«الاستثناء التونسي» في خطر؟

اضطرابات الذكرى السابعة للثورة

«الاستثناء التونسي» في خطر؟
TT

«الاستثناء التونسي» في خطر؟

«الاستثناء التونسي» في خطر؟

عاش التونسيون للعام السابع على التوالي مطلع يناير (كانون الثاني) الحالي اضطرابات اجتماعية وشبابية اقترنت بأحداث عنيفة ومواجهات مع قوات الأمن والجيش ذكّرت بالانتفاضة الشاملة التي تسبّبت في يناير 2011، بالتغيير في رأس هرم الدولة، وتفجير ما سمي بثورات «الربيع العربي».
وبعدما تجاوز عدد الموقوفين 300 شاب ومراهق أغلبهم متهمون بالتورط في السرقة والحرائق والاعتداء على مؤسسات إدارية وتجارية، يواجه التونسيون مجدداً السؤال نفسه الذي يرهقهم كل شهر يناير منذ 7 سنوات: ماذا يجري في البلاد؟
ومن بعده، ثمة أسئلة أخرى مثل... هل سيصمد الاستثناء التونسي أم سينهار مثلما انهارت بقية تجارب ما سُمِّي بالثورات العربية؟ وهل تتسبب الاضطرابات الشبابية وأحداث العنف التي صاحبتها في عدة مدن بمزيد من إضعاف نظام الحكم؟ أم يحصل العكس، ويثبت قادة الأحزاب الكبرى والمجتمع المدني مجدداً خبرة في إخراج بلدهم من مسلسل الأزمات العابرة التي تمر بها بأقل الخسائر؟ وهل ستسفر حوادث العنف عن دعم «حكومة الوحدة الوطنية»، التي تشكلت من 7 أطراف سياسية... أم تؤدي إلى انهيارها؟ وما مصير الانتخابات العامة المقبلة؟ وهل سيتوقف المسار السياسي وتندفع البلاد نحو الفوضى ومزيد من الاضطرابات؟

التصريحات الصادرة عن رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، وأيضاً عن مجموعة من الوزراء والمستشارين في رئاسة الجمهورية وعن زعماء الأحزاب الكبرى المشاركة في الائتلاف الحكومي، اتهمت «مافيات» التهريب والفساد وقيادات مجموعات سياسية محسوبة على أقصى اليسار الماركسي والبعثي والقومي يتزعمها حمّة الهمامي، أمين عام حزب العمال الشيوعي سابقاً، بأنها وراء الاضطرابات الحالية المقترنة بأحداث عنيفة ومواجهات مع قوات الأمن والجيش.
وفي المقابل، اعتبرت مجموعة من أحزاب المعارضة اليسارية والشخصيات الوطنية أن أعمال العنف والاعتداءات على الأملاك العمومية والخاصة لا تقلّل من مشروعية احتجاجات العاطلين عن العمل والمهمّشين والشباب على غلاء المعيشة والزيادات الجديدة في الأسعار، وعلى موازنة 2018 التي ستفرض إجراءات لا شعبية جديدة من بينها إيقاف التوظيف.

ثورات الشباب... والخبز
وعلى الرغم من غياب زعامة واضحة للاحتجاجات والتحركات الشبابية ذكّر انتشارها السريع بانتفاضات شبابية وطلابية واجتماعية سنوية مماثلة تشهدها تونس خلال يناير وفبراير (شباط) منذ نحو 50 سنة، وفي كل مرة كانت الشعارات المرفوعة بين المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية من جهة، والدعوات إلى تغيير النظام من جهة ثانية. وبلغت تلك الاحتجاجات درجة قصوى من العنف والتصعيد في العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ضمن ما عرف بـ«ثورات» الطلبة ونقابات العمال في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ثم «ثورة الخبز» عام 1984. وبعدها، تكرّر «السيناريو» ليبلغ ذروته في الاضطرابات التي أدت إلى سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي مطلع يناير 2011.
قراءة تطور تلك الانتفاضات والاحتجاجات العنيفة تبيّن أنها غالباً ما تبدأ شبابية اجتماعية سلمية ثم تتطوّر إلى مواجهات عنيفة تتداخل فيها الأجندات السياسية والحزبية والنقابية، وحسابات المتنافسين على السلطة من داخل مؤسسات الحكم وخارجها. ومنذ الإعلان عن مرض الحبيب بورقيبة، الرئيس المؤسس للدولة التونسية الحديثة، أواخر الستينات من القرن الماضي كان الصراع على خلافة رئيس الدولة من أبرز العوامل التي تفسر تفجير الاضطرابات الطلابية والشبابية والنقابية من جهة ومعارك النخب السياسية من جهة ثانية. كذلك كان الصراع بين أجنحة الحكم أحد أبعاد الاضطرابات التي شهدتها تونس طوال السنوات العشر الأخيرة من حكم زين العابدين بن علي وانتهت بإسقاطه، وخروج السلطة من أيدي كل المتنافسين من داخل القصر.

