فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

صيغة لتقارب الدين والسياسة في محاربة الإرهاب

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
TT

فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})

أصبحت التقاليد والممارسات الدينية سمة بارزة في العالم المعاصر؛ ولم يعد الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة مرتبطاً بحقيقة انهزام الدين وانحساره أو موته. أكثر من ذلك، يطرح تعدد وتنوع الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة، وقدرتها على التجنيد وتحديث فكرها وآليات تنظيمها واشتغالها، تساؤلات جوهرية عن النظريات التفسيرية لدور الدين سواء كانت أنثربولوجية أو منطلقة من علم الاجتماع الديني.
فرغم علو صوت الإرهاب في السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط وأوروبا؛ فإن الدين والمؤسسات الدينية تلعب دوراً مهماً فيما يخص الوحدة الوطنية للدول المعارضة للإرهاب؛ غير أن هذا الدور الحاسم للدين لا يخص الدول العربية الإسلامية فحسب، بل تعداها اليوم، للجغرافية الأوروبية التي تكونت فيها الدولة على أسس علمانية مثل فرنسا، وبلجيكا، وإسبانيا.
ففي فرنسا، أدت مجموعة من الأحداث الإرهابية المتتابعة، لنشر الخوف والقتل، حيث أدى هجوم «داعشي» على «تشارلي ايبدو» في يناير (كانون الثاني) عام 2015 إلى قتل 12 شخصاً وإصابة نحو عشرة آخرين؛ كما أسفرت سلسلة من الاعتداءات الإرهابية مساء 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 بباريس عن قتل 130 شخصاً، وأكثر من 180 جريحاً. وبمرور السنة الثالثة على هجوم «تشارلي ايبدو»، كتب الرئيس السابق فرنسوا هولاند، في رسالة نشرها على صفحته على موقع «فيسبوك» الأحد، في 7 يناير الماضي: «لا يجب أن ننسى أي شيء من هذه الأيام الرهيبة»، مضيفاً: «فرنسا يمكن أن تكون فخورة بأنها تصرفت بكرامة عندما تظاهرت جماعياً في 11 يناير مع قادة العالم كله، تحت شعار حقوق الإنسان والحرية».
من جهته، يرى عالم علم اجتماع الدين الفرنسي فيليب بورتيي، أن النظر للدور الاجتماعي للدين في السياق المعاصر، يجب أن يخرج من عتمة النظرة التقليدية. ذلك أن المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية بفرنسا، لعبت مجتمعة دوراً مركزياً، في تلافي أي انشطار في المجتمعات المحلية المختلطة بالمدن الفرنسية؛ وتوفقت المنظمات الدينية، في الوقوف ضد نشر الصراع على أسس دينية هوياتية، في الجمهورية.
وهذا السلوك المتسامح دينياً، والمحارب للإرهاب، والمدعم للمصالحة والوحدة الوطنية، لم يعد ممارسة عابرة في المعركة مع التطرف. ويستدل فيليب بورتيي (مؤرخ وعالم اجتماع الدين، مدير الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا باريس - السوربون، ومدير جمعية مجموعات الأديان، الدين، العلمانية بالمركز الوطني للبحوث العلمية)، بسلوك المنظمات الدينية الرئيسة الفرنسية، التي اختارت بإجماعها الرد على الهجمات الإرهابية على «تشارلي ايبدو» وهايبر هايد، أو بعد باتاكلان. فقد تجمعت هذه المنظمات في مسيرات، وعقدت مجالس جنائزية، وعزائية مشتركة، بشكل توافقي يراعي العقائد المختلفة. ورغم أن هذه أعمال ينظر إليها أنها رمزية، فإن مشاركة «رجال الدين»، والمنظمات الدينية إلى جانب رجال الدولة والسياسيين، الذين طلبوا من الطوائف تعزيز السلم المدني؛ يعتبر نقطة مهمة في مسار تحول الدين لداعم حقيقي، للتعددية والتعايش السلمي في الدولة الفرنسية العلمانية.
يضيف عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، أن هذا التوجه الجديد، كان واضحاً من السلوك المعبر عنه من مختلف الطوائف الدينية، بعد اغتيال الأب جاك هامل سنة 2016؛ حيث ميز الكاثوليك بين أقلية صغيرة من الإرهابيين، وبين المسلمين المجاورين لهم، والذين تربطهم بهم علاقة جيدة قبل وبعد الحادث الأليم. وفي هذا السياق، يمكن فهم كلمة الرئيس إيمانويل ماكرون يوم 8 يناير الحالي في الاحتفال بالذكرى الثالثة لحادث «تشارلي ايبدو»، وطلب الرئيس للسلطات الدينية المختلفة، الاستمرار على هذا النهج التعاوني ضد الإرهاب؛ كما شكرها على إسهامها في الوحدة الوطنية.
