د. سامي الجمعان: المسرح السعودي يتحرك ويشاغب ولا يراوح مكانه

هناك ظلم لتجربتنا المسرحية.. ومسرحنا يفعل ما يفوق ظروفه وبيئته الصارمة

د. سامي الجمعان
د. سامي الجمعان
TT

د. سامي الجمعان: المسرح السعودي يتحرك ويشاغب ولا يراوح مكانه

د. سامي الجمعان
د. سامي الجمعان

بدأ الكاتب المسرحي السعودي د. سامي الجمعان حياته الثقافية من المسرح، وحصل في عام 1987 على أول جائزة تمثيل في المسرح السعودي على مستوى الخليج، وذلك في مهرجان مسرح الشباب الخليجي في الشارقة. وشهدت خشبة المسرح صعوده نحو الإخراج المسرحي وكتابة النص. ثم تفرغ لدراسة المسرح أكاديميا، فكانت رسالة الماجستير التي حصل عليها بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف في السرديات والدراما. أما الدكتوراه فكانت عن دراسته «خطاب الرواية النسائية السعودية وتحولاته».
وحققت الأعمال التي أخرجها حضورا على المسرح، وفازت بجوائز محلية وخليجية (حاز على أكثر من تسع جوائز في مجال الإخراج والتأليف المسرحي). وقد حققت النصوص المسرحية التي كتبها نجاحا ملحوظا، بينها نصه «والقافلة تسير» الحائز على جائزة أفضل نص في مهرجان مسرح الشباب الخليجي عام 1993. ونصه «حدث في مكة» الحائز عام 2011 على المركز الثاني، في مسابقة تأليف وزارة الثقافة والإعلام. كما فاز نصه «موت المؤلف» في مهرجان المسرح السعودي الرابع عام 2007 بجائزة أفضل نص.
وللجمعان عدد من الدراسات النقدية، بينها دراسة بعنوان «حضور ألف ليلة وليلة في المسرح العربي»، وأخرى بعنوان «المسرحية في الأدب العربي». وله كتاب بعنوان: «موت المؤلف.. نص وبيانات مسرحية». كما أصدرت له وزارة الثقافة والإعلام مجموعته المسرحية الثانية بعنوان «حدث في مكة ومسرحيات أخرى». وصدر له كتيب بعنوان «الظاهرة التمثيلية عند العرب». وحرر كتاب «في المسرح السعودي» الصادر عن كرسي الآداب السعودية بكلية آداب جامعة الملك سعود بالرياض عام 2013. واختير نصه عن الشاعر الجاهلي الأعشى للمسرحية الرئيسة في مهرجان سوق عكاظ 2013.
لدى الجمعان مشروع تأليف مسرحي يحمل عنوان «مسرحة الرموز والتجارب المسرحية العربية»، يمثل تجربته الكتابية في مجال المسرح، ويتضمن الجانب النظري لهذا المشروع واستراتيجياته.
«الشرق الأوسط» التقت الدكتور سامي عبد اللطيف الجمعان، الباحث والكاتب المسرحي، وأستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك فيصل في الأحساء، وعضو مجلس إدارة جمعية المسرحيين السعوديين، ومدير فرع جمعية الثقافة والفنون بالأحساء سابقا، في الأحساء شرق السعودية حيث يقيم، وأجرت معه الحوار التالي.

