فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

صيغة لتقارب الدين والسياسة في محاربة الإرهاب

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
TT

فرنسا في مواجهة هجمات «داعش»

إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})
إجراءات أمنية مشددة في باريس عقب سلسلة اعتداءات إرهابية في 2015 أدت إلى قتل 130 شخصاً وجرح أكثر من 180 («الشرق الأوسط})

أصبحت التقاليد والممارسات الدينية سمة بارزة في العالم المعاصر؛ ولم يعد الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة مرتبطاً بحقيقة انهزام الدين وانحساره أو موته. أكثر من ذلك، يطرح تعدد وتنوع الجماعات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة، وقدرتها على التجنيد وتحديث فكرها وآليات تنظيمها واشتغالها، تساؤلات جوهرية عن النظريات التفسيرية لدور الدين سواء كانت أنثربولوجية أو منطلقة من علم الاجتماع الديني.
فرغم علو صوت الإرهاب في السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط وأوروبا؛ فإن الدين والمؤسسات الدينية تلعب دوراً مهماً فيما يخص الوحدة الوطنية للدول المعارضة للإرهاب؛ غير أن هذا الدور الحاسم للدين لا يخص الدول العربية الإسلامية فحسب، بل تعداها اليوم، للجغرافية الأوروبية التي تكونت فيها الدولة على أسس علمانية مثل فرنسا، وبلجيكا، وإسبانيا.
ففي فرنسا، أدت مجموعة من الأحداث الإرهابية المتتابعة، لنشر الخوف والقتل، حيث أدى هجوم «داعشي» على «تشارلي ايبدو» في يناير (كانون الثاني) عام 2015 إلى قتل 12 شخصاً وإصابة نحو عشرة آخرين؛ كما أسفرت سلسلة من الاعتداءات الإرهابية مساء 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 بباريس عن قتل 130 شخصاً، وأكثر من 180 جريحاً. وبمرور السنة الثالثة على هجوم «تشارلي ايبدو»، كتب الرئيس السابق فرنسوا هولاند، في رسالة نشرها على صفحته على موقع «فيسبوك» الأحد، في 7 يناير الماضي: «لا يجب أن ننسى أي شيء من هذه الأيام الرهيبة»، مضيفاً: «فرنسا يمكن أن تكون فخورة بأنها تصرفت بكرامة عندما تظاهرت جماعياً في 11 يناير مع قادة العالم كله، تحت شعار حقوق الإنسان والحرية».
من جهته، يرى عالم علم اجتماع الدين الفرنسي فيليب بورتيي، أن النظر للدور الاجتماعي للدين في السياق المعاصر، يجب أن يخرج من عتمة النظرة التقليدية. ذلك أن المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية بفرنسا، لعبت مجتمعة دوراً مركزياً، في تلافي أي انشطار في المجتمعات المحلية المختلطة بالمدن الفرنسية؛ وتوفقت المنظمات الدينية، في الوقوف ضد نشر الصراع على أسس دينية هوياتية، في الجمهورية.
وهذا السلوك المتسامح دينياً، والمحارب للإرهاب، والمدعم للمصالحة والوحدة الوطنية، لم يعد ممارسة عابرة في المعركة مع التطرف. ويستدل فيليب بورتيي (مؤرخ وعالم اجتماع الدين، مدير الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا باريس - السوربون، ومدير جمعية مجموعات الأديان، الدين، العلمانية بالمركز الوطني للبحوث العلمية)، بسلوك المنظمات الدينية الرئيسة الفرنسية، التي اختارت بإجماعها الرد على الهجمات الإرهابية على «تشارلي ايبدو» وهايبر هايد، أو بعد باتاكلان. فقد تجمعت هذه المنظمات في مسيرات، وعقدت مجالس جنائزية، وعزائية مشتركة، بشكل توافقي يراعي العقائد المختلفة. ورغم أن هذه أعمال ينظر إليها أنها رمزية، فإن مشاركة «رجال الدين»، والمنظمات الدينية إلى جانب رجال الدولة والسياسيين، الذين طلبوا من الطوائف تعزيز السلم المدني؛ يعتبر نقطة مهمة في مسار تحول الدين لداعم حقيقي، للتعددية والتعايش السلمي في الدولة الفرنسية العلمانية.
