الفن التشكيلي العربي ومأزق الهوية الثقافية

فنانو المنطقة عرفوه كوسيلة تعبيرية من خلال نماذج الفن الغربي

الرسامة السعودية منيرة موصلي والتلوين على جلد الماعز
الرسامة السعودية منيرة موصلي والتلوين على جلد الماعز
TT

الفن التشكيلي العربي ومأزق الهوية الثقافية

الرسامة السعودية منيرة موصلي والتلوين على جلد الماعز
الرسامة السعودية منيرة موصلي والتلوين على جلد الماعز

عند تأريخ الفن التشكيلي السعودي، تتم الإشارة إلى بدايته: «بمفهومه الحديث» الذي بدأ منذ خمسينات القرن العشرين بالتزامن مع تدريس التربية الفنية في المدارس السعودية. أما ما سبق ذلك من نماذج فنون حرفية أو نفعية فلا تدخل ضمن هذا التأريخ. هذا المفهوم الحديث للفن التشكيلي، والمُراد به الفن التشكيلي الغربي بمدارسه الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة، هو مفهوم عرفه الفنان العربي متأخراً نتيجة للاتصال الثقافي بين الدول العربية والغربية من خلال عدة أسباب في مقدمتها الاستعمار الغربي لعدد من الدول العربية. أما نماذج الفنون العربية الخالصة التي تناولها الفنان العربي في الأزمنة السابقة فهي نماذج للفنون التطبيقية أو التزيينية التي تمثلت في الرقش والنقوش على الأدوات الوظيفية. أما الرسم المصغر من خلال المنمنمات فكان تابعاً ولأجل وظيفة توضيحية لمحتوى الكتاب الذي يضمها. ففي الفنون البصرية العربية السابقة كانت وظيفة الفن هي وظيفية ثانوية أو تابعة ولأجل خدمة هدف منفعي آخر، ولم تكن لأجل التعبير الفني مطلقاً.
هذه الأهداف الوظيفية للفن يمكن أن توجد في نماذج الفن البصري الغربي، كالفن الكلاسيكي وفنون عصر النهضة الأوروبية، حيث كان هدف الفن يتمثل في المحاكاة للواقع، فلم يكن الفن مستقلاً تماما، فهذه المحاكاة كانت لخدمة أغراض أخرى تتمثل في خدمة الكنيسة والبلاط الملكي ولتسجيل الواقع والتوثيق التاريخي قبل اختراع الكاميرا الفوتوغرافية.
أما الرؤية الخالصة للفن التي ترى استقلاله عن أي أهداف وظيفية فتتمثل في مفهوم الفن لأجل الفن، والمُراد به الفن المستقل والمنزه عن أي هدف آخر نفعي أو أخلاقي. كان ظهور هذا المفهوم متزامناً مع ظهور المفهوم الفلسفي الذي يرى استقلال علم الجمال على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في عصر التنوير الأوروبي، والذي كان نتيجة لعدد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كان لها دور مؤثر على الفكر الأوروبي. من ضمنها البورجوازية والرفاهية ووقت الفراغ الكبير لدى الطبقات العليا في المجتمع، والتي أدت لظهور هوايات جديدة كجمع المقتنيات والتحف الفنية التي لا يوجد لها أي وظيفة أو منفعة سوى جماليتها، ومن هنا تناولت فلسفة كانط مفهوم الجمال المستقل والذي لا يوجد له وظيفة أو منفعة أو هدف آخر يسعى إلى تحقيقه سوى جماليته الخاصة.
هذه المفاهيم الفلسفية التي تناولت مفهوم الجمال والفن كان لها تأثير على الفن الحديث. ولم يكن التأثير ناتجاً عن اطلاع الفنانين على هذه المفاهيم الفلسفية وإن كان ذلك وارداً، إنما بسبب الحالة الفكرية العامة التي أدت لظهور هذه المفاهيم الفلسفية وأدت لتغير أشكال وأهداف الفن التشكيلي الغربي، ليصبح بحثاً عن معنى للفن وأساليب جديدة للتعبير الفني، مما أدى لنشأة مدارس الفن الحديث من انطباعية وما بعد انطباعية وتعبيرية ووحشية وتكعيبية وغيرها.
