حدود التوتر المصري ـ السوداني

القاهرة تتفادى التصعيد وتسعى لـ«الاحتواء»... والخرطوم مع حسم القضايا العالقة

حدود التوتر المصري ـ السوداني
TT

حدود التوتر المصري ـ السوداني

حدود التوتر المصري ـ السوداني

على مدار تاريخ العلاقات المصرية السودانية، لم تنجح الكلمات المعسولة لمسؤولي البلدين وعباراتهم الودودة التي تتحدث عن تاريخيتها الضاربة في القدم، في تصفية الأزمات، وإن لعبت دورا مهماً في تلطيفها وتسكينها، قبل أن يشتعل الوضع من جديد.
وفي الآونة الأخيرة شهدت العلاقات توتراً غير مسبوق، كان محور الخلافات فيه مثلث «حلايب وشلاتين وأبو رماد» الحدودي، والموقف من سد «النهضة» الإثيوبي، إضافة إلى اتهامات سودانية للقاهرة بدعم متمردين مناهضين لنظام الرئيس عمر البشير، وهو ما نفته مصر جملة وتفصيلاً. وبلغ التوتر ذروته مع قرار السودان، قبل نحو أسبوعين، استدعاء سفيره في القاهرة للتشاور، في قرار واجهته القاهرة، بهدوء وحذر شديدين على المستوى الرسمي، فأشارت وزارة الخارجية إلى أنها «تقوم بتقييم الموقف بشكل متكامل لاتخاذ الإجراء المناسب». واتهمت مصر دولاً إقليمية (في إشارة إلى قطر وتركيا) بالسعي إلى توتير العلاقات بين البلدين.
مع كل أزمة تنشب بين البلدين الشقيقين مصر والسودان، تثار التساؤلات، حول حدود التوتر بين البلدين، وماذا سيفضي في النهاية، هل يمكن أن ينتج عنه قطيعة دائمة.... وهل يتطوّر إلى نزاع حدودي مسلح بين شعبي وادي النيل؟
ترى الدكتورة أماني الطويل، عضو المجلس المصري للشؤون الأفريقية، التي تحدثت إلى «الشرق الأوسط» عن العلاقات المصرية السودانية، أن هذه العلاقات «لم تخرج من نفق الوضع المأزوم طوال تاريخها، وهي تقدم نموذجاً فريداً من المد والجزر في حركة دائرية تأبى أن تتقدم إلى الأمام».
- المكوّن العاطفي
وفي حين يؤكد مصدر سياسي مصري مطلع لـ«الشرق الأوسط»، أن «مصر ترغب في تهدئة الأجواء مع السودان.... وتأمل ألا يكون (السودان) مخلباً لقوة إقليمية تريد الضغط على مصر وتسميم الأجواء». تشرح الطويل أن «هذه ليست أولى أزمات العلاقات بين البلدين ولن تكون آخرها، فهذه طبيعة العلاقات بين البلدين منذ خمسينات القرن الماضي، بعضها بسبب أزمات واقعية، والآخر بسبب إدراكات مختلفة لكل طرف عن الأخر...»... غير أنها، في المقابل، استبعدت بالمطلق «أن تنهار العلاقات بين البلدين إلى حد ممارسات مسلحة مثلا»، مشيرة إلى «وجود محدّدات للعلاقات بين البلدين، أقصاها التصعيد الإعلامي والتلاسن المتبادل في التصريحات»، ومضيفة «هناك مكوّن مميز في العلاقات المصرية السودانية غير موجود في أي علاقات أخرى، وهو المكوّن العاطفي وعلاقة النسب بين الشعبين، وهي أمور من الصعب كسرها.... وحتى في حالة التلاسن بين البلدين، يكون محصورا في علاقات النخب السياسية، والإعلام بعيدا عن الشعبين.... ومرتبطة بتوافق أو عدم توافق النظامين الحاكمين في البلدين، تحت مظلة الوضع الإقليمي أو النظام الدولي».
ومن جهة ثانية، يرى المحلل السياسي السوداني محمد لطيف، أن التحفظ السوداني حول قضية حلايب وشلاتين والتحفظ المصري حول سد النهضة، هما ما أحدث التوتر بين البلدين، وأن هذه «التطورات حدثت بعد تأسيس «التحالف العربي» و«عاصفة الحزم» وأزمة سوريا مع وجود تركي في البحر الأحمر، ومع الأخبار المتداولة حول تعاون مصري إريتري، زُعم أنه موجّه ضد السودان وإثيوبيا».
