أوبرا وينفري... سيدة الإعلام

هل أميركا على موعد مع إعلامي آخر يقرع أبواب البيت الأبيض؟

أوبرا وينفري...  سيدة الإعلام
TT

أوبرا وينفري... سيدة الإعلام

أوبرا وينفري...  سيدة الإعلام

شغلت الإعلامية التلفزيونية الأميركية اللامعة أوبرا وينفري وظيفة أول مذيعة أخبار سوداء في قناة محلية بمدينة ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي بجنوب شرقي الولايات المتحدة، كما أصبحت أول امرأة تملك وتنتج برنامجاً حوارياً خاصاً بها. وفي عام 2003 صنّفتها مجلة «فوربز» أول امرأة سوداء تدخل «عالم المليارديرات». وجاء تكريمها يوم الأحد الماضي في لوس أنجليس خلال جوائز «غولدن غلوبز» – التي يقدّمها الإعلام السينمائي لصناعة السينما – كأحدث إنجاز لسيدة استثنائية. فهل سيتبعه نجاح سباق آخر في عام 2020؟ وهل يُقدّر لوينفري أن تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة الأميركية؟... الأمر الذي تمناه محبوها بإطلاقهم هاشتاغ «أوبرا 2020» و«أوبرا وينفري رئيسة» مطالبين إياها بالترشح للانتخابات المقبلة.

«في عام 1964، كنت فتاة صغيرة جالسة منزل أمي في ميلووكي، أشاهد (الممثلة) آن بانكروفت وهي تقدّم في حفل الأوسكار جائزة أفضل ممثل... لسيدني بواتييه. لم أرَ قبل ذلك قط رجلاً أسود يحظى بكل تلك الحفاوة. اليوم لن أنسى أن هناك بعض الفتيات الصغيرات يشاهدنني بصفتي أول امرأة سوداء تحصل على هذه الجائزة... أريد من جميع الفتيات أن يعرفن أن يوماً جديداً في الأفق».
كان هذا جزءاً من الخطاب الناري لـ«سيدة أميركا الإعلامية» أوبرا وينفري عند منحها جائزة «سيسيل بي دي ميل» الفخرية عن مجمل أعمالها، خلال توزيع جوائز «غولدن غلوبز» يوم الأحد الماضي. ولقد حرّك خطاب أوبرا الحضور، وأشعل مواقع وسائل التواصل الاجتماعي وفتح باب التساؤلات... ومنها «هل يا ترى ستكمل أوبرا وينفري مسيرتها على درب السبّاقين؟».

بدايات متواضعة
أيقظت الكلمة التي ألقتها وينفري مشاعر الحنين لدى جمهورها الذي اعتاد على إطلالتها من خلال برنامجها الشهير على مدار 25 سنة. وجاءت كلمتها في وقت حاسم بالنسبة للنساء اللاتي شاركن بالحفل، وبدت على وجوههن ملامح الاعتزاز برؤية امرأة لها «هالة» أوبرا تستعيد لهن حقوقهن، ولا سيما بعد فضائح التحرش التي ضربت الأوساط الهوليوودية.
المعروف عن أوبرا وينفري ذكاؤها الحاد، واختيارها الكلمة المناسبة في المقام الملائم. وكثيراً ما لجأت إلى الصراحة ومشاركة تجاربها الشخصية مع جمهورها. إنها إنسانة شفافة ومتواضعة، لم تخف بداياتها وماضيها، بل سخرته لدفعها إلى الأمام.
ولدت وينفري (اسمها الأصلي أوروبا غيل وينفري) يوم 29 يناير (كانون الثاني) عام 1954 في بلدة كوزيوسكو بولاية ميسيسيبي (بجنوب الولايات المتحدة) لأسرة سوداء شديدة الفقر. وبما أن أمها غير المتزوجة كانت تعمل خادمة منزلية، عاشت الطفلة مع جدّتها واضطرت إلى ارتداء فساتين مصنوعة من أكياس البطاطس.
وتنقلت أوبرا في سنوات عمرها الأولى بين منازل والدتها وجدتها ووالدها، وكما عاشت في ولايات عدة. وإلى جانب الفقر المدقع، تعرّضت لاعتداء جنسي من قبل أحد أقاربها وحملت في سن الـ13، إلا أن مولودها توفي ولم يكمل أسبوعه الأول.
لقد عاشت أوبرا ماضياً أليماً، وتجارب قاسية دفعتها إلى تعاطي المخدرات. إلا أنها على الرغم من كل الظروف القاسية والاختيارات السيئة استطاعت أن تقف على قدميها بثقة، وتكمل تعليمها، وتتخرج في جامعة تينيسي الحكومية Tennessee State University بتفوق.
كانت أوبرا وينفري من أوائل الطلاب المتحدرين من أصول أفريقية الذين حصلوا على منحة تعليمية في الفنون المسرحية. ومن ثم، بفضل شخصيتها القوية ونيلها لقب «ملكة جمال تينيسي السوداء» فتح أمامها باب العمل في محطة إذاعية محلية لتخطو أولى خطواتها في مجال الإعلام بسن الـ17، ثم انتقلت بعد سنتين للعمل في قناة تلفزيونية بمدينة ناشفيل، عاصمة تينيسي و«عاصمة الموسيقى الأميركية»، لتغدو أصغر المذيعات سناً في تاريخ المحطة. ووفق كتاب عن حياتها بقلم أوستن بروكس «بسبب عواطفها الصادقة أثناء النشرات أبعدوها عن الأخبار، وهكذا أتيحت لها تجربة البرامج (الحوارية)».