المسرح والأحكام المسبقة

> أين يقف المسرح السعودي اليوم؟ لماذا لا نلحظ تراكما في التجربة المسرحية على الرغم من مرور كل هذه السنوات؟
- إن أردت جوابا حاسما فموجزه أن مثل هذا السؤال ينتمي إلى فئة الأحكام المقولبة عن المسرح السعودي. والمقولبة هي التي تتبنى منظور الحكم المسبق / الجاهز، وهو حكم يظلم كثيرا تجربتنا المسرحية السعودية، بل في اعتقادي ان أصحاب هذه الرؤية هم أبعد ما يكونون عن المسرح السعودي ومشهده، لأن الواقع مغاير ومختلف. نحن حيال تجربة تتنامى وتتطور وتتكرس بشكل لافت، ونحن كعاملين في هذا الحقل نمتلك أدلة قاطعة على ثراء التجربة وتفرع أغصانها.
> ما هذه الأدلة؟
- من تلك الأدلة، ما تقوله الإحصاءات والأرقام التي تشير إلى حراك مسرحي سعودي يزيد سنة عن الأخرى. أيضا المنافسة الخليجية والعربية التي بدأت التجربة المسرحية السعودية تقتحمها بجدارة، على المستويين الخليجي والعربي. أضف إلى هذا وذاك التنوع الفني المنتمي إلى التجربة، من حيث المدارس المسرحية المعمول في إطارها، ناهيك بتجربة النص المسرحي السعودي التي بدأت تبلغ حد الاحترافية عبر أسماء لامعة.
> على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على تأسيس أحمد السباعي (عام 1961) لأول تجربة للعرض المسرحي، حملت اسم «دار قريش للتمثيل القصصي»، فإن المسرح السعودي لا يزال يراوح مكانه. مَن يتحمل المسؤولية عن ذلك؟
- سأكررها في كل محفل، وسأقول بأعلى ما أوتيت من قوة: المسرح السعودي لا يراوح مكانه، وحكمي هذا يتكئ على الموضوعية لا على الانفعالية أو العاطفية والارتجال. مسرحنا ينجز، يتحرك، يشاغب، يصمد، يغامر، يفعل ما يفوق ظروفه المحيطة وبيئته الصارمة. ولكن دعني أُرِحْكَ من هذه الدوامة بتحديد مكمن مشكلة المسرح السعودي ومعضلته الأساسية، المتمثلة في موقف ثقافتنا المجتمعية من فن المسرح، وتوجسنا الاجتماعي منه، وترددنا الرسمي في دعمه وتكريس حضوره، مما أدى إلى أن يصبح المسرح هامشيا في حاجتنا الاجتماعية إليه، بينما المسرح له خاصية التأثير الاجتماعي المستمر، بحيث يصبح تفاعل الناس معه تفاعلا يوميا وعادة متواترة. ومتى ما وصلنا إلى هذه الحالة الثقافية الاجتماعية في فهمنا لدور المسرح، سنسحب تهمنا تلك ونلقي بها عرض البحر.

> لماذا تنجح «الممانعة» الاجتماعية في إعاقة المسرح السعودي، ويفشل المسرحيون في الدفاع عن قضيتهم؟
- ببساطة شديدة، لأن تيار الممانعة يدرك موقف مجتمعنا المتوجس من الفنون عامة، ويلعب على هذا الوتر، بينما لم يحسن المسرحي السعودي تسويق بضاعته الفنية، ولا تسويق إبداعه. وفي ظني، إن السبب في هذا هو عدم جديتنا كمسرحيين في صنع موقف اجتماعي مغاير للسائد في الوعي بدور المسرح وأثره. فنحن نصنع المسرح كمنتج، ولا نصنع آليات تسويقه اجتماعيا، وهو ما أدى إلى نخبوية جماهيرية خانقة.