والواقع أنه منذ بداية عام 2017 شهدت العلاقات السودانية - المصرية توترات مكتومة على المستوى الرسمي، إلى أن خرجت تصريحات لمسؤولين سودانيين متتالية، أظهرت مدى هذا التوتر، الذي لم يتوقف عند استدعاء السفير، بل طالبت العديد من الصحف السودانية بإلغاء اتفاق الحريات الأربع «غير المفعل»، والذي وقع بين البلدين عام 2004. وينص على إلغاء كل القيود الهجرية الخاصة بالحق في حرية الدخول والخروج والتنقل والامتلاك.
- سد النهضة... يعمّق الخلافات
إحدى أهم الأزمات التي أشعلت الخلاف بين البلدين أخيراً، هي أزمة سد النهضة الإثيوبي، إذ تتهم القاهرة الخرطوم بدعم موقف أديس أبابا في ملف السد، الذي تخشى أن يؤثر سلباً على حصتها السنوية من مياه نهر النيل، مصدر المياه الرئيسي لمصر. ولقد عبّرت الخرطوم أكثر من مرة عن اعتقادها بأن السد سيكون له فوائد. وسلكت المسلك الإثيوبي (المضاد للموقف المصري) في التحفظ عن تقرير استهلالي أعده مكتب استشاري حول التأثيرات المحتملة لبناء السد، ما أدى إلى توقف المفاوضات الفنية بين الدول الثلاث واستمرار الأزمة.
وقبل أسابيع نقلت وسائل إعلام سودانية ادعاءات بأن وزير الخارجية المصري، أبلغ رئيس وزراء إثيوبيا، طلب بلاده بدء مفاوضات ثنائية، برعاية البنك الدولي، حول سد النهضة مع استبعاد السودان من المفاوضات. وتعامل مسؤولون سودانيون مع هذه التقارير الصحافية بجدية، رغم النفي الرسمي المصري، وسط مطالب بوقف إطلاق اتفاق الحريات الأربع (الدخول، والإقامة، والعمل والتملك) مع مصر.
وفي سياق الخلافات حول سد النهضة أيضا، نفت مصر اتهامات وجهها لها السودان بالتعدّي على حصتها من مياه نهر النيل، وقال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن السودان «يستخدم بالفعل كامل حصته من مياه النيل ومنذ فترة طويلة». وجاء ذلك ردا على تصريحات لوزير الخارجية السوداني - آنذاك - إبراهيم غندور قال فيها إن «مصر كانت على مدى السنوات السابقة تأخذ حصة السودان من مياه النيل».
الدكتورة الطويل، ترى أن مصر «تشعر بالخذلان من السودان في موقف سد النهضة، لسببين: الأول أن مصر والسودان دولتا مصب لنهر النيل، وليسا كما يقول السودان أنهما دولة ممر، وبالتالي لا بد أن تكون المصالح متطابقة»، والثاني أنه «إذا كان السودان يعول اليوم على الأمطار فنحن مقبلون على ظاهرة تصحر في هذه المنطقة من العالم، والاعتماد على الأمطار بديلا للأنهار أمر في غاية الخطورة، وبالتالي، فجعل محابس النيل العليا في إثيوبيا ليس في صالح السودان لا على مستوى وزنه الإقليمي ولا في مصالحه الاستراتيجية».
ومن جانبه، يقول الباحث المصري مشهور إبراهيم أحمد إن «الأمر اللافت أنه بدلا من أن يكون ملف سد النهضة دافعاً نحو توطيد العلاقات المصرية السودانية، في ظل الخطر، الذي يمكن أن يصيب البلدين من وراء تدشينه باعتبارهما دولتي مصب نهر النيل، فإن الأمور توترت بين البلدين، ولم تكن هناك رؤية مشتركة لمدى تأثير السد على البلدين، بل وظهرت الخلافات بين البلدين إلى العلن، وهو ما يصب بالطبع في صالح الجانب الإثيوبي ويزيد من قوة موقفه».
في المقابل، يرى المفكر السوداني الدكتور حسن مكي، أستاذ العلوم السياسية والمدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية، أن «هناك حساسية متزايدة من موقف السودان المستقل في قضية سد النهضة.... السد لا يقام على أرض سودانية، وإنما على أرض إثيوبية». ويضيف مكي، نقلا عن وكالة «الأناضول» «ليس من سبيل لمحاسبة السودان على سياسة دولة أخرى، وإذا كانت لدى مصر تصفية حسابات في هذه القضية، فالسودان لا يريد أن يكسب عداء إثيوبيا في قضية ليس له فيها شأن». ويستطرد منتقداً «مصر تقاعست في مواقف كثيرة، مثل قناة جونقلي.... المصريون يريدون تحقيق مكاسب دون تقديم تضحيات، ما أدخلهم في مأزق سد النهضة». وللعلم، قناة جونقلي هو مشروع لإنشاء قناة ري لنقل بعض مياه بحر الجبل شمالاً لري الأراضي الزراعية في كل من مصر والسودان، وقد بدأ شقها، لكن المشروع توقف، وتحمل الخرطوم القاهرة المسؤولية.
