسلامي». وأضاف فيلدرز: إن «بروكسل تشكل تهديداً وجودياً لدولنا»، معبراً عن أمله في أن «يبقي التشيكيون أبوابهم مغلقة تماماً أمام الهجرة الجماعية».
تصويت النمسا الأخير إذن لا يعني فقط نهاية صورتها الليبرالية المتسامحة، وإنما أيضاً الوداع المؤقت لرؤية أوروبا موحدة» من جديد... هل سيدفع مسلمو النمسا، وبقية دول أوروبا ضريبة هذا الفوز؟

احتفال يذكر بالكراهية والعنصرية

هناك في عالم السياسة بعض المشاهد التي تتيح لناظرها قراءة ما وراء الأحداث، وتكشف عما يفكر فيه أو يتطلع إليه، وقد كان احتفال الحزب المحافظ واليمين القومي في النمسا، دليلاً على ما يمكن أن ينتظر المسلمين في النمسا، وتالياً عموم أوروبا... كيف ذلك؟
الشاهد، أن الحزبين قررا الاحتفال بالفوز في مكان له أهمية رمزية كبرى هو جبل كاهلنرغ، وهو المكان الذي شهد بدء عملية استعادة أوروبا الوسطى من القوات العثمانية عام 1683م.وللمكان «أهمية» ترتبط بمحاصرة العثمانيين لفيينا عام 1683، واستعادة القوات المسيحية المتحالفة بقيادة الملك البولندي جون سوبيسكي الثالث هذه التلة، ونهاية هذا الحصار وبداية انحسار الجيوش الإسلامية في أوروبا الوسطي.
هذا المكان تلجأ إليه مرة سنوياً الجماعات المتطرفة لإحياء ذكرى الانتصار على العثمانيين، وعند خبير الشؤون السياسية توماس هوفر: «أنه بعيداً عن المغالاة في أهمية الاحتفال إلا أن اختيار هذا المكان يحظى بالأهمية، على الأقل لدى حزب الحرية».
وإذا كان اليمين المتطرف في النمسا معادياً للمسلمين والهجرة واللاجئين، وتعمد على ما يبدو أن يختار مكان استعادة البلاد من المسلمين «عثمانيين أو أفارقة أو شرق أوسطيين، فهل ينذر ذلك بما ينتظر الجاليات التي عاد بعض غلاة اليمين الأوروبي اليوم يطلقون عليهم «المحمديين» في استرجاع سيئ للتاريخ؟
الشاهد، أن الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا باتت وباءً مستفحلاً في أوروبا خلال 2017، وأضحت مسألة المسلمين محورية في كل النقاشات السياسية لليمين المتطرف الذي نجح في حصد الدعم الشعبي والتقدم في استطلاعات الرأي بشكل لم يحققه منذ الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في فرنسا والتشيك والنمسا وألمانيا.
السؤال المهم هنا هو ما انعكاسات هذا الفور على نحو 700 ألف مسلم من أصول عرقية مختلفة يعيشون في النمسا، وكيف ستمضي بهم الأقدار هل للمواجهة أم للتعايش؟
الثابت، أنه لولا عزف تلك الجماعات على نبرة الكراهية ضد مواطنيهم من المسلمين لما قدر لهم الفوز في الحملة الانتخابية الأخيرة والفوز بالمركزين الأول والثالث معاً...هل في الأفق من غيوم تنذر بهبوب ريح عاصفة عاتية؟
البداية تجلت في قرار وزير التعليم النمساوي الذي أيد حظر الحجاب بالنسبة للمعلمات في المدارس النمساوية؛ ما يعني أن المواجهة الثقافية بدأت تأخذ سياقاتها المتوقعة، ومن بعد يمكن للمرء أن يتوقع الأسوأ الذي لم يأت بعد، وبخاصة في ظل الربط المغلوط بين الإرهاب من جهة واللاجئين والمهاجرين من جهة ثانية.
أوروبا اليوم في حالة صدمة، ستطول لبعض الوقت، ففي ألمانيا هناك 92 نائباً في البرلمان «البوندستاج» ينتمون إلى «حزب البديل من أجل ألمانيا» المعروف بمواقفه المتطرفة، وها هي النمسا تلحقه، وأغلب الظن أن غالبية دول أوروبا الشرقية ستلحق بهما عما قريب؛ ما سيجعل من شبه المقطوع به تسلل فيروس الأصولية إلى بقية دول أوروبا الغربية الكبرى، ولا سيما فرنسا وبريطانيا.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