من يدعم المسرح؟

> أين تقف جمعية المسرحيين؟ هناك من يرى أنها لم تسهم في دفع الحركة المسرحية للأمام وحسب، بل أضرت بها أيضا. كيف تراها أنت؟
- أيضا هو اتهام باطل بكل المقاييس، فجمعية المسرحيين المتهمة دائما من دون وجه حق، وقعت في إشكالية تنظيمية شأنها شأن الجمعيات الأخرى، على الرغم من أن بداياتها الأولى كانت رصينة ومنظمة، فضلا عن المنجز الذي حققه مجلس إدارتها الحالي بالتعاون مع أعضائها، الذي يحاول البعض طمسه أو تجاهله. ولا أدري هل يستطيع أحد مسح تاريخ مثبت وموثق، فعلى الرغم من الإمكانات الضعيفة من جانب، والهجوم الإعلامي الكاسح على المجلس منذ البدايات من جانب آخر، أود من كل منصف العودة إلى ما سعيت لإنجازه، وهذا ليس من باب الدفاع إنما من باب إحقاق الحق. وصدقني كان الطموح أكبر والتطلعات أجمل لولا العثرات التي وقفت في الطريق ويصعب تجاوزها، لأن المال مثلا هو عصب النشاط والحركة، وهذا غير متوفر. فالإدارة الحالية على أقل تقدير تطالب بدعم مادي لعقد جمعيتها العمومية وترشيح المجلس الجديد، ولكن لا مجيب، وستبقى إشكالية الدعم المالي بُعْبُعاً لكل مجلس حالي أو مقبل.
> كيف تقيم مساهمة القطاع الخاص، والشركات، وخصوصا مساهمة «أرامكو» في إثراء التجربة المسرحية؟
- «أرامكو» ضربت مثالا حيا وحقيقيا على دعمها للمسرح. ودربت المواهب السعودية، ودعمت المهرجانات المحلية، وأتاحت الفرصة للمسرحيين للعمل في مهرجاناتها. ولكنني أقول ما زال المنتظر من هذه الشركة السعودية العملاقة أكبر، والطموح في دعمها أكثر. قبل أيام قليلة، دعتنا الشركة إلى معرض إثراء المعرفة الذي تنظمه من أجل حضور عرض مسرحي. وقد سرني أن النسبة الأكبر من الطاقم من الشباب السعودي المتدرب، الذي خضع في بريطانيا لورش عمل كثيرة في مجال المسرح. أما القطاعات الأخرى فيبدو أنها حتى الآن غير مقتنعة بالمسرح.

المسرح ووسائط الإعلام المتعددة

> لماذا لا يوجد عرض مسرحي سعودي امتدت به الحياة، أسوة بالتجارب المسرحية العربية والخليجية مثلا؟
- عروض جميلة ومتقنة بالفعل كان مصيرها التلاشي. وهذه مسألة أوافقك عليها إن كنت تقصد بامتداد الحياة به إطالة أمد عرضه. وهي إشكالية حقيقية تواجه المسرح السعودي والكثير من المسارح العربية، وهي قصر حياة العروض، على الرغم من الفترات الزمنية الطويلة التي نهدرها في التحضير. ويعود هذا إلى قلة الدعم المادي، ثم القاعات غير المتوفرة وغير المجهزة، والنفَس المسرحي القصير لدى المسرحي السعودي. وهذا ينسحب أيضا على المسرح الخليجي، فهو يواجه أيضا إشكالية قِصَر النفَس المسرحي نفسها، وصغر حياة العروض.
> برأيك، هل يمكن للمسرح كموقع إبداعي أن يحظى بمكانة في وسائط الإعلام المتعددة المعاصرة؟
- المسرح الآن يناضل من أجل هذا، فالهجوم الكاسح للحركة السينمائية، وتطور دور السينما، فضلا عن برامج التواصل الاجتماعي، وقوة حضور الإنترنت، سرق جميعه الضوء من المسرح. وهذه حقيقية علينا أن نعترف بها، ولكن يجب أن نعرف بأن المسرح يمتاز بنكهته «الفرجاوية» الخاصة، فلفرجته ومشاهدته متعة لا يحققها غيره، على اعتبار الأداءات الحية، والنبض التواصلي الوجداني المباشر، والأثر الذي يتركه المسرح في نفوس الجماهير. وبالتالي فالمسرح رغم قوة منافسيه سيبقى بذلك الوهج الخاص الذي لا يمتلكه سواه.

> كيف ترى وسائل التواصل الاجتماعي كـ«تويتر» التي تستخدم اليوم لصناعة حالة حوارية ذات قوالب مسرحية؟ هل يمكن أن نلجأ إلى العالم الافتراضي بعد أن عجزنا عن صناعة واقعنا المسرحي على الأرض؟
- لكل نوع جمالياته وطقوسه. وأنا أرى أن نستبدل الفكرة التنافسية بين المسرح والعوالم الفنية والإلكترونية الأخرى بفكرة أكثر حضارية، هي الفكرة التفاعلية، بحيث نستثمر التكنولوجيا في فن المسرح. ونستثمر منتج وسائط التواصل الاجتماعي في صناعة أفكار المسرح، وهي مشاريع قائمة على مستوى العالم حاليا، حيث صناعة المسرحية «الفيس بوكية» مثلا، وتشكيل نصوص مسرحية من تغريدات الـ«تويتر»، وهكذا. لا ننسى أن الفنون والعلوم تراكمية وتفاعلية، يأخذ بعضها من البعض الآخر ومن هنا يفترض أن ننطلق.