صحيح أن المجموعات الإرهابية في فرنسا وغيرها، لها خلايا نائمة مجندة من الشباب المسلم المتطرف، ولها قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية. إلا أن معالجة إشكالية التعددية الدينية بأوروبا، من منظور الخبير فيليب بورتيي؛ يلزم أن يكون بعيداً عن الإسلاموفوبيا، وبخاصة أن الإرهاب والتعصب، لا يزالان مكونين هامشيين بفرنسا. ومن جهة أخرى، فإن الواقع أثبت أن التطرف والنزعة «الإرهابية» توجد في جميع الأديان؛ وهذه النزعة تتبنى «القطيعة» وترتبط بالآيديولوجية الراديكالية العدمية التي تبناها «القاعدة»، وبعده جماعة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
من جهته، يرى عالم اجتماع الدين، الإيطالي إنزو باتشي في كتابه «الإسلام في أوروبا – أنماط الاندماج»: «أن الإسلام في أوروبا مشكلة قائمة الذات، فلا وجود لبلد من بلدان القارة العتيقة لم يشهد لحظات توتر اجتماعي وسياسي، عندما طرحت على طاولة البحث مسألة الاعتراف العمومي بحقوق أداء العبادة والحرية الدينية فحضور هؤلاء الناس من وجهة نظر دينية، يثير ويؤجج انفعالات قوية، تبلغ أحياناً حد الصراعات الإيديولوجية المشحونة بعنف رمزي». وبما أن الوضع العام في تحول مستمر، فإن تقوية التعددية الدينية والتسامح الديني، أصبحت قضية عمومية، وتتعلق بالسياسات الرسمية والمدنية؛ ويشير إنزو باتشي، رئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الديني، وصاحب كتاب «سوسيولوجا الإسلام»، إلى ذلك بالقول: إن «الواقع الاجتماعي الديني الأوروبي بصدد التغير بشكل متسارع؛ وهو ما يفرض على كافة دول المجموعة إعادة النظر في قواعد اللعبة بغرض تنظيم العلاقات بين الكنائس والأقليات الدينية والدولة». فالإسلام ليس فاعلاً طارئاً على المنظومة الغربية الأوروبية؛ بل أصبح جزءاً فاعلاً، من نسقه المجتمعي والثقافي، بشكل لا يمكن القفز عليه، هوياتياً، أو حقوقياً أو مؤسساتياً.
من هنا، يطرح عالم الاجتماع الفرنسي، فيليب بورتيي، خطورة اعتبار المسيحية الكاثوليكية المكون الوحيد والمركزي للهوية الفرنسية. فالعمليات الإرهابية لـ«داعش» في السنوات الثلاث الماضية، أظهرت مقاومة دينية واسعة للفعل الإرهابي؛ لكنها أظهرت نوعاً آخر من المقاومة السلبية، ويتعلق بمنظور قطاعات معينة من السكان الكاثوليك للوحدة الوطنية، وهو منظور أقل انفتاحاً، ويرجع للماضي، ليعيد التأكيد على الدور والوزن الثقيل للكاثوليكية تاريخياً بفرنسا. يحدث هذا في الوقت الذي يعتقد الدكتور فيليب بورتيي أن هناك ارتفاعاً لظاهرة الإسلاموفوبيا في أوساط الذين لا يعتنقون أي ديانة.
من جهة ثانية، ينبه فيليب بورتيي لقضية طرح «الجذور المسيحية» لفرنسا، والذي ظهر في الخطاب السياسي منذ عشرين سنة؛ واليوم أصبحت، شعاراً تلخصه: «فكرة أن مجتمعنا يتميز «بجذور مسيحية» يجب الحفاظ عليها باعتبارها محوراً أساسياً لتراثنا».
وبالعودة للخطاب السياسي للرئيس الأسبق جاك شيراك، نجده يقول عن فرنسا إنها «الابنة الكبرى للكنيسة». وجاء بعده الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي حمل ودافع بقوة عن فكرة «الجذور المسيحية» للجمهورية. وحتى رئيس الوزراء السابق آلان جوبيه اليميني المعتدل، ينقل في كتابه الذي أصدره مؤخراً، مقولة للرئيس السابق ساركوزي يقول فيها: «نحن مسيحيون، ولماذا يجب أن نخجل من ذلك»؟.