- أبعاد إقليمية للتوتر
على صعيد آخر، شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للسودان، الشهر الماضي، وطلبه من نظيره السوداني عمر البشير منح جزيرة سواكن لتركيا «على سبيل الاستثمار»، محورا في إشعال الأزمة الأخيرة بين البلدين، رغم الصمت المصري الرسمي. إذ شنت وسائل إعلام مصرية هجوما حادا على الخرطوم، واعتبرت الطلب محاولة من السودان وتركيا لتهديد الأمن الإقليمي، وإدخال طرف جديد في معادلة أمن البحر الأحمر. وهو ما رد عليه وزير الخارجية السوداني – آنذاك - إبراهيم غندور، بالقول إن «الرئيس إردوغان يعني جزيرة سواكن، وليس كل منطقة سواكن.... والرئيس البشير وافق على الطلب التركي لتكون هذه منطقة سياحية تُعاد سيرتها الأولى، لينطلق منها الحجاج وتكون سياحة وعبادة (....) هي شراكة استثمارية بين بلدين، وهذا أمر طبيعي».
وحول هذه النقطة أبلغ مصدر سياسي مصري مطلع «الشرق الأوسط» أمس أن مصر «ترغب في تهدئة الأجواء مع السودان في هذه الآونة.... وتأمل ألا يكون السودان مخلباً لقوة إقليمية تريد الضغط على مصر وتسميم الأجواء». وشدد المصدر المطلع (الذي فضل إغفال اسمه) أن «لدى مصر مصالح دائمة وحيوية مع السودان لا تقع فقط في ملف المياه، لكنها تشمل أيضا وجودا عسكريا مصيريا في منطقة دارفور ضمن قوات حفظ السلام الدولية».
أما الدكتور هاني رسلان، رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في «الأهرام» فيرى أن الظهور التركي في وسط البحر الأحمر والمتمثل في جزيرة سواكن السودانية، رغم أنها دولة غير متشاطئة «يعد نواة لتحالف سوداني - قطري - تركي، يمتد ضلعه الرابع إلى دولة إثيوبيا، ويشكل تهديداً لمصر». ويعتبر رسلان أن ذلك يأتي كـ«حلقة من حلقات الانتقال السريع في تحالفات الرئيس السوداني عمر البشير الإقليمية والدولية، وأن التصعيد السوداني مع مصر وصل إلى إقامة تحالفات مع دول تشهد علاقتها مع مصر توترا منذ فترة وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة إلى حد كبير».
وفي السياق ذاته، تعتبر الدكتورة الطويل أن «استدعاء أطراف خارجية في الأزمات مع مصر مسؤولية سودانية بامتياز، تاريخيا، ففي التسعينات استدعت إيران.... وهم يحاولون الآن الاستقواء على مصر بأطراف إقليمية عندما تكون هناك خلافات.... ومصر بدورها استطاعت من قبل أن تستوعب الوجود الإيراني في السودان في فترة حرجة بالنسبة لها، ومن ثم فإن الاستدعاء السوداني لتركيا وقطر أمر قد يقلق مصر.... لكنه لا يصل إلى حد التهديد، وهي قادرة على التعامل معه». وتشير إلى «وجود توازنات إقليمية يجب أن تراعى لأن الخروج عن هذه التوازنات الحرجة يشكل تهديدا للأمن الإقليمي والدولي، ويتسبب في صراع مباشر».