يضيف عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، أن هذا التوجه الجديد، كان واضحاً من السلوك المعبر عنه من مختلف الطوائف الدينية، بعد اغتيال الأب جاك هامل سنة 2016؛ حيث ميز الكاثوليك بين أقلية صغيرة من الإرهابيين، وبين المسلمين المجاورين لهم، والذين تربطهم بهم علاقة جيدة قبل وبعد الحادث الأليم. وفي هذا السياق، يمكن فهم كلمة الرئيس إيمانويل ماكرون يوم 8 يناير الحالي في الاحتفال بالذكرى الثالثة لحادث «تشارلي ايبدو»، وطلب الرئيس للسلطات الدينية المختلفة، الاستمرار على هذا النهج التعاوني ضد الإرهاب؛ كما شكرها على إسهامها في الوحدة الوطنية.
صحيح أن المجموعات الإرهابية في فرنسا وغيرها، لها خلايا نائمة مجندة من الشباب المسلم المتطرف، ولها قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية. إلا أن معالجة إشكالية التعددية الدينية بأوروبا، من منظور الخبير فيليب بورتيي؛ يلزم أن يكون بعيداً عن الإسلاموفوبيا، وبخاصة أن الإرهاب والتعصب، لا يزالان مكونين هامشيين بفرنسا. ومن جهة أخرى، فإن الواقع أثبت أن التطرف والنزعة «الإرهابية» توجد في جميع الأديان؛ وهذه النزعة تتبنى «القطيعة» وترتبط بالآيديولوجية الراديكالية العدمية التي تبناها «القاعدة»، وبعده جماعة «داعش»، بزعامة أبو بكر البغدادي.
من جهته، يرى عالم اجتماع الدين، الإيطالي إنزو باتشي في كتابه «الإسلام في أوروبا – أنماط الاندماج»: «أن الإسلام في أوروبا مشكلة قائمة الذات، فلا وجود لبلد من بلدان القارة العتيقة لم يشهد لحظات توتر اجتماعي وسياسي، عندما طرحت على طاولة البحث مسألة الاعتراف العمومي بحقوق أداء العبادة والحرية الدينية فحضور هؤلاء الناس من وجهة نظر دينية، يثير ويؤجج انفعالات قوية، تبلغ أحياناً حد الصراعات الإيديولوجية المشحونة بعنف رمزي». وبما أن الوضع العام في تحول مستمر، فإن تقوية التعددية الدينية والتسامح الديني، أصبحت قضية عمومية، وتتعلق بالسياسات الرسمية والمدنية؛ ويشير إنزو باتشي، رئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الديني، وصاحب كتاب «سوسيولوجا الإسلام»، إلى ذلك بالقول: إن «الواقع الاجتماعي الديني الأوروبي بصدد التغير بشكل متسارع؛ وهو ما يفرض على كافة دول المجموعة إعادة النظر في قواعد اللعبة بغرض تنظيم العلاقات بين الكنائس والأقليات الدينية والدولة». فالإسلام ليس فاعلاً طارئاً على المنظومة الغربية الأوروبية؛ بل أصبح جزءاً فاعلاً، من نسقه المجتمعي والثقافي، بشكل لا يمكن القفز عليه، هوياتياً، أو حقوقياً أو مؤسساتياً.
من هنا، يطرح عالم الاجتماع الفرنسي، فيليب بورتيي، خطورة اعتبار المسيحية الكاثوليكية المكون الوحيد والمركزي للهوية الفرنسية. فالعمليات الإرهابية لـ«داعش» في السنوات الثلاث الماضية، أظهرت مقاومة دينية واسعة للفعل الإرهابي؛ لكنها أظهرت نوعاً آخر من المقاومة السلبية، ويتعلق بمنظور قطاعات معينة من السكان الكاثوليك للوحدة الوطنية، وهو منظور أقل انفتاحاً، ويرجع للماضي، ليعيد التأكيد على الدور والوزن الثقيل للكاثوليكية تاريخياً بفرنسا. يحدث هذا في الوقت الذي يعتقد الدكتور فيليب بورتيي أن هناك ارتفاعاً لظاهرة الإسلاموفوبيا في أوساط الذين لا يعتنقون أي ديانة.
من جهة ثانية، ينبه فيليب بورتيي لقضية طرح «الجذور المسيحية» لفرنسا، والذي ظهر في الخطاب السياسي منذ عشرين سنة؛ واليوم أصبحت، شعاراً تلخصه: «فكرة أن مجتمعنا يتميز «بجذور مسيحية» يجب الحفاظ عليها باعتبارها محوراً أساسياً لتراثنا».
وبالعودة للخطاب السياسي للرئيس الأسبق جاك شيراك، نجده يقول عن فرنسا إنها «الابنة الكبرى للكنيسة». وجاء بعده الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي حمل ودافع بقوة عن فكرة «الجذور المسيحية» للجمهورية. وحتى رئيس الوزراء السابق آلان جوبيه اليميني المعتدل، ينقل في كتابه الذي أصدره مؤخراً، مقولة للرئيس السابق ساركوزي يقول فيها: «نحن مسيحيون، ولماذا يجب أن نخجل من ذلك»؟.
