جديد تصميمات الأثاث... روبوت للنوم ومصابيح تجمع بين الإضاءة والنباتات

في المعرض الدولي للأثاث في كولون

«روبوت النوم» وسادة تنظم تنفس الإنسان وتعزف موسيقى خافتة وتطلق صوت تحذير عند إطلاق النائم شخيراً عالياً (إ.ب.أ)
«روبوت النوم» وسادة تنظم تنفس الإنسان وتعزف موسيقى خافتة وتطلق صوت تحذير عند إطلاق النائم شخيراً عالياً (إ.ب.أ)
TT

جديد تصميمات الأثاث... روبوت للنوم ومصابيح تجمع بين الإضاءة والنباتات

«روبوت النوم» وسادة تنظم تنفس الإنسان وتعزف موسيقى خافتة وتطلق صوت تحذير عند إطلاق النائم شخيراً عالياً (إ.ب.أ)
«روبوت النوم» وسادة تنظم تنفس الإنسان وتعزف موسيقى خافتة وتطلق صوت تحذير عند إطلاق النائم شخيراً عالياً (إ.ب.أ)

في أكبر معرض للأثاث من نوعه في العالم في كولون (15 - 21 يناير/ كانون الثاني الحالي)، تم عرض المناضد والكراسي بلا ديكور، وبدت الأسرة مثل هياكل عظمية لا حشية فيها ولا قماش. ويقول المسؤولون عن المعرض: إن ما يراه الزائر يعبر عن «الفردانية» التي تعبر عن أهم النزعات السائدة في عالم أثاث اليوم.
وذكر ماركوس ماجيروس، المتحدث الرسمي باسم المعرض، أن الزبون في عالم أثاث اليوم هو الذي يقرر نوع الحشية في السرير، ويقرر ارتفاعه، ونوع القماش المستخدم فيه. وهذه هي أقصى الفردانية، التي تعني تفوق «الأنا» على الموديلات التي تطرحها الشركات.
ويضيف ماجيروس: «كنا في السابق نعيش كما ترسمه لنا مجلات التصاميم الداخلية لبيوت، لكننا اليوم نود الحصول على أكبر قدر من البساطة والراحة؛ ولذلك نختار أثاثنا ونوزعه بحسب إرادتنا».
وشارك في معرض الأثاث الدولي (إم م) أكثر من 1270 شركة من 50 بلداً، عرضت أكثر من 20 ألف قطعة أثاث جديدة ومبتكرة. ويشاهد الزائر في قاعات المعرض الـ11 كل ما يمكن أن يخطر على البال من قطع الأثاث والستائر والمصابيح والسجاد...إلخ
وبعد سيادة قطع الأثاث المتعددة الوظائف، مثل منضدة الطعام التي تتحول إلى طاولة مكتب بلمسة زر، وغلبة المعادن على الخشب، يشهد معرض هذا العام عودة إلى الخشب الطبيعي، وإلى المواد الجديدة المبتكرة التي تستجيب للنزعات السائدة.

الزبون يقرر

في القاعة 11 عرضت شركة «م د ف» الإيطالية كنبة خضراء تعبر أفضل تعبير عن نزعات المعرض الحالي. فالكنبة القائمة الزاوية المسماة «كوزي» تبدو وكأنها منقسمة في الوسط، لكن يورغ سينمان، ممثل الشركة، يقول: إنه مجرد خداع بصري؛ لأن الكنبة عبارة عن قطعة واحدة.
والكنبة عريضة قياساً بالكنبات التقليدية؛ لأن الموضة تتطلب ذلك، ولكن هناك وسائد مساعدة توفر للجالس الاتكاء بكل راحة. كما أن الزبون يقرر ارتفاع قوائم الكنبة، ويمكنه أن يختار بين 45 و64 سم. وأنتجت الشركة بعض هذه الكنبات، بحسب رغبة الزبون بحيث يمكن الجلوس عليها من جانبين. كما أنتجت نسخة أخرى من مواد لا تتأثر بضوء الشمس والعوامل المناخية، وتصلح للجلوس في الصالة شتاء، وللجلوس في الحديقة صيفاً.
وفي الأسرة، عرضت شركة «ليف» الألمانية هياكل أسرة تاركة للزبون حرية اختيار الألوان والمواد الأخرى. وقال ممثل الشركة فينفريد نيللنغ: إن الشركة صارت تبيع ألف سرير من هذه الأسرة الفاخرة في السنة، وتحقق دخلاً بالملايين منها. وهي أسرة يمكن تحويل جزء منها إلى مقعد مريح، ويمكن للزبون التلاعب بارتفاعها كما يريد.
ويستطيع الزائر في القاعة رقم 2 أن يتجول في «البيت 2018» من تصميم الفنانة التشيكية لوسي كولدونا. ويعبر البيت عن النزعات السائدة في المعرض، فهناك ألوان وتصاميم وديكور خاص بكل غرفة ويعبر عن وظيفة الغرفة في الحياة اليومية. يمتد البيت على مساحة 180 متراً مربعاً، والمطبخ مفتوح على الصالة التي أثثت بقطع أثاث تتيح تحويله إلى قاعة احتفالات أو غرفة نوم.