الاتهام ذاته يكرّره السودان الذي يلقي اللوم على أطراف إقليمية بتوتير علاقته بمصر، فوفقا للسفير عبد المحمود عبد الحليم، فإن «بعض الأصداء البيئية الإقليمية والدولية تقف وراء أزمة مصر والسودان حالياً». ويرى المحلل السوداني لطيف، في تصريحات لموقع «سبوتنيك» أن «التطوّرات التي حدثت بعد تأسيس «التحالف العربي» و«عاصفة الحزم» وأزمة سوريا مع وجود تركي في البحر الأحمر ومع الأخبار المتداولة حول تعاون مصري إريتري وما قيل إنه موجّه ضد السودان وإثيوبيا، كان لها دور في هذه التوترات». ويتابع «إن السودان انحاز إلى مصالحه الخاصة، بلا شك»، مشيراً إلى أنه «ليس لمصر الحق في الحديث حول علاقات السودان مع أي دولة أخرى».
- حدث نوعي
غير أن الحدث النوعي في الاتهامات، جاء عبر مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود، الذي ذكر الأسبوع الماضي، أن بلاده تتحسب لتهديدات أمنية من جارتيها مصر وإريتريا، بعد «تحركات عسكرية» في منطقة ساوا الإريترية المتاخمة لولاية كسلا بشرق السودان. هذا التصريح استدعى رداً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نافياً وجود دعم عسكري مصري للحركات المتمردة في السودان، إذ قال السيسي «مصر لا تتآمر ولا يمكن أن تحارب أشقاءها.... وقوة الجيش المصري لا تعني الطغيان على الآخرين، وتطوير أمن قومي»، مطالباً وسائل الإعلام «بالانتباه للعلاقة مع الأشقاء». وسبق ذلك تصريح للوزير سامح شكري قال فيه إن مصر «دائما لديها أمل في أن تشهد العلاقات (مع السودان) القدر الكافي بما يراعي تطلعات الشعبين ومصلحتهما وفقا للاتفاقيات السابقة.... وهذا يتطلب جهدا وانفتاحا لسياسات تكون داعمة لهذا التوجه... وهذا تطلع مصر دائما».
هذا، ويبدو أن السودان لمس خلال الأيام الماضية حرص مصر الكامل على علاقاتها معها، كما ترك تصريح السيسي الأخير انطباعاً جيدا عن نيات مصر تجاه السودان. ففي لقائه مع السفير عبد المحمود عبد الحليم؛ يوم (الخميس) الماضي، أكد الرئيس المصري ثقة بلاده في الدبلوماسية السودانية نحو تأسيس علاقات مع دول الجوار كافة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. وقال عبد الحليم إن البشير «وجّه بالعمل على حل القضايا العالقة مع مصر.... كما اطمأن الرئيس البشير خلال اللقاء على أوضاع الجالية السودانية بمصر».
وهنا، تقول الطويل إن مصر استطاعت أن تتعامل مع التصعيد السوداني بحكمة، لكنها ألقت اللوم أيضا على القاهرة فيما يتعلق بتجاهلها تعظيم المصالح المشتركة بين البلدين، مشيرة إلى وجود «تقصير يجب أن يعترف به، في أفريقيا بشكل عام وفي السودان بشكل خاص، منذ عشرات السنوات، وهو تقصير بدأت مصر تجني ثماره في الوقت الراهن، إذ فقدت أدواتها التفاعلية.... لكن يمكن تجاوز هذا الأمر في المرحلة المقبلة والرئيس السيسي يعمل على ذلك». وتتابع أن «مصر والسودان، لاعتبارات متعلقة بالتاريخ والجغرافيا وثوابت الأمن القومي والمصالح المشتركة بينهما، يجب أن يشكلا نموذجا لأي تكامل عربي يضع في اعتباره تحقيق طفرة اقتصادية لمصلحة رفاهية أبناء المجتمعين وتقدمهم».
-- مثلث «حلايب»... محور صدام دائم
> يشكل النزاع على مثلث حلايب وشلاتين، محور الخلافات الدائمة بين مصر والسودان، لكنه في أحيان كثيرة يستخدم للتعبير عن أزمات أخرى، متعلقة بعدم توافق رأسي السلطة في البلدين حول ترتيبات إقليمية أخرى.
تبلغ مساحة المنطقة الحدودية محل النزاع نحو 22 ألف كيلومتر، وتطل على ساحل البحر الأحمر، على الطرف الجنوبي الشرقي من الجانب المصري، وعلى الطرف الشمالي الشرقي من الجانب السوداني (جنوب مصر)، وتقع فعليا تحت السيادة المصرية. ويطلق على هذه المنطقة اسم «مثلث» كونها تضم ثلاث بلدات كبرى هي حلايب وأبو الرماد وشلاتين.