وصل لليسار الفرنسي هذا الخطاب الذي يعود للأصول التاريخية، وينتشر في وسط النخبة السياسية، وإن كان اليسار يعتقد أن المسيحية ثقافة يجب احترامها، هي وغيرها من الأديان في إطار تعزيز جانب الحرية في الدولة. لكن حسب فيليب بورتيي: «قد يحدث أن نذهب أبعد من ذلك، ففي افتتاح كاتدرائية كريتيل في عام 2015، تحدث وزير الداخلية برنارد كازينيوف عن الكاتدرائيات بأنها (تجسد عبقرية فرنسا)».
وبالعودة للتاريخ المعاصر، يقول المؤرخ وعالم اجتماع الدين بورتيي: «لم يكن هناك أي حديث تقريباً عن الجذور المسيحية منذ الستينات، وتظهر سلسلة من الاستطلاعات عودة هذا الموضوع إلى الرأي العام؛ بل إنه يتبع منحنى تصاعدياً في مواجهة الوجود الإسلامي الذي يؤكد نفسه ويصبح أحياناً مطالباً. إن الهجمات، قد تعزز بالطبع فكرة أن فرنسا وأوروبا مسيحية حصراً».
في الواقع، نجد أن البابا فرانسيس، يتحدث باعتدال كبير عن «الجذور المسيحية» في أوروبا. وهو يرى أن الكثير من الثقافات قد «صنعت» القارة العجوز، ووفقا له، لا يمكن للمرء أن يرفض استقبال المهاجرين تحت ذريعة «باتريمونياليست» التي تهدف إلى الدفاع عن الثقافة المسيحية في أوروبا. بالنسبة للبابا، فإن هذه «الجذور المسيحية» لا يمكن، على أي حال، تبرير حالة ووضع، الاستبداد أو الاستعمار».
من جانب ثالث، يرى فليبي بورتيي، أن تأثير ثقافة «داعش»، على الشباب الفرنسي المسلم ناتجة من غياب الحس بالانتماء للجماعة والدولة؛ فالنظام الثقافي الداعشي يهمش الفرد، وينظر لفرنسا والغرب عموماً باعتباره كتلة ثقافية مسيحية، مواجهة للإسلام. ولا يكتفي تنظيم البغدادي بهذا، بل يستدعي الحديث الآيديولوجي عن «الصليبيين»، وهي فكرة تشمل أولئك الذين يدعون أنهم ملحدون. ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية، تجعل من الغرب الليبرالي والمسيحي عدواً، وجب قتاله. غير أن هذا ليس استراتيجية وحسب، وإنما ثقافة سائدة بالشرق الأوسط والتي تتبنى الطائفية، وتجد صعوبة في الاعتراف بالفرد من دون انتماء ديني. وهذا التقارب بين الثقافة والاستراتيجية، مبني على أسس دينية صلبة لا يمكن تجاوزها.
وحفاظاً على حالة التعاون بين الفاعلين الدينيين والدولة. يقترح عالم اجتماع الدين فيليب بورتيي، الاستفادة من تاريخ المواجهة الكاثوليكية للنموذج العلماني الفرنسي، والتي أدت إلى خلق مساومات بين الدين والدولة. وبما أن حاجة الدولة اليوم إلى المنظمات الدينية أصبحت ضرورية وأساسية، فإن بورتيي، يستعيد مقولة إميل بولا، التي «تؤكد أنه رغم محاولات ردم الهوة وخلق التقارب الفلسفي بين الحقل الديني الكاثوليكي والعلمانية؛ ورغم الاسترضاء المتبادل بين الكنيسة والدولة، فإن القطيعة بين الدوائر العلمانية، والدوائر الكاثوليكية ما زالت عميقة». وهذه الحالة لا تهدد الوحدة الوطنية، ومواجهة الإرهاب فقط، بل تشوش على بناء نموذج جديد للعلمانية، يراعي التحولات في النسق العام الأوروبي، وتحول فرنسا لدولة متعددة الأديان.
بكلمة، يلخص عالم اجتماع الدين والباحث في المؤسسة الوطنية للبحث العلمي، دور الدين في مواجهة الإرهاب بفرنسا، بالقول: «في حالة الأزمات، يحصل تقارب بين الدين والسياسة. كان هذا هو الحال خلال الحرب العالمية الأولى، وما يحصل اليوم لا يشكل انقطاعاً عما جرى تاريخياً. فقادة الطائفة اليهودية والمسيحية والإسلامية مصرون بقوة على قيم الجمهورية. لأن هذه الأخيرة هي حامية الطوائف. ولأن القيم الجمهورية هي القاسم المشترك لمنع المجتمع من التفتيت والصراع».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية جامعة محمد الخامس الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.