فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

صيغة لتقارب الدين والسياسة في محاربة الإرهاب

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
TT

فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})

أصبحت التقاليد والممارسات الدينية سمة بارزة في العالم المعاصر؛ ولم يعد الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة مرتبطاً بحقيقة انهزام الدين وانحساره أو موته. أكثر من ذلك، يطرح تعدد وتنوع الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة، وقدرتها على التجنيد وتحديث فكرها وآليات تنظيمها واشتغالها، تساؤلات جوهرية عن النظريات التفسيرية لدور الدين سواء كانت أنثربولوجية أو منطلقة من علم الاجتماع الديني.
فرغم علو صوت الإرهاب في السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط وأوروبا؛ فإن الدين والمؤسسات الدينية تلعب دوراً مهماً فيما يخص الوحدة الوطنية للدول المعارضة للإرهاب؛ غير أن هذا الدور الحاسم للدين لا يخص الدول العربية الإسلامية فحسب، بل تعداها اليوم، للجغرافية الأوروبية التي تكونت فيها الدولة على أسس علمانية مثل فرنسا، وبلجيكا، وإسبانيا.
ففي فرنسا، أدت مجموعة من الأحداث الإرهابية المتتابعة، لنشر الخوف والقتل، حيث أدى هجوم «داعشي» على «تشارلي ايبدو» في يناير (كانون الثاني) عام 2015 إلى قتل 12 شخصاً وإصابة نحو عشرة آخرين؛ كما أسفرت سلسلة من الاعتداءات الإرهابية مساء 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 بباريس عن قتل 130 شخصاً، وأكثر من 180 جريحاً. وبمرور السنة الثالثة على هجوم «تشارلي ايبدو»، كتب الرئيس السابق فرنسوا هولاند، في رسالة نشرها على صفحته على موقع «فيسبوك» الأحد، في 7 يناير الماضي: «لا يجب أن ننسى أي شيء من هذه الأيام الرهيبة»، مضيفاً: «فرنسا يمكن أن تكون فخورة بأنها تصرفت بكرامة عندما تظاهرت جماعياً في 11 يناير مع قادة العالم كله، تحت شعار حقوق الإنسان والحرية».
من جهته، يرى عالم علم اجتماع الدين الفرنسي فيليب بورتيي، أن النظر للدور الاجتماعي للدين في السياق المعاصر، يجب أن يخرج من عتمة النظرة التقليدية. ذلك أن المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية بفرنسا، لعبت مجتمعة دوراً مركزياً، في تلافي أي انشطار في المجتمعات المحلية المختلطة بالمدن الفرنسية؛ وتوفقت المنظمات الدينية، في الوقوف ضد نشر الصراع على أسس دينية هوياتية، في الجمهورية.
وهذا السلوك المتسامح دينياً، والمحارب للإرهاب، والمدعم للمصالحة والوحدة الوطنية، لم يعد ممارسة عابرة في المعركة مع التطرف. ويستدل فيليب بورتيي (مؤرخ وعالم اجتماع الدين، مدير الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا باريس - السوربون، ومدير جمعية مجموعات الأديان، الدين، العلمانية بالمركز الوطني للبحوث العلمية)، بسلوك المنظمات الدينية الرئيسة الفرنسية، التي اختارت بإجماعها الرد على الهجمات الإرهابية على «تشارلي ايبدو» وهايبر هايد، أو بعد باتاكلان. فقد تجمعت هذه المنظمات في مسيرات، وعقدت مجالس جنائزية، وعزائية مشتركة، بشكل توافقي يراعي العقائد المختلفة. ورغم أن هذه أعمال ينظر إليها أنها رمزية، فإن مشاركة «رجال الدين»، والمنظمات الدينية إلى جانب رجال الدولة والسياسيين، الذين طلبوا من الطوائف تعزيز السلم المدني؛ يعتبر نقطة مهمة في مسار تحول الدين لداعم حقيقي، للتعددية والتعايش السلمي في الدولة الفرنسية العلمانية.
يضيف عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، أن هذا التوجه الجديد، كان واضحاً من السلوك المعبر عنه من مختلف الطوائف الدينية، بعد اغتيال الأب جاك هامل سنة 2016؛ حيث ميز الكاثوليك بين أقلية صغيرة من الإرهابيين، وبين المسلمين المجاورين لهم، والذين تربطهم بهم علاقة جيدة قبل وبعد الحادث الأليم. وفي هذا السياق، يمكن فهم كلمة الرئيس إيمانويل ماكرون يوم 8 يناير الحالي في الاحتفال بالذكرى الثالثة لحادث «تشارلي ايبدو»، وطلب الرئيس للسلطات الدينية المختلفة، الاستمرار على هذا النهج التعاوني ضد الإرهاب؛ كما شكرها على إسهامها في الوحدة الوطنية.