وطفت القضية لسطح الأحداث أخيراً، بعدما أعلن السودان الشهر الماضي رفضه الاعتراف باتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية السعودية، بحجة مساسها بحق السودان في «المثلث» الحدودي، لكونها اعترفت بحلايب ضمن الحدود المصرية. ولقد اعتاد السودان تقديم شكوى سنوية إلى الأمم المتحدة عن حقه في «مثلث» حلايب، بينما ترى مصر أن الأمور محسومة لصالحها ولا ترغب في مزيد من التصعيد، اعتمادا على أن السيادة على الأرض لصالحها، بما يشمل ذلك العملة المستخدمة والنظام المصرفي، والوجود الفعلي لقوات الجيش والشرطة المصرية، إضافة للمدارس الحكومية ونظام التعليم وغيرها من المؤسسات. وسبق للخارجية المصرية أن أكدت أنها «غير راغبة في النزاع حول شيء تمتلكه بالفعل، كما أنها تمتلك من الوثائق والأدلة الكافية لإثبات حقها إن اقتضى الأمر ذلك».
ولكن، مع تصاعد التوتر بين البلدين أخيراً قررت السلطات المصرية تكريس السيطرة القائمة هناك بالفعل، عبر إجراءات اتخذت بشكل لافت خلال الأسابيع الماضية، تتضمن بناء عشرات المنازل الجديدة، وإنشاء سد لتخزين مياه السيول وميناء للصيد، وزيارات لمسؤولين كبار، على رأسهم وزير الأوقاف الذي أدى صلاة الجمعة هناك، بثها التلفزيون على الهواء مباشرة. غير أن الخرطوم ترى أن الوجود المصري في المثلث هو {احتلال}.
وفي هذا الشأن يقول الدكتور هاني رسلان (مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في «الأهرام»)، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن السودان يعتمد على قرارين صدرا من وزير الداخلية عامي 1902 و1904 يتعلقان بتبعية تلك المناطق للسودان، لكنه أكد أنهما كانا قرارين إداريين لا يخصان السيادة أو يغيران في الأوضاع. وحسب رسلان «كل الأراضي التي تقع شمال خط 22 الحدودي، أراض مصرية. ومطالب السودان بحقه بتلك المنطقة لوجود قبائل تابعة له هناك، أمر غير صحيح، إذ تنتشر تلك القبائل في مصر وفي كل دول الجوار الأفريقي أيضاً».
لكن الجانب السوداني متمسك بان الحدود الادارية تحولت الى سياسية بقرار الحاكم البريطاني، ويدخل ذلك المثلث ضمن حدود السودان.
من جانبه، يقول الباحث مشهور إبراهيم أحمد إن «توتر العلاقات المصرية السودانية ليس أمراً جديداً، وللأسف لن يكون الأخير، ما دامت هناك مشكلات قائمة لم تحسم بعد، وتثار كل فترة، سواء من قبل دول أخرى، لمنع توطيد العلاقات بين البلدين والاستفادة من تأجيج الخلاف، أو لأسباب داخلية أو مكاسب انتخابية». ويرى مشهور في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن مشكلة حلايب وشلاتين تحديداً «نموذج واضح على ذلك، ولا أحد يعلم في كل مرة لماذا تتم إثارتها في توقيت معين، أو لماذا تهدأ الأزمة فجأة رغم أنها لم تحل!!، أو لماذا يحدث اشتباك إعلامي بين البلدين دون أن يكون هناك جديد على أرض الواقع يدعو إلى ذلك»، مطالباً بتشكيل لجنة بين البلدين بخصوص حلايب وشلاتين وغيرها من المشكلات القائمة بالفعل، لحسمها بشكل نهائي، بدلا من الحلول الجزئية لمجرد تهدئة الوضع.
ويضيف مشهور «يجب أن ننتبه لبعد آخر في مشكلة حلايب وشلاتين، إذ أنها تُلقي بآثارها السلبية على العلاقة بين الشعبين، وهنا مكمن الخطورة الأكبر. لأن الحملات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، مثلما هي تسهم في توعية الشعوب بالقضايا، فهي قد تؤجج هوة الخلافات والانقسامات إذا جرى توجيهها بشكل ما، وحتى إذا لم توجه، فإن المشاعر الوطنية ودفاع مواطني كل دولة، عما يشعرون أنه حق لهم قد يؤدي إلى مشاحنات وزيادة المشاعر العدائية».



دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
TT

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية، رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات». وجاء تولي السياسي المتخصص في القانون، بعد أكثر من 3 أشهر من انتخابات مثيرة للجدل، دفعت البلاد إلى موجة احتجاجات دامية راح ضحيتها أكثر من 300 شخص حتى الآن، وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية. وبالفعل استمرت الاحتجاجات حتى أثناء مراسم حفل التنصيب؛ إذ بينما كان تشابو (البالغ من العمر 48 سنة) يخطب أمام حشد متحمس من أنصاره في العاصمة مابوتو، كان مناصرو المعارضة يتظاهرون ضده على بعد أمتار قليلة، بعدما منعتهم قوات الأمن من الوصول إلى مكان الحفل.

بدأ الرئيس الموزمبيقي الجديد دانيال تشابو القسم وسط حشد من أنصاره، وكذلك على مقربة من مظاهرات رافضة نتيجة الانتخابات التي وضعته على رأس السلطة في المستعمرة البرتغالية الكبيرة التي يقترب عدد سكانها من 34 مليون نسمة، وتقع على الساحل الغربي للمحيط الهندي بجنوب شرقي أفريقيا. ولقد نقلت وكالات الأنباء عن شهود عيان قولهم إن وسط العاصمة مابوتو كان شبه مهجور مع وجود كثيف للشرطة والجيش.

أما تشابو فقد قال في خطاب تنصيبه: «سمعنا أصواتكم قبل وأثناء الاحتجاجات، وسنستمر في الاستماع». وأقرَّ الرئيس الجديد بالحاجة إلى إنهاء حالة الاضطراب التي تهز البلاد، مضيفاً: «لا يمكن للوئام الاجتماعي أن ينتظر، لذلك بدأ الحوار بالفعل، ولن نرتاح حتى يكون لدينا بلد موحد ومتماسك».

والواقع أنه منذ إعلان المجلس الدستوري في موزمبيق، خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فوز تشابو في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بنسبة 65.17 في المائة من الأصوات، دخلت البلاد في موجة عنف جديدة، ولا سيما مع طعن فينانسيو موندلاني زعيم المعارضة الشعبوية اليمينية (الذي حلَّ ثانياً بحصوله على 24 في المائة من الأصوات) في صحة نتائجها، ودعوته للتظاهر، واستعادة ما سمَّاه «الحقيقة الانتخابية».

هذا، وتتهم المعارضة -ممثلةً بحزب «بوديموس» الشعبوي- حزب «فريليمو» الاستقلالي اليساري بتزوير الانتخابات، وهي تهمة ينفيها «فريليمو» الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1975. أما تشابو فقد بات الرئيس الخامس لموزمبيق منذ استقلالها. وكان في مقدمة حضور حفل تنصيبه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، وزعيم غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، بينما أرسلت عدة دول أخرى -بما في ذلك البرتغال- ممثلين عنها.

الخلفية والنشأة

ولد دانيال فرنسيسكو تشابو، يوم 6 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة إينهامينغا، المركز الإداري لمنطقة شيرينغوما بوسط موزمبيق. وهو الابن السادس بين 10 أشقاء. وكان والده فرنسيسكو (متوفى) موظفاً في سكك حديد موزمبيق، بينما كانت والدته هيلينا دوس سانتوس عاملة منازل. وهو متزوّج من غويتا سليمان تشابو، ولديهما 3 أولاد، وهو يهوى كرة القدم وكرة السلة، ويتكلم اللغتين البرتغالية والإنجليزية بطلاقة.