المشروع المسرحي

> اشتغلت أكاديميا على مسرح التراث من خلال كتابك «حضور ألف ليلة وليلة في المسرح العربي». ألا تعتقد أن الاشتغال بالتراث استهلك الكثير من المسرح الخليجي الجاد؟
- لأن الصلة وثيقة بين التراث وفن المسرح، فهذا الأمر طبيعي للغاية. ومنذ أن نشأ المسرح على أيدي اليونانيين وغيرهم وهو يتكئ على التراث ويتعاطى مع صيغه. فالمسرح اليوناني في بواكيره نهل من الأساطير، واستوحى التاريخ، وجسد الرموز والأبطال. فوجد فن المسرح في تراث الأمم كنزا لا ينضب ومصدرا لا ينتهي. وكتابي الذي أشرت إليه هو في الأصل رسالة ماجستير جمعت بين حقلين: حقل المسرح وحقل السرديات القديمة، ممثلة في الكتاب القصصي العظيم «ألف ليلة وليلة»، في محاولة مني لتقصي تلك الفاعلية وقياس مدى تأثير «ألف ليلة وليلة» في المسرح العربي عامة. وانتهيت إلى أن المسألة لا تقتصر على التأثير، بل تبلغ مرتبة «الحضور»، والحضور هنا بمعناه الفلسفي العميق يعني «الهيمنة»، هيمنة قصص «ألف ليلة وليلة» في حضورها على الكتاب وقدرة موتيفاتها السحرية على جذب أقلامهم.
> ماذا بعد كتابك «موت المؤلف وبيانات مسرحية»؟ إلى أين تحمل قضية المسرح؟
- قيمة هذا الكتاب الذي صدر عام 2009 في حمله توثيقا لثلاث تجارب مهمة أصدرتها على شكل بيانات مسرحية. الأولى تجربة أحمد السباعي المسرحية التي لم تكتمل، وخوضي في القضايا الدائرة حولها. ثم واقع المسرح السعودي وإشكالية القبضة الاجتماعية المحيطة به. ثم مشروعي التأليفي الذي عنونته بـ«مسرحة الرموز والتجارب المسرحية العربية». وهذا المشروع هو خلاصة ما انتهت إليه تجربتي الكتابية في مجال المسرح، فضمنته الجانب النظري لمفهوم المشروع واستراتيجياته، ثم نصا مسرحيا يعتبر بمثابة التطبيق على المشروع، وهو نص «موت المؤلف». ما أود الإشارة إليه، وهذا ما يحبطنا، هو أن نقادنا لا يطلعون على تجاربنا ولا يتأملونها. لك أن تتصور أن بعض النقاد العرب على اطلاع على هذا الكتاب والمشروع، وكتبوا عنه أكثر من نقادنا ومسرحيينا. فنحن تنقصنا جدية التأمل في التجارب السعودية والتعامل معها نقديا.
> أصدرت مجموعتك المسرحية «حدث في مكة.. ترنيمة إلى أحمد السباعي». ماذا تقول للسباعي أبي التجربة المسرحية السعودية؟
- أقولها بفخر: كم أعتز بك أيها السباعي الأديب المغامر. أيها المتطلع لواقع أجمل. فليرحمك الله لأنك كنت تصنع المسرح في زمن لم يعرف المسرح. وسامح الله من أحبطك ووقف في وجه مشروعك الثري. وأقول للسباعي: كم أعجبتني جديتك وعنايتك بالتفاصيل. كم كنت حضاريا في إعطائك الأدوار لأصحابها. فالمؤلف تركته للكتابة، والمخرج للإخراج، من دون أن تستأثر بكل شيء كونك صاحب المشروع والقائم عليه. رحمك الله، ولو كان مشروعك اكتمل ربما كنا نتحدث الآن عن واقع مسرحي سعودي مغاير.
> لك دراسة بعنوان «خطاب الرواية النسائية السعودية وتحولاته». كيف رأيت تحولات هذا الخطاب؟
- بداية، كان لي هدف من التوجه إلى الرواية بصورة عامة في أطروحة الدكتوراه، الإحاطة بالسرديات قديمها وحديثها، ضمن مشروع نقدي متكامل، حيث خصصت الماجستير للجمع بين جنسي القصص القديم والمسرح. وفي الدكتوراه اتجهت إلى القص الحديث ممثلا في الرواية، وكانت تطلعا للجمع بين الحقلين مسرحا وسرديات، وهذا بحد ذاته ثراء وليس انتقالا غير مبرر، كما يعتقد البعض. أما عن كتاب «خطاب الرواية النسائية السعودية» فتحركت فيه باتجاه رصد منعرجات وتحولات خطاب الكاتبات السعوديات عبر نافذة الرواية، وانتهيت إلى أن الكاتبة السعودية أنجزت خطابا متباينا في حيله ومقولاته وآلياته، حسب المرحلة التي كانت تعبرها. وبالتالي فالانكسارات في الخطاب حدثت مرتين بعد عام 1980 وبعد عام 2001 أيضا، إلا أن الانكسار الثاني في توجهات الخطاب كان قويا وحادا وملحوظا ومن دون مواربة، علما بأنني أعيد هذا التحول السريع والقوي إلى ما واكب المرحلة من أحداث ذات مرجعية سياسية ودينية وثقافية واجتماعية، يوجد لها تفضيل في الدراسة.