صحيح أن المجموعات الإرهابية في فرنسا وغيرها، لها خلايا نائمة مجندة من الشباب المسلم المتطرف، ولها قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية. إلا أن معالجة إشكالية التعددية الدينية بأوروبا، من منظور الخبير فيليب بورتيي؛ يلزم أن يكون بعيداً عن الإسلاموفوبيا، وبخاصة أن الإرهاب والتعصب، لا يزالان مكونين هامشيين بفرنسا. ومن جهة أخرى، فإن الواقع أثبت أن التطرف والنزعة «الإرهابية» توجد في جميع الأديان؛ وهذه النزعة تتبنى «القطيعة» وترتبط بالآيديولوجية الراديكالية العدمية التي تبناها «القاعدة»، وبعده جماعة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
من جهته، يرى عالم اجتماع الدين، الإيطالي إنزو باتشي في كتابه «الإسلام في أوروبا – أنماط الاندماج»: «أن الإسلام في أوروبا مشكلة قائمة الذات، فلا وجود لبلد من بلدان القارة العتيقة لم يشهد لحظات توتر اجتماعي وسياسي، عندما طرحت على طاولة البحث مسألة الاعتراف العمومي بحقوق أداء العبادة والحرية الدينية فحضور هؤلاء الناس من وجهة نظر دينية، يثير ويؤجج انفعالات قوية، تبلغ أحياناً حد الصراعات الإيديولوجية المشحونة بعنف رمزي». وبما أن الوضع العام في تحول مستمر، فإن تقوية التعددية الدينية والتسامح الديني، أصبحت قضية عمومية، وتتعلق بالسياسات الرسمية والمدنية؛ ويشير إنزو باتشي، رئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الديني، وصاحب كتاب «سوسيولوجا الإسلام»، إلى ذلك بالقول: إن «الواقع الاجتماعي الديني الأوروبي بصدد التغير بشكل متسارع؛ وهو ما يفرض على كافة دول المجموعة إعادة النظر في قواعد اللعبة بغرض تنظيم العلاقات بين الكنائس والأقليات الدينية والدولة». فالإسلام ليس فاعلاً طارئاً على المنظومة الغربية الأوروبية؛ بل أصبح جزءاً فاعلاً، من نسقه المجتمعي والثقافي، بشكل لا يمكن القفز عليه، هوياتياً، أو حقوقياً أو مؤسساتياً.
من هنا، يطرح عالم الاجتماع الفرنسي، فيليب بورتيي، خطورة اعتبار المسيحية الكاثوليكية المكون الوحيد والمركزي للهوية الفرنسية. فالعمليات الإرهابية لـ«داعش» في السنوات الثلاث الماضية، أظهرت مقاومة دينية واسعة للفعل الإرهابي؛ لكنها أظهرت نوعاً آخر من المقاومة السلبية، ويتعلق بمنظور قطاعات معينة من السكان الكاثوليك للوحدة الوطنية، وهو منظور أقل انفتاحاً، ويرجع للماضي، ليعيد التأكيد على الدور والوزن الثقيل للكاثوليكية تاريخياً بفرنسا. يحدث هذا في الوقت الذي يعتقد الدكتور فيليب بورتيي أن هناك ارتفاعاً لظاهرة الإسلاموفوبيا في أوساط الذين لا يعتنقون أي ديانة.
من جهة ثانية، ينبه فيليب بورتيي لقضية طرح «الجذور المسيحية» لفرنسا، والذي ظهر في الخطاب السياسي منذ عشرين سنة؛ واليوم أصبحت، شعاراً تلخصه: «فكرة أن مجتمعنا يتميز «بجذور مسيحية» يجب الحفاظ عليها باعتبارها محوراً أساسياً لتراثنا».
وبالعودة للخطاب السياسي للرئيس الأسبق جاك شيراك، نجده يقول عن فرنسا إنها «الابنة الكبرى للكنيسة». وجاء بعده الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي حمل ودافع بقوة عن فكرة «الجذور المسيحية» للجمهورية. وحتى رئيس الوزراء السابق آلان جوبيه اليميني المعتدل، ينقل في كتابه الذي أصدره مؤخراً، مقولة للرئيس السابق ساركوزي يقول فيها: «نحن مسيحيون، ولماذا يجب أن نخجل من ذلك»؟.