النزاع المسلح الذي اندلع بين «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق) الاستقلالية اليسارية، ومنظمة «رينامو» اليمينية التي دعمها النظامان العنصريان السابقان بجنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حالياً) وبعض القوى الغربية، دفع عائلة تشابو إلى مغادرة إينهامينغا، ولذا أمضى دانيال تشابو طفولته في منطقة دوندو؛ حيث التحق بمدرسة «جوزينا ماشيل» الابتدائية، ومن ثم، تابع دراسته في دوندو، وبعد إنهاء تعليمه الثانوي عمل مذيعاً في راديو «ميرامار»؛ حيث قدم برنامجاً رياضياً بين عامي 1997 و1999.

بعدها، التحق تشابو بجامعة «إدواردو موندلاني» في العاصمة مابوتو، وتزامناً مع دراسته الجامعية عمل في تلفزيون «ميرامار»، وقدَّم برنامجاً باسم «أفوكس دو بوفو».

ثم في عام 2004 حصل على شهادته الجامعية في القانون، واجتاز دورة المحافظين وكتَّاب العدل في «مركز ماتولا للتدريب القانوني» في العام نفسه. وهكذا شكَّلت خلفيته الأكاديمية أساساً قوياً لمسيرته المهنية اللاحقة في الخدمة العامة والإدارة.

من القانون إلى السياسة

بدأ تشابو حياته المهنية عام 2005، في مكتب كتَّاب العدل بمدينة ناكالا بورتو، وواصل عمله هناك حتى عام 2009. كما عمل أستاذاً للقانون الدستوري والعلوم السياسية في الجامعة.

وفي عام 2009 انضم إلى حزب «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق)، وعُيِّن بسبب عمله ومشاركته السياسية في منصب إداري في مقاطعة ناكالا- آ- فيليا، ووفق موقعه الإلكتروني فإنه عمل خلال تلك الفترة على «خلق فرص عمل للشباب دون تمييز».

ضغط الأعمال الإدارية لم يمنع في الواقع تشابو من إكمال دراسته، وفعلاً التحق بجامعة موزمبيق الكاثوليكية للحصول على ماجستير التنمية عام 2014. كما حصل على تدريب في نقابة المحامين التي أوقف عضويته فيها طواعية بسبب عمله السياسي.

وعام 2015 عُيِّن تشابو مديراً لمقاطعة بالما؛ لكنه لم يمكث في المهمة طويلاً؛ لأن الرئيس السابق فيليبي غاستينيو نيوسي عيَّنه عام 2016 حاكماً لإينهامباني. وبعدها، في أبريل (نيسان) 2019 وافق البرلمان الموزمبيقي على حزمة تشريعية جعلت تعيين منصب حكام المقاطعات بالانتخاب، وكان تشابو على رأس قائمة «فريليمو» في إينهامباني، ليصبح أول حاكم منتخب للمحافظة التي ظل يحكمها حتى مايو (أيار) 2024.

دعم رئاسي

حظي دانيال تشابو بدعم قوي من الرئيس فيليبي نيوسي الذي شهد بكفاءته، وقال عنه: «مع أنه لم يبقَ في بالما سوى 6 أشهر، فإنه اكتسب تأييداً في هذا الجزء من البلاد، لدرجة أن قرار الرئيس بنقله إلى مقاطعة أخرى كان مثار تساؤلات عما إذا كانت بالما لا تستحق أن يحكمها شخص بكفاءة تشابو».

وخلال السنوات الثماني (2016 إلى 2024) التي أمضاها حاكماً لمحافظة إينهامباني، قاد تشابو المحافظة كي تغدو الأولى في البلاد التي تكمل تنفيذ البنوك في جميع المناطق، في إطار المبادرة الرئاسية «منطقة واحدة، بنك واحد».

وتشير وسائل إعلام محلية إلى أنه في عهد تشابو، وتحت قيادته، نظمت محافظة إينهامباني مؤتمرين دوليين للاستثمار، فضلاً عن منتديات لتنمية المناطق، ما حفَّز الاقتصاد المحلي، وقاد عجلة التنمية.