خلافات

> كيف تطور الخلاف داخل جمعية الثقافة والفنون في الأحساء، خصوصا بينك وبين عبد العزيز السماعيل، مدير عام جمعية الثقافة والفنون، إلى خصومة مستحكمة رغم تاريخكما الطويل في التعاون والتبادل المسرحي؟
- بداية، أعترض على كلمة «خلاف»، لأن أخلاقياتي ترفض شخصنة القضايا والمسائل. وعبد العزيز السماعيل أخ عزيز وقريب من النفس. كل ما في الأمر أنني أختلف معه في آلية إدارته لجمعية الثقافة والفنون، كونها تقوم على التنظير أكثر من الفعل، وتبنى على الطموحات والأحلام المتجاوزة أكثر من الواقع ومعطياته. وهذه الطرق عفى عليها الزمن، وبات التعاطي الآني والفعلي مع الواقع في حدود معطياته هو الوسيط الناجع لمشروعاتنا. ولكي أكون أكثر موضوعية، أشير إلى مثال بسيط. عد إلى تصريحات الزميل السماعيل بعد تعيينه مباشرة كمدير عام للجمعية، واقرأ الوعود العريضة التي تحدث بها، وهي موجودة وموثقة. ثم لاحظ كيف تحدث عن أحلام وردية وطموحات لم يستطع بعد السنة الرابعة له تحقيق شيء منها. على سبيل المثال، تحدث عن الانتخابات وها هو يتناساها. وتحقق عن الفترة المحددة لمديري الفروع، وهي فترتان، وها هو يتناساها. تحدث عن رؤساء اللجان والمدة الزمنية المحددة لهم، وتناساها. وتحدث عن البنى التحتية وتناساها. تحدث عن التحولات الجذرية في مسار الفعاليات، وها هي الفروع تقدم ما قدمناه قبل ثلاثين عاما، والشريط يعيد نفسه إلا من المهرجانات المسرحية التي هي في أصل مشروعات فروع لا مشروعات كيان واستراتيجيات إدارة. ثم إن أكثر شخص كان ينادي بتجديد الدماء في الفروع هو الزميل السماعيل، ولكنه ضعف أمام هذا البرنامج لأسباب غير معلومة، ما أدى إلى تكلس بعض الفروع وبقاء الحال على ما هو عليه. تلك هي القضية ولا غير، اختلاف في وجهات النظر من أجل مصلحة جمعية لا شخصية. وهذا حق مشروع لنا، لأننا أبناء جمعية الثقافة، ومنجزها أخذ من أعمارنا وجهدنا الكثير. وقد اعتبرناها كمنتمين إليها مشروع حياة. تلك هي الفكرة التي يجب أن يعيها كل من يعتقد أن الجمعية حكر عليه وملك خاص له، فهي مؤسسة باقية بصفتها الرسمية والأفراد كلهم إلى زوال.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.