ما علاقة هذه المفاهيم بالفن السعودي أو الفن العربي؟ إن الفنان السعودي ومعه الفنان العربي لم يعرفا الفن التشكيلي كوسيلة تعبيرية إلا من خلال نماذج الفن الغربي، وقبل ذلك كانت وسيلته التعبيرية غالباً معتمدة على لغة اللسان من شعر ونثر، مما يثير عددا من التساؤلات حول الأزمة الثقافية والأصالة لدى الفنان السعودي أو العربي بشكل عام، الذي يبحث عن هويته البصرية من خلال هذا الفن الذي عرفه من خلال نماذج الفن الغربي المهيمن ثقافياً. فهل يمكن للفنان السعودي أو العربي أن يستخدم هذا النوع من الفن المستورد من الغرب للتعبير عن الهوية الثقافية للشخصية العربية، وما الذي يمكن أن يضيفه ويقدمه الفنان العربي إلى إبداع سبقه إليه الغرب.
إن استيراد نماذج الفن الغربي مثلت أزمة ثقافية لدى بعض الفنانين ذوي الحساسية العالية تجاه هويتهم الثقافية، فجاءت محاولتهم صنع نماذج تؤكد على استقلالية الهوية الفكرية والثقافية للفنان العربي وتخلصهم من التبعية للفن الغربي، مثل استخدام الحروفية والتي تعتمد على تشكيل الخط العربي ومرونته، كتجربة الفنان التونسي نجا المهداوي. وفي الجانب السعودي تجربة الحروفية لدى الفنان محمد العجلان. أو محاولة التخلص من التبعية في استخدام الوسائل والخامات التي استخدمها الفنان الغربي تشكيلياً، باستحداث أدوات وخامات وعناصر ذات مرجعية ثقافية محلية، كتجربة الفنان المغربي فريد بلكاهية في استخدام الجلد والحناء والزعفران والخامات الطبيعية في البيئة المغربية للتعبير الفني، وفي الجانب السعودي تجربة الفنانة منيرة موصلي في استخدام الصبغات الطبيعية الموجودة عند العطارين في ألوان اللوحة منذ الثمانينات واستخدام جلود الحيوانات كسطح للتعبير، كما تمثلت هذه الحساسية تجاه الهوية لدى الفنان محمد السليم الذي حاول تقديم أسلوب جديد يميزه كفنان من بيئة صحراوية فكانت الآفاقية التي تمثل تكوينا في التعبير التشكيلي يؤكد من خلالها على الأفق في اللوحة التشكيلية من خلال مقاربتها مع الأفق والامتداد في البيئة الصحراوية، كذلك محاولة النهوض بالموروث الشعبي واستخدام عناصره وتوظيفها في الفنون المعاصرة، كتجربة الفنان علي الرزيزاء واستخدامه لعناصر الباب النجدي الذي يمثل اللوحة الفنية التي استخدمها الفنان الشعبي سابقا وتوظيفها في إنتاج لوحات فنية حديثة.
هذه النماذج وغير ذلك من الفنانين العرب الذين يطرحون الأسئلة ويمثل تعبيرهم الفني بحثا دائما عن أجوبة فنية وتعبيرية وفكرية، وما وصل إليه هؤلاء الفنانون وغيرهم من أساليب فردية تميزهم وتثبت الأصالة لديهم ما هي إلا استكمال للبناء الثقافي البصري الإنساني، فالانفتاح على تجارب الآخرين وإبداعهم ضرورة مع أهمية المحافظة على استقلالية الهوية وعدم التبعية والتفريط في الخصوصية الثقافية، فليس المراد بالانفتاح الثقافي أن تذوب الثقافات المحلية وتنصهر في ثقافة واحدة عالمية، لكن الانفتاح على الآخر لأننا نعيش معه تحت مظلة واحدة هي الإنسانية وهي ما يضم جميع أشكال الإبداع الإنساني. إن الحالة التي وصل إليها الفكر والفلسفة الغربية وأثرت على المفاهيم الجمالية والفنية للفن الغربي، هي حالة ثقافية إنسانية بشكل عام حدثت في الغرب أولاً نتيجة عدة ظروف تاريخية وعلمية وثقافية، هذه الحالة وصلت إلينا متأخرة نوعاً ما نتيجة الاتصال الثقافي بين الدول العربية والغربية. إلا أن ما مر به العالم الغربي في وقت ما هو ما يمر به العالم العربي الآن، فالفن التشكيلي العربي هو ناتج للظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحالة الفكرية بشكل عام في العالم العربي، مما أسهم في تشكيل هويته.

