أوبرا وينفري... سيدة الإعلام

هل أميركا على موعد مع إعلامي آخر يقرع أبواب البيت الأبيض؟

أوبرا وينفري...  سيدة الإعلام
TT

أوبرا وينفري... سيدة الإعلام

أوبرا وينفري...  سيدة الإعلام

شغلت الإعلامية التلفزيونية الأميركية اللامعة أوبرا وينفري وظيفة أول مذيعة أخبار سوداء في قناة محلية بمدينة ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي بجنوب شرقي الولايات المتحدة، كما أصبحت أول امرأة تملك وتنتج برنامجاً حوارياً خاصاً بها. وفي عام 2003 صنّفتها مجلة «فوربز» أول امرأة سوداء تدخل «عالم المليارديرات». وجاء تكريمها يوم الأحد الماضي في لوس أنجليس خلال جوائز «غولدن غلوبز» – التي يقدّمها الإعلام السينمائي لصناعة السينما – كأحدث إنجاز لسيدة استثنائية. فهل سيتبعه نجاح سباق آخر في عام 2020؟ وهل يُقدّر لوينفري أن تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة الأميركية؟... الأمر الذي تمناه محبوها بإطلاقهم هاشتاغ «أوبرا 2020» و«أوبرا وينفري رئيسة» مطالبين إياها بالترشح للانتخابات المقبلة.

«في عام 1964، كنت فتاة صغيرة جالسة منزل أمي في ميلووكي، أشاهد (الممثلة) آن بانكروفت وهي تقدّم في حفل الأوسكار جائزة أفضل ممثل... لسيدني بواتييه. لم أرَ قبل ذلك قط رجلاً أسود يحظى بكل تلك الحفاوة. اليوم لن أنسى أن هناك بعض الفتيات الصغيرات يشاهدنني بصفتي أول امرأة سوداء تحصل على هذه الجائزة... أريد من جميع الفتيات أن يعرفن أن يوماً جديداً في الأفق».
كان هذا جزءاً من الخطاب الناري لـ«سيدة أميركا الإعلامية» أوبرا وينفري عند منحها جائزة «سيسيل بي دي ميل» الفخرية عن مجمل أعمالها، خلال توزيع جوائز «غولدن غلوبز» يوم الأحد الماضي. ولقد حرّك خطاب أوبرا الحضور، وأشعل مواقع وسائل التواصل الاجتماعي وفتح باب التساؤلات... ومنها «هل يا ترى ستكمل أوبرا وينفري مسيرتها على درب السبّاقين؟».

