«بيت البحر»... بنية معمارية تتكشف فيها الشخصيات تباعاً

بصدور رواية «بيت البحر» عن دار E - Kutub بلندن يكون رصيد الكاتبة الإماراتية فاطمة الناهض قد بلغ خمس روايات، وثلاث مجموعات قصصية، إضافة إلى نصوص مفتوحة، تدرّجت فيها الناهض مع القصص القصيرة قبل أن تشرع في كتابة روايتها الأولى المعنونة بـ«خط الاستواء» التي صدرت عن الدار نفسها عام 2012.
لا يمكن قراءة «بيت البحر» بعيداً عن المنحى المجازي على الرغم من إيغال النص الروائي في واقعيته لجهة نموّ الشخصيات، وتطوّر الأحداث، وحلّ العُقدة الروائية في خاتمة المطاف. فبيت البحر لا بد أن يكون رمزاً للوطن أو لمنطقة الخليج العربي، خصوصا أن الكاتبة قد تعمّدت تعويم الزمان، وطمس المكان بحيث لا يعرف القارئ أنّ الأحداث تدور في الإمارات لولا بعض العبارات والجُمل الخاطفة مثل «الخليج العربي» و«أغلى مدينة في العالم»، ودرجات الحرارة التي «تصل إلى خمسين درجة مئوية أو أكثر».
تكمن حِرفية فاطمة الناهض في البنية المعمارية لنصوصها الروائية، وفي أنساقها السردية المنسابة التي لا تُشعر المُتلقي بالصنعة والتكلّف، كما أنّ تعددية الأصوات تمنع سقوط القارئ في خانق الرتابة أو الملل لأنَّ مثلث الترقّب والتشويق والمفاجأة حاضر في فصول الرواية التي بلغت 22 فصلاً تتكشّف فيها الشخصيات تباعاً على وفق الأحداث المتصاعدة التي لا تقتصر على الشخصيات الست التي تجتمع في «بيت البحر» بهدف الحصول عليه وشرائه من مالِكة الدار وإنما تمتدّ إلى شخصيات آخر تلعب أدواراً مؤازرة قبل أن تتوارى عن الأنظار.
تعتمد بنية الرواية على ثيمة «بيت البحر» المعروض للبيع حيث عاينه 107 أشخاص لكن جنى، مالكة الدار، اختارت عدداً محدوداً منهم كي يتنافسوا على الفوز به، فهو ليس بيتاً عادياً مثل بقية البيوت، فقد بناه والدها المعماري توماس أبي راغب «ووضع فيه من قلبه الكبير ما جعلنا نحبّه ونعتبره ملاذنا الآمن في هذه الحياة» (ص50). وأكثر من ذلك فقد عاشت فيه طفولتها ومراهقتها ونضجها، ولعل خلاصة الثيمة تكمن في اعترافها حينما تقول: «ليس مهماً أين ولدت... بل أين اضطرب قلبك بكل مباهج العمر وسلوى الحياة... أليس الوطن... حيث القلب؟» (ص256). وكان شرطها الوحيد الذي فرضتهُ على المتنافسين الستة أن يذكروا سبب رغبتهم في شراء البيت ببضعة أسطر علماً بأن كل مرشّح لديه أسبابه ودوافعه الخاصة.
تضعنا فاطمة الناهض في الفصل الأول من روايتها أمام جنى، مالكة الدار، والمرشحين الستة وهم على التوالي أمل، مها، يوسف سالم، بن سيف، سعيد مصبّح وصقر ناصر. وسوف تأخذنا الكاتبة إلى هذه الشخصيات السبع وأخرى غيرها في رحلة طويلة تغطي متن النص الروائي برمته. ويبدو واضحاً أن التركيز منصب على الشخصيات النسائية التي أخذت حيّزاً كبيراً من الرواية مثل جنى، أمل، مها، ندى، عيشة وسواهن من النساء اللواتي يبحثن عن مستقبل أفضل في مجتمع ذكوري تتسيّد فيه القيم الشرقية المعروفة.