المسيرة الحزبية

مسيرة دانيال تشابو الحزبية والسياسية بدأت مبكراً؛ إذ شغل بين عامي 1995 و1996 منصب سكرتير منطقة في «منظمة الشباب الموزمبيقي» (OJM) في دوندو. ثم شغل بين عامي 1998 و1999 منصب أمين سر لجنة التثبيت بمجلس شباب المنطقة، إضافة إلى عضويته في «منظمة الشباب الموزمبيقي». وفي عام 2008 عُين مديراً للحملة الانتخابية للمرشح شالي إيسوفو، من «فريليمو»، في بلدية ناكالا بورتو، ويومها فاز الحزب بالانتخابات، وأطاح بالمعارضة.

بعدها، عام 2017، انتُخب دانيال تشابو عضواً في اللجنة المركزية لـ«فريليمو». وفي مايو 2024 اختارته اللجنة المركزية مرشحاً لـ«فريليمو» في الانتخابات الرئاسية. وهي الانتخابات التي فاز فيها أخيراً وسط اعتراضات المعارضة.

وبناءً عليه، يبدأ تشابو فترة رئاسته وسط تحدِّيات كبرى، وفي ظل مظاهرات واحتجاجات هي الأكبر ضد حزب «فريليمو». وراهناً تتصاعد المخاوف على استقرار موزمبيق، مع تعهد منافسه المعارض موندلاني (وهو مهندس زراعي يبلغ من العمر 50 سنة) باستمرار المظاهرات، قائلاً إن «دعوته للحوار قوبلت بالعنف».

وجدير بالذكر أن موندلاني كان قد عاد إلى موزمبيق من منفاه الاختياري، وسط ترحيب من أنصاره، يوم 9 يناير، وادَّعى أنه «غادر موزمبيق خوفاً على حياته، بعد مقتل اثنين من كبار أعضاء حزبه المعارض داخل سيارتهما على يد مسلحين مجهولين، في إطلاق نار خلال الليل في مابوتو، بعد الانتخابات».

في أي حال، يثير الوضع الحالي في موزمبيق مخاوف دولية، ولاحقاً أعرب مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، عن قلقه. وقال في بيان: «نحن في غاية القلق بشأن التوترات المستمرة عقب الانتخابات في موزمبيق».

من ناحية ثانية، بصرف النظر عن الاحتجاجات التي أشعلتها الانتخابات الرئاسية، فإن تشابو يواجه تحديات عدة يتوجب عليه التعامل معها، على رأسها «التمرد» المستمر منذ 7 سنوات في مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية الغنية بالنفط والغاز. وهذا إضافة إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية، واستغلال موارد الغاز الطبيعي، وإدارة تأثيرات التغير المناخي والكوارث الطبيعية التي أثرت على موزمبيق في السنوات الأخيرة.

وراثة الإرث الثقيل

لا شك، ثمة إرث ثقيل ورثه دانيال تشابو، ذلك أنه يقود بلداً مزَّقه الفساد والتحديات الاقتصادية العميقة، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة والإضرابات عن العمل المتكرِّرة التي جعلت موزمبيق -رغم مواردها الكبيرة- واحدة من أفقر دول العالم، وفقاً للبنك الدولي.

الرئيس الجديد قال -صراحة- في خطاب تنصيبه الأربعاء الماضي: «لا يمكن لموزمبيق أن تظل رهينة للفساد والجمود والمحسوبية والنفاق وعدم الكفاءة والظلم». وأردف -وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس»- بأنه «لمن المؤلم أن كثيراً من مواطنينا ما زالوا ينامون من دون وجبة لائقة واحدة على الأقل».

وعليه، في مواجهة هذا الإرث الثقيل، تعهد بتقليص عدد الوزارات والمناصب الحكومية العليا. ورأى أن من شأن هذا التدبير توفير أكثر من 260 مليون دولار، سيعاد توجيهها لتحسين حياة الناس.

بالطبع فإن المعارضين والمشككين غير مقتنعين، ويقولون إنهم استمعوا كثيراً إلى النغمة نفسها تتكرَّر بلا تغيير يُذكر. بيد أن رئاسة تشابو تمثِّل اليوم فصلاً جديداً في تاريخ موزمبيق، أو «مفترق طرق»، حسب تعبير تشابو الذي قال في خطاب فوزه: «تقف موزمبيق عند مفترق طرق، وعلينا أن نختار طريق الوحدة والتقدم والسلام».