بدايات متواضعة
أيقظت الكلمة التي ألقتها وينفري مشاعر الحنين لدى جمهورها الذي اعتاد على إطلالتها من خلال برنامجها الشهير على مدار 25 سنة. وجاءت كلمتها في وقت حاسم بالنسبة للنساء اللاتي شاركن بالحفل، وبدت على وجوههن ملامح الاعتزاز برؤية امرأة لها «هالة» أوبرا تستعيد لهن حقوقهن، ولا سيما بعد فضائح التحرش التي ضربت الأوساط الهوليوودية.
المعروف عن أوبرا وينفري ذكاؤها الحاد، واختيارها الكلمة المناسبة في المقام الملائم. وكثيراً ما لجأت إلى الصراحة ومشاركة تجاربها الشخصية مع جمهورها. إنها إنسانة شفافة ومتواضعة، لم تخف بداياتها وماضيها، بل سخرته لدفعها إلى الأمام.
ولدت وينفري (اسمها الأصلي أوروبا غيل وينفري) يوم 29 يناير (كانون الثاني) عام 1954 في بلدة كوزيوسكو بولاية ميسيسيبي (بجنوب الولايات المتحدة) لأسرة سوداء شديدة الفقر. وبما أن أمها غير المتزوجة كانت تعمل خادمة منزلية، عاشت الطفلة مع جدّتها واضطرت إلى ارتداء فساتين مصنوعة من أكياس البطاطس.
وتنقلت أوبرا في سنوات عمرها الأولى بين منازل والدتها وجدتها ووالدها، وكما عاشت في ولايات عدة. وإلى جانب الفقر المدقع، تعرّضت لاعتداء جنسي من قبل أحد أقاربها وحملت في سن الـ13، إلا أن مولودها توفي ولم يكمل أسبوعه الأول.
لقد عاشت أوبرا ماضياً أليماً، وتجارب قاسية دفعتها إلى تعاطي المخدرات. إلا أنها على الرغم من كل الظروف القاسية والاختيارات السيئة استطاعت أن تقف على قدميها بثقة، وتكمل تعليمها، وتتخرج في جامعة تينيسي الحكومية Tennessee State University بتفوق.
كانت أوبرا وينفري من أوائل الطلاب المتحدرين من أصول أفريقية الذين حصلوا على منحة تعليمية في الفنون المسرحية. ومن ثم، بفضل شخصيتها القوية ونيلها لقب «ملكة جمال تينيسي السوداء» فتح أمامها باب العمل في محطة إذاعية محلية لتخطو أولى خطواتها في مجال الإعلام بسن الـ17، ثم انتقلت بعد سنتين للعمل في قناة تلفزيونية بمدينة ناشفيل، عاصمة تينيسي و«عاصمة الموسيقى الأميركية»، لتغدو أصغر المذيعات سناً في تاريخ المحطة. ووفق كتاب عن حياتها بقلم أوستن بروكس «بسبب عواطفها الصادقة أثناء النشرات أبعدوها عن الأخبار، وهكذا أتيحت لها تجربة البرامج (الحوارية)».

نجاحات كبيرة
كانت أولى تجارب أوبرا مع البرامج الحوارية في قناة بمدينة بولتيمور (ولاية ماريلاند) القريبة من العاصمة واشنطن في عام 1976. وهنا حققت نجاحاً كبيراً لفت إليها الأنظار، فاستقطبتها قناة أخرى في مدينة شيكاغو لتقديم برنامج صباحي استطاعت من خلاله كسب قلوب المتابعين.
بعدها، عام 1985 خاضت أوبرا تجربة سينمائية لها وكانت مع المخرج المبدع ستيفن سبيلبرغ في فيلم «اللون الأرجواني» Color Purple، واستحق أداؤها المتميز ترشيحها لجائزة أوسكار «أفضل ممثلة في دور مساند». غير أن النجاح الباهر بدأ حقاً عام 1989 عندما بدأت في تقديم البرنامج الحواري الأشهر عالمياً والذي يحمل اسمها «ذا أوبرا شو». البرنامج اليومي بدأ بتسليط الضوء على قضايا مجتمعية وتحول مع الوقت إلى جزء لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للولايات المتحدة.
من هذا المنبر أطلت أوبرا وينفري طلية 25 سنة على عائلات أميركا والعالم. حاورت شخصيات بارزة بحرفية وعفوية وحساسية لم يمتلكها سواها. كشفوا لها أسرارهم الشخصية بلا تردد، وأصبحت صديقتهم أمام الكاميرا وخلف الكواليس أيضاً.
وباختصار، كان لحلقاتها وقع وتأثير على جميع المشاهدين وصارت «أوبرا» علامة تجارية عالمية يعرض برنامجها في أكثر من مائة دولة. ولذا؛ قرّرت المحاورة البارعة والمتحدثة الطليقة أن تؤسس شركة إنتاج خاصة بها لإنتاج برنامجها في آخر تسعينات القرن الماضي، أسمتها «هاربو» - أي اسمها مع كتابة أحرفها من الخلف إلى الأمام. وبعد ذلك أصبحت أول أميركية متحدرة من أصول أفريقية تتجاوز ثروتها الشخصية حاجز المليار دولار.