ولكي نحيط القارئ علماً بالخطوط العريضة لهذه الرواية لا بد لنا أن نتوقف عند الشخصيات المُشار إليها سلفاً ولعل أمل هي أولهنّ ليس لأنها شخصية إشكالية حسب وإنما لهيمنتها على مدار الرواية، وحضورها الفاعل في الكثير من أحداثها آخذين بنظر الاعتبار أنها لا تبوح بكل أسرارها دفعة واحدة، فثمة أشياء مخبأة دائماً، فقد قالت بأنها ابنة بحّار وهي ليست كذلك، فأمها «عيشة» تزوجت صياداً سحرها ثم توارى عن الأنظار من دون أن نعرف مصيره، وحينما انتقلت الأم من القرية إلى المدينة نبهت ابنتها على أهمية التعليم: «هذا هو سلاحك الوحيد الذي سيحقق أحلامك... كل ما عداه فإن... ومؤقت.. هو الضوء الذي يجب أن تتبعيه حتى النهاية» (ص55). تتخرج في كلية الآداب، وتعمل محاسبة في «سوبر ماركت» ثم تتزوج زيجة سرية من ضابط سوف يتخلى عنها بعد شهرين لتجد نفسها في محل «الكهف» للتدليك حيث تتعرف على صاحبته «ندى» التي تقلب حياتها رأساً على عقب حينما تعيّنها كمرافقة لرجال الأعمال الأجانب. وحينما تموت ندى إثر مرض عضال نكتشف أنها نقلت وديعتها إلى أمل واشترت لها شقة تلوذ بها في الأوقات العصيبة.
لا تقل قصة «مها» تشعباً عن سابقتها فهي مواطنة وقعت في حب طبيب «أجنبي» اسمه عصام فوزي الذي تزوجها لمدة سنتين، وتغربت معه مضحية بكل شيء من أجله لكنه توارى هو الآخر في أيام «الربيع» واعتبرها طالقاً وحرّرها عن أي ارتباط شرعي. وحينما تتعرف على جنى وأمل نكتشف أنها قد تزوجت من رايان غابي، تاجر التحف الإنجليزي، وأن أباها لم يكن مُصاباً بالخرف وإنما تقمّص دور المريض وأتقنه بدقة متناهية.
لم يعرف المرشحون أن الرجل المسن بن سيف هو والد السمسار يوسف السالم وأنه كان يمارس دور الجلاد على ابنه الضحية ومع ذلك فقد جاء كي يفوز بالبيت مُفاجئاً إيّانا بأن توماس أبي راغب قد خسر البيت في جولة قمار وأن هذا المسن يحتفظ بالإقرار واعتراف الشاهدين اللذين وقّعا على الورقة. لا شك في أن يوسفَ أوفر حظاً من أبيه، فقد لفت انتباه جنى، واحتضن كفّها الناعمة بين يديه، وطبع قُبلة على جبينها لكنه لم يصل إلى ضالته المنشودة.
المفاجآت تُترى في هذه الرواية فقد عرفت جنى من الشاهد ألفي فينلي أن لديها أخاً يُدعى ألبرت وأن أباها قد تزوج من سيدة جميلة تصغره بعشرين عاماً لكنه تبيّن لاحقاً أن الطفل هو من صديقها الأول وأن زواج والدها لم يتعدَّ حدود الحاجة الإنسانية. تُعيدنا المفاجأة الثانية إلى الماضي حينما يعلن راشد أن «بيت البحر» مسجل باسم والده الذي اقترض المال من توماس أبي راغب فبنى هذا الأخير بيتين مقابل أن يسكن في «بيت البحر» ويترك الآخر لأبي راشد الذي وعده باسترجاع النقود حينما يقرر العودة إلى دياره. أما المفاجأة الثالثة فإن أمل التي تسترت على اسم خطيبها الذي وعدها بالزواج بعد شهر نكتشف أنه راشد نفسه، هذا الشخص المحافظ الذي مالت إليه جنى في الأسابيع الأخيرة لكنه انفصل عن أمل وترك جنى تتخبط في مشاعرها المُختلطة ولم يبدِ أي أسف على رغبتها في العودة إلى لندن قبل أن تقرر الانتقال إلى مسقط رأسها في لبنان. وفي غيابها يقتني بن سيف «بيت البحر» من راشد لكنه يكتشف أنه لا يزال يتذكر تلك الليلة المدلهمة التي كان فيها على وشك الغرق ولولا أفراد «بيت البحر» الذين أنقذوه من البرد والجوع لكان في عداد الموتى، فقد جاء غريباً لهذا البلد لكنه أصبح واحداً منهم الآن ولكي يتحرر من تلك الليلة إلى الأبد فقد باع البيت إلى سعيد مصبّح، القروي الذي شارك والده في زراعة حديقة بيت البحر.