خمسة اتجاهات سائدة

وتحدث هوبرتوس كلاوس، من اتحاد صناعة الأثاث الألماني، عن خمسة اتجاهات رئيسية في معرض أثاث 2018، وهي الراحة والبساطة والنعومة والفردانية والإنارة، إضافة إلى نزعات أصغر تتمثل في اختيار المواد الجديدة والطبيعية ودمج الإلكترونيات في قطع الأثاث.
وبدلاً من مصادر الضوء الكبيرة في الغرف، تعرض الشركات اليوم طريقة الإنارة باستخدام المصابيح الصغيرة الكثيرة المبثوثة بين وداخل قطع الأثاث. وتتنوع هذه الإنارة بين الإنارة الطبيعية باستخدام ضوء الشمس، واستخدام «الأضوية» التي تنيرها البطاريات الصغيرة المدمجة.
ويضيف كلاوس، أن النزوع إلى الراحة والبساطة والفردانية يعبر عن حاجة الإنسان إليها في زمن الإرهاب والتوتر والزحام القائم خارج البيت. ويريد الناس لذلك قطع أثاث بسيطة في الصالون مثل قطع الأثاث «الاسكندنافية»، متينة، وصالحة لكل الغرف. كما يبحث الناس اليوم عن إضاءة مريحة تبعث على الهدوء أقرب ما تكون إلى ضوء الشموع في زمن الشاعر غوته (القرن الثامن عشر).
وفي المواد الجديدة عرضت شركة «غازدا» من البوسنة قطع أثاث من الخشب الحقيقي المتين والصقيل المكسو بطبقة من «لينوليوم». وذكر سينادا بيزيتش، المتحدث الصحافي باسم الشركة، أن اللينوليوم عبارة عن مزيج من زيت الكتان ومسحوق الفليّن. وهي مادة تكسو قطع أثاث شركته وتجعلها صقيلة وناعمة بشكل استثنائي. ولهذا؛ فإن سعر الكرسي من هذا النوع لا يقل عن 390 يورو، كما يقول بيزيتش.
وبعد الخشب السائل إلى يصب في قوالب، والكرتون المقوى أكثر من الخشب، عرضت شركة «فيتو» النمساوية المتخصصة في صناعة أثاث الحدائق مواد مصنوعة من «غوران» وهو عبارة عن حصو مطحون تم تحويله إلى مادة صلبة كالإسمنت باستخدام زيت الأكريل. وتقول مصادر الشركة إنها كراسي ومناضد لا تتأثر بالطقس ولا تكتسب حرارة أو برودة الطقس. والمهم أنها ليست ثقيلة رغم بنيتها الصخرية لأن عجينة طحين الحصو وزيت الأكريل صنعت فجوات هوائية صغيرة داخلها.
الرقمية في الأثاث

وطبيعي لا يمكن الحديث عن قطع الأثاث الجديدة وإغفال التقنية التي ما انفكت تتخلل أجزاؤها في كل معرض. وبعد محطات تعبئة الجوال واللابتوب المدمجة في الأسرة والمناضد امتدت النزعة اليوم إلى الكنبات والمقاعد والمرايا.
وزودت شركة «نيوتندسي» الألمانية مقاعد الطعام بمحطة صغير «غير مرئية» مدمجة يمكن للجالس أن يعبئ هاتفه الجوال منها. وكما في كراسي الراحة، ومقاعد المكاتب، حرصت الشركة على جعل مقاعد مائدة الطعام متحركة ومتغيرة الوضع كي يستخدمها الجالس للراحة أو الاستلقاء أو العمل.
ولأن الإنسان يقضي نحو 40 دقيقة يومياً في الحمام، فقد زودت شركة «بورغباد» الألمانية (القاعة 4) مرآة الحمام بأزرار مدمجة للتحكم بالإضاءة وتشغيل الأجهزة بطريقة اللمس لاسلكياً. ويستطيع المرء في الحمام التحكم بالإضاءة بين الخافتة المريحة للنوم في البانيو، أو البيضاء القوية أثناء الحلاقة عن طريق المرآة.
وتود شركة «أويبنغ» (القاعة 9) مساعدة ملايين الألمان الذين يعانون من الأرق عن طريق استخدام «روبوت النوم». وهذا الروبوت عبارة عن وسادة لا يزيد طولها على 40 سم، قادرة على تنظيم تنفس الإنسان عند حضنها من قبل النائم على صدره. كما يمكن للوسادة أن تعزف موسيقى خافتة، وأن تطلق صوت تحذير عن إطلاق النائم شخيراً عالياً. (السعر550 يورو).
و«البيوتوب» عبارة عن أوان زجاجية مكورة تشبه القناني تجري فيها تنمية النباتات الجميلة، وتوفر الإنارة في الغرف مثل المصابيح. وفضلاً عن العنصر الجمالي في الموضوع؛ فالنباتات تستمد الطاقة الضوئية من المصباح الصغير داخلـ«البيوتوب»، وتنير الغرف بأقل ما يمكن من الطاقة.
قطاع الأثاث ينتقل إلى الإنترنت