وصل لليسار الفرنسي هذا الخطاب الذي يعود للأصول التاريخية، وينتشر في وسط النخبة السياسية، وإن كان اليسار يعتقد أن المسيحية ثقافة يجب احترامها، هي وغيرها من الأديان في إطار تعزيز جانب الحرية في الدولة. لكن حسب فيليب بورتيي: «قد يحدث أن نذهب أبعد من ذلك، ففي افتتاح كاتدرائية كريتيل في عام 2015، تحدث وزير الداخلية برنارد كازينيوف عن الكاتدرائيات بأنها (تجسد عبقرية فرنسا)».
وبالعودة للتاريخ المعاصر، يقول المؤرخ وعالم اجتماع الدين بورتيي: «لم يكن هناك أي حديث تقريباً عن الجذور المسيحية منذ الستينات، وتظهر سلسلة من الاستطلاعات عودة هذا الموضوع إلى الرأي العام؛ بل إنه يتبع منحنى تصاعدياً في مواجهة الوجود الإسلامي الذي يؤكد نفسه ويصبح أحياناً مطالباً. إن الهجمات، قد تعزز بالطبع فكرة أن فرنسا وأوروبا مسيحية حصراً».
في الواقع، نجد أن البابا فرانسيس، يتحدث باعتدال كبير عن «الجذور المسيحية» في أوروبا. وهو يرى أن الكثير من الثقافات قد «صنعت» القارة العجوز، ووفقا له، لا يمكن للمرء أن يرفض استقبال المهاجرين تحت ذريعة «باتريمونياليست» التي تهدف إلى الدفاع عن الثقافة المسيحية في أوروبا. بالنسبة للبابا، فإن هذه «الجذور المسيحية» لا يمكن، على أي حال، تبرير حالة ووضع، الاستبداد أو الاستعمار».
من جانب ثالث، يرى فليبي بورتيي، أن تأثير ثقافة «داعش»، على الشباب الفرنسي المسلم ناتجة من غياب الحس بالانتماء للجماعة والدولة؛ فالنظام الثقافي الداعشي يهمش الفرد، وينظر لفرنسا والغرب عموماً باعتباره كتلة ثقافية مسيحية، مواجهة للإسلام. ولا يكتفي تنظيم البغدادي بهذا، بل يستدعي الحديث الآيديولوجي عن «الصليبيين»، وهي فكرة تشمل أولئك الذين يدعون أنهم ملحدون. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية، تجعل من الغرب الليبرالي والمسيحي عدواً، وجب قتاله. غير أن هذا ليس استراتيجية وحسب، وإنما ثقافة سائدة بالشرق الأوسط والتي تتبنى الطائفية، وتجد صعوبة في الاعتراف بالفرد من دون انتماء ديني. وهذا التقارب بين الثقافة والاستراتيجية، مبني على أسس دينية صلبة لا يمكن تجاوزها.
وحفاظاً على حالة التعاون بين الفاعلين الدينيين والدولة. يقترح عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، الاستفادة من تاريخ المواجهة الكاثوليكية للنموذج العلماني الفرنسي، والتي أدت إلى خلق مساومات بين الدين والدولة. وبما أن حاجة الدولة اليوم إلى المنظمات الدينية أصبحت ضرورية وأساسية، فإن بورتيي، يستعيد مقولة إميل بولا، التي «تؤكد أنه رغم محاولات ردم الهوة وخلق التقارب الفلسفي بين الحقل الديني الكاثوليكي والعلمانية؛ ورغم الاسترضاء المتبادل بين الكنيسة والدولة، فإن القطيعة بين الدوائر العلمانية، والدوائر الكاثوليكية ما زالت عميقة». وهذه الحالة لا تهدد الوحدة الوطنية، ومواجهة الإرهاب فقط، بل تشوش على بناء نموذج جديد للعلمانية، يراعي التحولات في النسق العام الأوروبي، وتحول فرنسا لدولة متعددة الأديان.
بكلمة، يلخص عالم اجتماع الدين والباحث في المؤسسة الوطنية للبحث العلمي، دور الدين في مواجهة الإرهاب بفرنسا، بالقول: «في حالة الأزمات، يحصل تقارب بين الدين والسياسة. كان هذا هو الحال خلال الحرب العالمية الأولى، وما يحصل اليوم لا يشكل انقطاعاً عما جرى تاريخياً. فقادة الطائفة اليهودية والمسيحية والإسلامية مصرون بقوة على قيم الجمهورية. لأن هذه الأخيرة هي حامية الطوائف. ولأن القيم الجمهورية هي القاسم المشترك لمنع المجتمع من التفتيت والصراع».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.