* باحثة دكتوراه في النقد الفني



الأجنَّة تتحكَّم في الأمهات بـ«الريموت كونترول»

امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
TT

الأجنَّة تتحكَّم في الأمهات بـ«الريموت كونترول»

امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)
امتهانُ التحكُّم من اللحظة الأولى (غيتي)

كشف فريق من الباحثين في جامعة كامبريدج البريطانية النقاب عن آلية مدهشة يستطيع الجنين من خلالها التحكُّم في طبيعة المغذّيات التي يحصل عليها من الأم خلال فترة الحمل اعتماداً على جين معيَّن ينتقل إليه عن طريق الأب.

وفي إطار دراسة نشرتها الدورية العلمية «سِلْ ميتابوليزم» المتخصِّصة في بحوث الأيض الخليوي التي تتعلّق بعملية تحويل الغذاء إلى طاقة داخل جسم الإنسان، ونقلتها «وكالة الأنباء الألمانية»، وجد الباحثون أنّ الأجنَّة تستخدم هذا الجين للتأثير في جسم الأم من أجل الحصول على مزيد من المغذّيات خلال أشهر الحمل. ويوضح الباحثون أنّ هذه الآلية التي تشبه التحكُّم عن بُعد بـ«الريموت كونترول»، تعمل عن طريق إشارات هرمونية تنتقل من الجنين إلى الأم عبر المشيمة من أجل تغيير عملية الأيض لديها، وتوفير أفضل فرص النمو بالنسبة إلى الجنين. ويرى الفريق البحثي أنّ هذه الآلية التي يصفونها بأنها «معركة من أجل الغذاء» تتم وفق توازن دقيق نظراً لانطوائها على أهمية بالغة، ليس فقط من أجل نمو الجنين، وإنما أيضاً لسلامة الأم وصحتها الإنجابية في المستقبل.

ويؤكد الباحثون أنه في إطار هذه المعركة، يحاول الجنين التحكّم بـ«الريموت كونترول» في عملية الأيض لدى الأم للحصول على أقصى استفادة، في حين يحاول جسم الأم إحداث نوع من التوازن بين حاجاته من جهة، وتلبية متطلّبات النمو لدى الجنين من جهة أخرى؛ لذلك من الضروري أن تحصل الأم خلال الحمل على كميات كافية من الغلوكوز والدهون لتلبية حاجاتها للطاقة والحفاظ على استدامة الحمل، ثم الرضاعة لاحقاً، مع تعزيز فرصها في الإنجاب مرة أخرى.

ويوضحون أنّ المشيمة، وهي عضو يتكوَّن داخل الرحم ويربط بين الأم والجنين طوال فترة الحمل، ويحصل الجنين من خلالها على الغذاء والأكسجين اللازم للبقاء على قيد الحياة والنمو، تلعب دوراً رئيساً في هذه العملية البيولوجية؛ إذ تفرز هرمونات معيّنة للتواصل مع جسم الأم من أجل إعطاء الأولوية لنمو الجنين. وقد نجحوا خلال تجارب معملية في تعطيل الإشارة التي تنتقل عبر المشيمة لدى فئران تجارب للتحكُّم في طبيعة المغذّيات التي تنتقل من الأم إلى الجنين.