ثورة على الاستبداد أم على نظام منتَخَب؟
هل يتجدّد المشهد اليوم بعد تعاقب أعمال الاحتجاجات والعنف والصراعات حول اسم الحاكم المستقبلي في قصري الرئاسة في قرطاج والحكومة في القصبة؟
ثمة معطيات لافتة ومقلقة فرضت نفسها مجدداً على كبار المسؤولين النقابيين والسياسيين في تونس بعد الأحداث الجديدة، أهمها:
1- إمكانية الخلط بين الاحتجاجات الشبابية المشروعة وعشرات الهجمات العنيفة المنظمة على الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة، التي من شانها مضاعفة أعباء الدولة وخسائر البلاد.
2- إمكانية الخلط بين شواغل آلاف الشباب الذي تظاهر ضد غلاء الأسعار والبطالة والفقر، وأجندات مَن وصفتهم الناطقة الرسمية باسم رئيس الجمهورية والناشطة اليسارية السابقة سعيدة قراش بـ«المخربين والمهربين والمجرمين».
3- كيفية تفسير اعتراضات زعماء المعارضة العلمانية والإسلامية في عهدي بورقيبة وبن علي على الاحتجاجات، واتهاماتهم تنظيمات أقصى اليسار التي ساندتها بالضلوع في العنف وتخريب البلاد وخدمة أجندات الدولة العميقة وأعداء مسار ثورة 2011؟
الوزير سمير الطيب زعيم حزب المسار الشيوعي سابقاً، وإياد الدهماني الناطق الرسمي باسم الحكومة، والمهدي بن غربية وزير العلاقة بالمؤسسات الدستورية، تصدّروا الحملات الإعلامية ضد قيادات تكتل أحزاب أقصى اليسار المنخرطة في الجبهة الشعبية بزعامة الهمامي. ولئن ميّز هؤلاء - وغيرهم من ممثلي الائتلاف الحاكم - بين المسيرات السلمية وأعمال العنف، فإنه لم يغب عنهم وعن بقية البرلمانيين والوزراء الذين ينحدرون من حركات عارضت حكم الرئيس زين العابدين بن علي التذكير بماضيهم الحقوقي والسياسي، ودورهم في إنجاح ما يصفونه بـ«ثورة الحرية والكرامة» قبل 7 سنوات.
لماذا غيَّر هؤلاء مواقعهم إذاً، وابتعدوا جميعاً عن مساندة الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية؟
الجواب الذي يقدمونه هو الموقف نفسه الذي صدر عن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وزعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي، وعن قيادات الأحزاب المشاركة في الحكم ومن بينها «نداء تونس» و«النهضة» وحزب المسار اليساري، أي أن ثورة 2011 «استهدفت نظاماً استبدادياً بينما التحركات الجديدة تستهدف نظاماً ديمقراطياً منتخباً بمؤسساته التنفيذية والبرلمانية والقضائية والمجتمعية».