«ملكة الإعلام»
برنامج أوبرا الحواري، لم يستقطب الملايين حول العالم ويحقق لها ثروة طائلة فحسب، بل حقق أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ التلفزيون وحصد عدداً من جوائز «إيمي». وعبره استحقت لقب «ملكة الإعلام» و«المرأة الأكثر تأثيراً في أميركا» وغيرها. ولكن، بعد 25 سنة من العطاء اليومي المتواصل، ودّعت أوبرا متابعي برنامجها في مايو (أيار) 2011 في آخر حلقة من البرنامج، وقررت الاعتزال والتفرغ لإدارة شبكة القنوات الفضائية التي تملكها «أو. دبليو. إن»..
إطلالتها اليومية انتهت، لكن مسيرتها الإعلامية لم تتضاءل، بل استطاعت نشر الكتب، وأطلقت مجلتها الخاصة، واستكملت تجاربها في عالم التمثيل، واستطاعت أن تتواصل مع جمهورها من خلال حساباتها النشطة على وسائل التواصل الاجتماعي. انتقلت أوبرا من حياة الفقر والمصاعب إلى عالم الشهرة والرفاهية، إلا أن ذلك لم يغيرها؛ إذ حرصت على تأسيس الكثير من الجمعيات الخيرية وساهمت في مبادرات أميركية وعالمية لدعم الأقل حظا، خصوصا النساء.
في كتابها الصادر في عام 2014 تحت عنوان «ما أعرفه على وجه اليقين» تشدد أوبرا أكثر من مرة على مدى تأثرها بالشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجيلو التي كانت من النساء الأفرو - أميركيات الرائدات في حركة المساواة. إذ كانت تعتبرها عرّابتها وقدوتها، وكانت تزورها باستمرار لسماع شعرها ليكون لها مصدر قوة وإلهام.

أوبرا... والسياسة
من ناحية ثانية، مع أن آراء أوبرا ومواقفها كانت واضحة جداً تجاه القضايا الإنسانية والاجتماعية، فإنها حرصت لفترة على الابتعاد عن السياسة، وما كانت تصرح بقناعاتها توجهاتها خلال سنوات نشاطها مقدمةَ برامج. لكن عندما خاض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حملته الانتخابية الأولى، قررت أوبرا أن تكسر عادتها للمرة الأولى، فدعمته علناً.
قررت أن تدعم أوباما بعد نحو ثمانية أشهر على انطلاق حملته الانتخابية التي لم تلق زخماً كافياً حتى ذلك الحين. لكنها قدّمت أوباما لهوليوود في سبتمبر (أيلول) 2007 خلال حفل خيري بلغت كلفته ثلاثة ملايين دولار. ثم أمضت نحو أربعة أيام معه في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته خلال جولته على عدد من الولايات، مناشدة الناخبين على التصويت له، وحشدت جماهيرها وراءه. عن ذلك، كشفت دراسة أجرتها جامعة ماريلاند بعد فوز أوباما في ولايته الأولى عن أن أوبرا وينفري كانت السبب وراء حصوله على نحو مليون صوت من جمهورها.