وصل لليسار الفرنسي هذا الخطاب الذي يعود للأصول التاريخية، وينتشر في وسط النخبة السياسية، وإن كان اليسار يعتقد أن المسيحية ثقافة يجب احترامها، هي وغيرها من الأديان في إطار تعزيز جانب الحرية في الدولة. لكن حسب فيليب بورتيي: «قد يحدث أن نذهب أبعد من ذلك، ففي افتتاح كاتدرائية كريتيل في عام 2015، تحدث وزير الداخلية برنارد كازينيوف عن الكاتدرائيات بأنها (تجسد عبقرية فرنسا)».
وبالعودة للتاريخ المعاصر، يقول المؤرخ وعالم اجتماع الدين بورتيي: «لم يكن هناك أي حديث تقريباً عن الجذور المسيحية منذ الستينات، وتظهر سلسلة من الاستطلاعات عودة هذا الموضوع إلى الرأي العام؛ بل إنه يتبع منحنى تصاعدياً في مواجهة الوجود الإسلامي الذي يؤكد نفسه ويصبح أحياناً مطالباً. إن الهجمات، قد تعزز بالطبع فكرة أن فرنسا وأوروبا مسيحية حصراً».
في الواقع، نجد أن البابا فرانسيس، يتحدث باعتدال كبير عن «الجذور المسيحية» في أوروبا. وهو يرى أن الكثير من الثقافات قد «صنعت» القارة العجوز، ووفقا له، لا يمكن للمرء أن يرفض استقبال المهاجرين تحت ذريعة «باتريمونياليست» التي تهدف إلى الدفاع عن الثقافة المسيحية في أوروبا. بالنسبة للبابا، فإن هذه «الجذور المسيحية» لا يمكن، على أي حال، تبرير حالة ووضع، الاستبداد أو الاستعمار».
من جانب ثالث، يرى فليبي بورتيي، أن تأثير ثقافة «داعش»، على الشباب الفرنسي المسلم ناتجة من غياب الحس بالانتماء للجماعة والدولة؛ فالنظام الثقافي الداعشي يهمش الفرد، وينظر لفرنسا والغرب عموماً باعتباره كتلة ثقافية مسيحية، مواجهة للإسلام. ولا يكتفي تنظيم البغدادي بهذا، بل يستدعي الحديث الآيديولوجي عن «الصليبيين»، وهي فكرة تشمل أولئك الذين يدعون أنهم ملحدون. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية، تجعل من الغرب الليبرالي والمسيحي عدواً، وجب قتاله. غير أن هذا ليس استراتيجية وحسب، وإنما ثقافة سائدة بالشرق الأوسط والتي تتبنى الطائفية، وتجد صعوبة في الاعتراف بالفرد من دون انتماء ديني. وهذا التقارب بين الثقافة والاستراتيجية، مبني على أسس دينية صلبة لا يمكن تجاوزها.
وحفاظاً على حالة التعاون بين الفاعلين الدينيين والدولة. يقترح عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، الاستفادة من تاريخ المواجهة الكاثوليكية للنموذج العلماني الفرنسي، والتي أدت إلى خلق مساومات بين الدين والدولة. وبما أن حاجة الدولة اليوم إلى المنظمات الدينية أصبحت ضرورية وأساسية، فإن بورتيي، يستعيد مقولة إميل بولا، التي «تؤكد أنه رغم محاولات ردم الهوة وخلق التقارب الفلسفي بين الحقل الديني الكاثوليكي والعلمانية؛ ورغم الاسترضاء المتبادل بين الكنيسة والدولة، فإن القطيعة بين الدوائر العلمانية، والدوائر الكاثوليكية ما زالت عميقة». وهذه الحالة لا تهدد الوحدة الوطنية، ومواجهة الإرهاب فقط، بل تشوش على بناء نموذج جديد للعلمانية، يراعي التحولات في النسق العام الأوروبي، وتحول فرنسا لدولة متعددة الأديان.
بكلمة، يلخص عالم اجتماع الدين والباحث في المؤسسة الوطنية للبحث العلمي، دور الدين في مواجهة الإرهاب بفرنسا، بالقول: «في حالة الأزمات، يحصل تقارب بين الدين والسياسة. كان هذا هو الحال خلال الحرب العالمية الأولى، وما يحصل اليوم لا يشكل انقطاعاً عما جرى تاريخياً. فقادة الطائفة اليهودية والمسيحية والإسلامية مصرون بقوة على قيم الجمهورية. لأن هذه الأخيرة هي حامية الطوائف. ولأن القيم الجمهورية هي القاسم المشترك لمنع المجتمع من التفتيت والصراع».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».