المفاجأة...
من ناحية أخرى، بين مفاجآت الاحتجاجات والاضطرابات الجديدة مواقف قيادة نقابات العمال، لا سيما نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، التي أعلنت منذ انفجار الأحداث معارضتها لأعمال العنف وللتظاهر ليلاً رغم مساندتها حق المتظاهرين المسالمين في الخروج للشوارع والتعبير عن معارضتهم للزيادات في الأسعار. وخلافاً لما حصل عام 2011، انحازت غالبية قيادات النقابات إلى الحكومة رغم تأكيدها على شرعية التظاهر السلمي. والتقى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل رئيس الحكومة يوسف الشاهد، كما التقى قبل ذلك بأيام قليلة رئيس الجمهورية قائد السبسي ووزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي، وشمل الحوار قانون المالية الجديد الذي طالب جانب من المتظاهرين والمعارضين اليساريين بإلغائه.
ومن ثم أعلن زعيم النقابات العمالية عن دعم المركزية النقابية للمطالب الاجتماعية، وبينها زيادة رواتب صغار الموظفين، لكنه انتقد بقوة الحرائق المتعمدة والهجمات الليلية على البنوك والشركات الخاصة ومؤسسات الدولة.
وفي الاتجاه نفسه، رحّب رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض (من «النهضة») وعدد من الوزراء ونواب البرلمان من أحزاب ليبرالية ويسارية وقومية وإسلامية بقرار نزول الجيش وقوات الأمن الثقيلة إلى الشوارع لحماية مؤسسات الإدارة والدولة والشركات الخاصة. غير أن كل هذه المواقف لا تقلل من الحيرة والقلق والتخوفات من المستقبل، وكل مشاعر الإحباط المنتشرة في صفوف الشباب الذي نزل للشوارع للاحتجاج على أوضاعه المتردية... عوض أن يحتفل بالذكرى السابعة للثورة التي توقّع أن تحقق له الشغل والحرية والكرامة.

حيرة وتخوفات
والواقع أن مشاعر القلق والحيرة والخوف لا تشمل الشباب العاطل عن العمل وحده، بل انتشرت كذلك بين النخب السياسية والخبراء الاقتصاديين والجامعيين والمسؤولين الحاليين والسابقين عن كبرى المؤسسات المالية. وفي هذا السياق تعاقبت التصريحات المتخوّفة على مستقبل البلاد والصادرة عن وزراء مالية واقتصاد سابقين ومسؤولين كبار في البنك المركزي والقطاع المصرفي.
هذه التصريحات حذّرت الشعب من عمق الأزمات الاقتصادية التي تهدّد تونس، والتي تكتسي صبغة هيكلية تتجاوز بكثير المؤشرات السلبية الظرفية. إذ حذّر أحمد كرم، المدير العام لأحد البنوك الخاصة والمدير العام في البنك المركزي سابقاً، من الضغوط التي تمارَس على الحكومة من مؤسسات مالية دولية بسبب تضخم نسبة الأجور والنفقات الاجتماعية في ميزانية الدولة إلى نحو 75 في المائة، وارتفاع نسب التداين لأول مرة إلى نحو 70 في المائة وتراجع قيمة الدينار التونسي بنسبة ناهزت 100 في المائة مقارنة بما كان عليه الوضع في 2010. ودعا وزير المالية السابق حكيم بن حمودة إلى «إصلاحات»، قد يكون بعضها لا شعبياً لمحاولة التحكم في العجز التجاري وعجز الموازنة وتضخم صندوق الدعم للمواد الأساسية والمحروقات والصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية المفلسة.

تكلفة الديمقراطية
مقابل ذلك، فسّر سياسيون وخبراء ماليون واقتصاديون آخرون الاضطرابات الاجتماعية والصعوبات المالية والاقتصادية بأنها «تكلفة 7 سنوات من الانتقال الديمقراطي». واعتبر إلياس فخفاخ، رئيس المجلس الوطني لحزب التكتل المعارض ووزير المالية الأسبق، أنّ تونس «تمر بمرحلة انتقالية صعبة... صعبة. لقد كانت تكلفة الانتقال من الاستبداد إلى النظام الديمقراطي المنتَخَب كبيرة على الاقتصاد الوطني». وأوضح أنّ «نسبة التداين وصلت إلى حدود 70 في المائة بعدما كانت قبل الثورة في حدود 40 في المائة، مقابل تراجع احتياطي الدولة من العملة الصعبة وتفاقم نسبة العجز التجاري من 8 إلى 14 في المائة».
ويعتقد فخفاخ أنّ وضع البلاد الاقتصادي والمالي لا يستطيع تحمّل «صدمة خارجية» جديدة. ويشير إلى أن تونس «تستورد أكثر من نصف حاجاتها من المحروقات، وأن ارتفاع أسعارها في السوق العالمية بسرعة من نحو 50 إلى 70 دولاراً أثَّر سلباً على الميزانية، وعلى الميزان التجاري». كذلك يشير إلى أن «ربع العجز التجاري متأتٍّ من العجز في قطاع الطاقة، أي أن تفاقم العجز بعدما قفز سعر برميل النفط سيكون له تأثير مباشر على استقرار الدينار التونسي، وعلى نسبة التضخم وعلى الاستقرار الاجتماعي في البلاد». وفي هذا المناخ، أقر وزير المالية الأسبق بـ«واجب التوفيق بين مطلب تقاسم التضحيات بين رجال الأعمال والعمال والفئات الشعبية»، لكنه أقرَّ بحاجة الدولة إلى «تعبئة موارد مالية إضافية من بينها ترفيع الرسوم والضرائب أو اللجوء إلى التداين، وهو ما سيؤثر على وضعية المالية العمومية». واعتبر السياسي المخضرم والوزير السابق أن الحكومة التونسية «مطالبة بالتعويل أكثر على الموارد المالية الدّاخلية، ومنها ترفيع المداخيل الجبائيّة، وتنظيم حملات للحد من التهرّب الضريبي بهدف الحد من حجم التداين الخارجي».