تكهنات وتأهبات
تدخّل أوبرا المباشر الوحيد في عالم السياسة الأميركية أثبت مدى تأثيرها على الرأي العام. ولذا؛ انطلقت دعوات من الشارع لترشحها منذ خطابها يوم الأحد الماضي، وطرحت تكهنات لـ«سيناريوهات» محتملة وسط تعطش الإعلام للحصول على تصريحات واضحة إزاء فرص انتقال: «ملكة الإعلام» إلى معترك السياسة وسباق الرئاسة.
استطاعت «لوس أنجليس تايمز» أن تحصل على تعليق من ستيدمان غراهام، شريك عمر أوبرا، الذي قال: إنها لم تفكر جدياً بالترشح «لكن إرادة الناس قد تدفعها لذلك». وبدورها، قالت غيل كينغ، وهي صديقة مقربة من أوبرا، لقناة «سي بي إس» إن «الترشح للرئاسة بات يستميل أوبرا، وإنها تدرسه بجدية». أما ليز برودي، التي قادت حملة المرشحة السابقة هيلاري كلينتون في ولاية نيو هامبشير عام 2008، فأعربت عن ثقتها بأن أوبرا ستقوم بدورها السياسي بالطريقة الصحيحة.
في المقابل، عندما سئل الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الثلاثاء الماضي، على هامش جلسة الكونغرس للهجرة، ما إن كان سيستطيع أن يهزم وينفري في حال نافسته على منصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، أجاب بلا تردد «بالطبع، بإمكاني أن أهزم أوبرا»، قبل أن يضيف «لكنني لا أعتقد أنها تنوي خوض السباق الرئاسي».
ولكن فيما يخص صاحبة العلاقة، نفسها، أوبرا فإنها لم تتخذ إلى الآن أي خطوات تشير إلى تحضيراتها لخوض انتخابات 2020. وهذا، مع تغريدة لها في 27 سبتمبر الماضي ربما تكشف نيتها خوض التحدي. فمن حسابها الشخصي غردت الإعلامية اللامعة مقال رأي للكاتب جون بودهوريتز في صحيفة «نيويورك بوست» تحت عنوان «أوبرا: أمل الديمقراطيين في 2020». وكتبت «شكراً لثقتك يا جون». وجاء هذا المقال بعدما أدارت أوبرا وينفري مناظرة للديمقراطيين ضمن برنامج «ستون دقيقة» في سبتمبر. وحسب بودهوريتز «أوبرا وينفري انعكاس (محسّن) لدونالد ترمب. فهي امرأة وهو ذكر. هي عمّة أميركا المعطاءة. وهو الخال المتسرّع. الاثنان ثريان، لكن مالها من تعب جبينها، لذا فهي تمثل الحلم الأميركي». واستطرد الكاتب: «شهر ترمب برنامجه التلفزيوني، وهي استمدت شهرتها من الشاشة أيضاً، إلا أن تجربتها ومسيرتها الإعلامية أنجح بأشواط؛ إذ استطاعت أن تزرع السعادة والإيجابية في قلوب المشاهدين، وقادتهم خلال حلقاتها عبر رحلة بحث عن الذات». واختتم مقاله بالقول: «أخذ ناخبو (ولاية) ميشيغن عشرين دقيقة من برنامج (ستون دقيقة) وهم يتذمرون من الفوارق السياسية التي تؤرقهم، وفي واقعنا المنقسم، استمدت المناظرة قوتها من الشخصية التي أدارتها، وهي أوبرا، القائدة التي يحتاج إليها الديمقراطيون في الانتخابات المقبلة».

رسالة من طفل
أخيراً، كتبت أوبرا وينفري في مستهل أحد فصول كتابها «لم أتوقع أبداً أن أقدم برنامجي على مدار 25 سنة»، قبل أن تقول في ذلك الفصل كيف فكرت في الاعتزال بعد 12 سنة، ثم بعد إقبال الجمهور قررت التمديد مرة واثنتين وثلاث. واختارت أخيراً التوقف عن تقديم برنامجها في عيده العشرين. لكن رسالة وصلتها غيّرت رأيها، بحسب قولها. تلك الرسالة كانت من الطفل ماثيو الذي حل ضيفاً بإحدى حلقات البرنامج.
ماثيو الذي لم يتعدَ الـ12 ربيعاً في حينها كان يعاني من مرض عضال. أعجبت أوبرا بنضجه واتخذته صديقاً بعد الحلقة. وفي يوم من الأيام كتب لها رسالة من المستشفى قال فيها: «سمعت أنك تنوين الاعتزال في عام البرنامج العشرين، لكن نصيحتي أن تمددي خمس سنوات أخرى». وأضاف «الرقم 25 رقم مثالي، هو تربيع مثالي ويرمز لاكتمال شيء ما، ومسيرتك مع هذا البرنامج لم تكتمل بعد». رسالة مؤثرة من طفل مريض بريء كانت كافية لتغيير رأي وينفري، وبالفعل، مدّدت البرنامج حتى سنته الـ25.
وثمة مَن يقول اليوم، إذا كان وقع كلمات بريئة من صديق عزيز على أوبرا بهذا الحجم، قد تكون رغبة الشارع الملحة منذ خطابها يوم الأحد السبب ما يدفعها أخيراً إلى دخول معترك السياسة.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.