وتقول اختصاصية علوم الأجنَّة، الباحثة أماندا بيري، إنّ هذا البحث هو «أول دليل مباشر يثبت أنّ الجين الذي يحصل عليه الجنين من الأب يعطي إشارات للأم من أجل الحصول على المغذّيات التي يحتاج إليها». ويضيف أستاذ علوم الأيض الغذائي من معهد ويلكام إم أر سي البحثي التابع لجامعة كامبريدج، ميغيل كونستانسيا، في تصريح للموقع الإلكتروني «سايتيك ديلي» المتخصِّص في البحوث العلمية أنّ «منظومة التحكّم بـ(الريموت كونترول) لدى الجنين تعمل عن طريق الجينات، ويمكن تشغيلها أو تعطيلها وفق الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب والأم على السواء عن طريق ما يُعرف باسم التطبُّع الجيني».

ويتابع كونستانسيا أنّ «الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب تتّسم بالطمع والأنانية وتسعى إلى التلاعب في الموارد الغذائية بجسم الأم لمصلحة الجنين لينمو ويكون في أفضل وضع. ورغم أنّ الحمل هو عملية تعاونية إلى حدّ كبير، فإنّ ثمة ساحة كبيرة للصراع بين الأم والجنين؛ المشيمة والجينات المنسوخة تلعب دوراً رئيساً في هذا الصراع».

وتبيَّن للباحثين أنّ الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأب تهدف إلى تعزيز النمو، في حين أنّ التي يحصل عليها من الأم تسعى إلى الحدّ من نموّه وعدم استنزاف جسم الأم. وأعربت أماندا بيري عن اعتقادها بأنّ «الجينات التي يحصل عليها الجنين من الأم، وتقلّل عملية النمو، هي طريقة الأم من أجل البقاء، بحيث لا يستولي الجنين على جميع المغذّيات ويصبح كبير الحجم، مما يؤثّر في عملية الولادة، كما تعطي هذه الآلية الأم الفرصة للحفاظ على صحتها والإنجاب مرات أخرى في المستقبل».

وفي إطار التجربة، أوقف الباحثون عمل أحد الجينات المهمّة التي تنتقل إلى الجنين من الأب، ويحمل اسم «Igf2»، وهو الجين الذي يعطي الإشارات لجسم الأم لإنتاج البروتين، ويلعب دوراً رئيساً في نمو أنسجة الجنين بما فيها المشيمة والكبد والمخ. ويقول الباحث في قسم علوم وظائف الأعضاء وعلم الأعصاب بجامعة كامبريدج، وأحد المشاركين في الدراسة، خورخي لوبيز تيلو، إنه «إذا ما عُطِّل عمل هذا الجين، فإنّ جسم الأم لا ينتج كمية كافية من الغلوكوز والدهون في الدورة الدموية، وبالتالي لا يحصل الجنين على المغذّيات الكافية ولا يستطيع النمو بشكل سليم».

ووجد الباحثون أيضاً أنّ حذف جين «Igf2» من خلايا المشيمة يؤثّر في إنتاج هرمونات أخرى تنظِّم إفراز الإنسولين في البنكرياس، ويؤثّر أيضاً في استجابة الكبد والأنسجة المسؤولة عن عملية الأيض. وتقول أماندا بيري: «وجدنا أنّ الجين (igf2) يتحكّم في الهرمون المسؤول عن تقليل الحساسية تجاه الإنسولين في جسم الأم خلال فترة الحمل، أي أنّ أنسجتها لا تستطيع امتصاص الغلوكوز، ما يزيد من كمية المغذّيات المُتاحة للجنين في دورتها الدموية».

وتشير إلى أنّ الأجنَّة الذين يعانون خللاً في الجين المذكور قد يعانون نمواً مفرطاً أو قصوراً في عملية النمو داخل الرحم؛ لكنّ الباحثين لم يستطيعوا حتى الآن تحديد الجزء المسؤول داخل الجين عن توجيه الإشارات من أجل زيادة المغذّيات التي يحصل عليها الجنين من جسم أمه، مؤكدةً أنّ هذه الدراسة «تُضيء على أهمية ضبط عملية تحويل المغذّيات من الأم إلى الجنين خلال فترة الحمل من أجل الحفاظ على صحة المولود في المستقبل، فضلاً عن الدور الرئيس الذي تلعبه المشيمة في هذه العملية».