الأولويات اجتماعية أم سياسية؟
في أي حال، ردود فعل الأطراف السياسية والنقابية في البلاد على الاحتجاجات لم تحسم قضية خلافية كبيرة بين التونسيين: هل الأولوية اليوم اجتماعية اقتصادية... أم سياسية؟
أحمد نجيب الشابي، زعيم المعارضة القانونية في عهد بن علي، ووزير التنمية في الحكومة الأولى بعد الثورة، يُعتَبَر مع عدد من السياسيين البارزين، كرئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة والوزير مدير الديوان الرئاسي السابق رضا بالحاج، أن الأزمة الحالية «ليست اجتماعية اقتصادية فقط... بل سياسية أيضاً». ويطالب هؤلاء السياسيون مع عدد من زعماء الأحزاب المعارضة والمنشقّين عن الحزب الحاكم بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، وبإقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة كفاءات وطنية ليس بينها زعامات سياسية.
كذلك حذّر سعيد العايدي، الوزير السابق والأمين العام لأحد الأحزاب التي شكلها منشقّون عن حزب الرئيس الباجي قائد السبسي، من «الانسياق في حوار وطني يقتصر على الجانب الاقتصادي والاجتماعي من دون التطرّق إلى الجذور السياسية للأزمة». واعتبر العايدي أن «الأزمة تتصاعد منذ 7 سنوات، واختزال الحوار في حوار اقتصادي اجتماعي سيفرغه من محتواه». وبالتالي، طالب العايدي وعدد من قادة الأحزاب المعارضة، بينها محسن مرزوق أمين عام حزب المشروع، بـ«مراجعة النظام السياسي بسبب التداخل الصارخ بين المصالح الحزبية ومؤسسات الدولة التي تشهد اليوم وضع (دولة الحزب)، حيث تحوّلت أجهزة الدولة إلى وسائل لتحقيق مصالح الأحزاب الحاكمة، خصوصاً حزبي (النداء) و(النهضة)، متهماً قياداتهما بالفشل في محاربة الفساد والبطالة والفقر».

حلول عاجلة؟
في هذه الأثناء تبرز دعوات ملحَّة إلى التوفيق بين مطالب الشباب العاطل عن العمل والفقراء والمهمّشين من جهة... وشواغل السياسيين المهتمين خاصة بأجنداتهم الانتخابية والسياسية والحزبية، من جهة أخرى. وبالفعل، دعا نور الدين الطبوبي (أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل) بعد لقاء جمعه مع رئيس الحكومة الشاهد لبحث الاضطرابات الاجتماعية، إلى «معالجة الوضع المتأزم عبر قرارات سياسية جريئة تأخذ بعين الاعتبار مطالب الشباب والفئات المهمشة المتضرّرة من قانون المالية لسنة 2018».
وكشف الطبوبي أنه دعا رئيس الحكومة إلى الإعلان الفوري عن رفع الحد الأدنى لأجور العمال والمنح الاجتماعية التي تقدمها الحكومة إلى العائلات الفقيرة وجرايات التقاعد الضعيفة، إلى جانب «رسم خطة شاملة للتفاعل مع مطالب الشباب في الشغل والاندماج الاجتماعي».
إلا أن الخبراء الاقتصاديين والماليين، مثل أحمد كرم، يرون أن العنصر الأهم يكمن في «تنويع موارد الدولة المالية قبل الحوار حول المسلَّمات، ومن بينها تحسين أوضاع الشباب والمهمشين والعاطلين عن العمل والفقراء». وضمن هذا الإطار حثّ كرم السلطات على «الانفتاح بنسق أكبر على الأسواق الآسيوية، خصوصاً الصين، وعلى الأسواق العربية عموماً ولكن بصفة خاصة الدول الخليجية، من دون المساس بالشريك الاقتصادي الأول لتونس... أي الاتحاد الأوروبي».