لا تزيد مبيعات شركات الأثاث الأوروبية عن طريق الإنترنت على نسبة 5.9 في المائة من مجموع المبيعات، بحسب اتحاد صناعة الأثاث الأوروبي. هذا، بينما ترتفع مبيعات قطاع الملابس والأحذية على الإنترنت إلى 25 في المائة.
ولهذا؛ يخطط قطاع الأثاث لتحقيق قفزة في المبيعات على الشبكة العنكبوتية بمساعدة تطبيقات لـ«سمارت فون» تتيح تصوير قطعة الأثاث ووضعها في عالم افتراضي يشبه غرفة أو بيت الزبون، وكل ذلك بالأحجام والألوان المناسبة.
ويستشهد هوبرتوس كلاوس، من اتحاد قطاع الأثاث، باستطلاع للرأي أجراه معهد «كانتار» لأبحاث السوق تقول: إن 48 في المائة من الزبائن يرون أن مثل هذا التطبيق قد يشجعهم على شراء قطع الأثاث على الإنترنت.
مع ذلك، فالنتائج مشجعة، ويقول 37 في المائة من الألمان إنهم اشتروا قطعة أثاث واحدة في الأقل على الإنترنت في السنوات العشر الأخيرة. وتنظر نسبة 32 في المائة بقلق إلى صورة قطعة الأثاث على الإنترنت ومدى انطباقها مع الواقع. إذ لا يحبذ الناس شراء الأثاث في الواقع الافتراضي ويفضلون الشراء في العالم الواقعي. ويرى كلاوس، أن على قطاع الأثاث أن يكون أكثر تحفظاً كلما زادت عروضه على الإنترنت؛ لأن الزبون لا يرى سوى صورة صغيرة من قطعة الأثاث.
وينتظر أن يجتذب المعرض أكثر من 300 ألف زائر ومختص وصحافي خلال أيامه الخمسة. ويخصص المعرض نهاية الأسبوع المقبلة فقط للزوار الاعتياديين.


مقالات ذات صلة

بدء تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن في السعودية

الاقتصاد مقر هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية في الرياض (الموقع الإلكتروني)

بدء تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن في السعودية

بدأ تطبيق المرحلة الإلزامية الأولى لتوحيد منافذ الشحن للهواتف المتنقلة والأجهزة الإلكترونية في السوق، لتكون من نوع «USB Type - C».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد جانب من اجتماع خلال منتدى حوكمة الإنترنت الذي عقد مؤخراً بالعاصمة الرياض (الشرق الأوسط)

تقرير دولي: منظومات ذكية ومجتمعات ممكّنة تشكل مستقبل الاقتصاد الرقمي

كشف تقرير دولي عن عدد من التحديات التي قد تواجه الاقتصاد الرقمي في العام المقبل 2025، والتي تتضمن الابتكار الأخلاقي، والوصول العادل إلى التكنولوجيا، والفجوة…

«الشرق الأوسط» (الرياض)
تكنولوجيا تتميز سمكة «موبولا راي» بهيكلها العظمي الغضروفي وأجنحتها الضخمة ما يسمح لها بالانزلاق بسهولة في الماء (أدوبي)

سمكة تلهم باحثين لتطوير نموذج مرشّح مياه صناعي!

طريقة تغذية سمكة «موبولا راي» تدفع باحثي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتطوير أنظمة ترشيح فعالة.

نسيم رمضان (لندن)
تكنولوجيا تعمل استراتيجيات مثل الأمن متعدد الطبقات واستخبارات التهديدات المتقدمة على تعزيز دفاعات الشركات السعودية (شاترستوك)

السعودية تسجل 44 % انخفاضاً في الهجمات الإلكترونية حتى نوفمبر مقارنة بـ2023

تواجه السعودية التحديات السيبرانية باستراتيجيات متقدمة مع معالجة حماية البيانات وأمن السحابة وفجوات مواهب الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)
خاص تتضمن الاتجاهات الرئيسة لعام 2025 الاستعداد الكمومي وممارسات الأمن السيبراني الخضراء والامتثال (شاترستوك)

خاص كيف يعيد الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية تشكيل الأمن السيبراني في 2025؟

«بالو ألتو نتوركس» تشرح لـ«الشرق الأوسط» تأثير المنصات الموحدة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية على مستقبل الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)