غياب البديل؟
على صعيد آخر، مما يفسر إلى حد ما دوران النخب التونسية المعارضة والحاكمة في حلقة مفرغة غياب قوة سياسية قادرة على قيادة مسار التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود. وحقاً، اعترف عبد اللطيف المكّي، الوزير السابق والبرلماني عن كتلة «حركة النهضة» بـ«فشل كل حكومات ما بعد الثورة في إنجاز إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة، رغم ما حصلت عليه من دعم انتخابي وسياسي». وأورد المكي أنه «لا توجد اليوم قوة سياسية قادرة على التغيير لأن الحياة السياسية مضطربة»، معتبراً أنه لا يوجد اليوم ما سماه بـ«المجمع السياسي الذي يجب أن يقود الإصلاحات المطلوبة في تونس».

الأجندات الإقليمية
وبالتوازي، تتواصل تخوفات كثير من المثقفين والسياسيين المستقلين من مستقبل البلاد في ظل تباين التقييمات للاضطرابات الشبابية والاجتماعية وما رافقها من عنف. ومن بين المتخوفين الشاعر البحري العرفاوي، الذي يقلقه «ألا يكون ما جرى في عدة مدن تونسية خلال الأسبوعين الماضيين مجرّد احتجاجات شعبية مشروعة على غلاء الأسعار وصعوبة ظروف العيش، ولكنه كان أيضاً محاولة لتخريب المشهد السياسي التونسي والإقليمي كله، وإعادة خلط الأوراق بين مكوّنات البناء المجتمعي والسياسي الوطني من برلمان وحكومة ورئاسة الجمهورية ومؤسسات وهيئات وأحزاب وتوافقات». ويرجّح العرفاوي، وآخرون، تورّط جهات خارجية في تونس منذ انهيار مؤسسات الدولة المركزي في 2011 «ما يسهّل لعبة السفارات والعواصم الأجنبية، وانتهاك السيادة الوطنية التونسية لتسهيل إنجاز أجندات أطراف إقليمية وعالمية تستهدف منذ مدة ليبيا والجزائر وتعتقد أن مزيداً من إضعاف الدولة التونسية قد يسهل مهمتها فيهما».

مؤشرات تفاؤل
وهكذا، بين هؤلاء وأولئك تتنوع التقييمات وتتباين الإرادات والأولويات، لكن مؤشرات إيجابية تدفع كثرة من التونسيين نحو التفاؤل، من بينها تنظيم الاتحاد العالمي لوكالات السفر، معلناً قبل أيام من مؤتمر السنوي في جزيرة جربة السياحية التونسية عن استئناف الرحلات السياحية العالمية نحو تونس... بعد تعطل طال 3 سنوات. كذلك، تكشف المؤشرات الاقتصادية تحسناً ملموساً في مداخيل الدولة من الصادرات الصناعية والزراعية، وتحسّن قدرات تونس على جذب مزيد من شركات الخدمات العالمية.
ومن الناحية السياسية، يتفاءل قادة الأحزاب الكبرى ومنظمات المجتمع المدني بالنتائج الإيجابية المرتقبة لتنظيم الانتخابات البلدية والجهوية في مطلع شهر مايو (أيار) المقبل، بما يمكن أن يُسهِم في تحسين مناخ الأعمال والعيش في تونس بشكل ملموس، وهذا بعد 7 سنوات من حلّ المجالس البلدية الموروثة عن مرحلة ما قبل ثورة 2011. وفي هذه الحالة لن يكون الاستثناء التونسي في خطر... وسيتمكن الفاعلون السياسيون الكبار من إنقاذ الموقف.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.