نجاحات كبيرة
كانت أولى تجارب أوبرا مع البرامج الحوارية في قناة بمدينة بولتيمور (ولاية ماريلاند) القريبة من العاصمة واشنطن في عام 1976. وهنا حققت نجاحاً كبيراً لفت إليها الأنظار، فاستقطبتها قناة أخرى في مدينة شيكاغو لتقديم برنامج صباحي استطاعت من خلاله كسب قلوب المتابعين.
بعدها، عام 1985 خاضت أوبرا تجربة سينمائية لها وكانت مع المخرج المبدع ستيفن سبيلبرغ في فيلم «اللون الأرجواني» Color Purple، واستحق أداؤها المتميز ترشيحها لجائزة أوسكار «أفضل ممثلة في دور مساند». غير أن النجاح الباهر بدأ حقاً عام 1989 عندما بدأت في تقديم البرنامج الحواري الأشهر عالمياً والذي يحمل اسمها «ذا أوبرا شو». البرنامج اليومي بدأ بتسليط الضوء على قضايا مجتمعية وتحول مع الوقت إلى جزء لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للولايات المتحدة.
من هذا المنبر أطلت أوبرا وينفري طلية 25 سنة على عائلات أميركا والعالم. حاورت شخصيات بارزة بحرفية وعفوية وحساسية لم يمتلكها سواها. كشفوا لها أسرارهم الشخصية بلا تردد، وأصبحت صديقتهم أمام الكاميرا وخلف الكواليس أيضاً.
وباختصار، كان لحلقاتها وقع وتأثير على جميع المشاهدين وصارت «أوبرا» علامة تجارية عالمية يعرض برنامجها في أكثر من مائة دولة. ولذا؛ قرّرت المحاورة البارعة والمتحدثة الطليقة أن تؤسس شركة إنتاج خاصة بها لإنتاج برنامجها في آخر تسعينات القرن الماضي، أسمتها «هاربو» - أي اسمها مع كتابة أحرفها من الخلف إلى الأمام. وبعد ذلك أصبحت أول أميركية متحدرة من أصول أفريقية تتجاوز ثروتها الشخصية حاجز المليار دولار.

«ملكة الإعلام»
برنامج أوبرا الحواري، لم يستقطب الملايين حول العالم ويحقق لها ثروة طائلة فحسب، بل حقق أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ التلفزيون وحصد عدداً من جوائز «إيمي». وعبره استحقت لقب «ملكة الإعلام» و«المرأة الأكثر تأثيراً في أميركا» وغيرها. ولكن، بعد 25 سنة من العطاء اليومي المتواصل، ودّعت أوبرا متابعي برنامجها في مايو (أيار) 2011 في آخر حلقة من البرنامج، وقررت الاعتزال والتفرغ لإدارة شبكة القنوات الفضائية التي تملكها «أو. دبليو. إن»..
إطلالتها اليومية انتهت، لكن مسيرتها الإعلامية لم تتضاءل، بل استطاعت نشر الكتب، وأطلقت مجلتها الخاصة، واستكملت تجاربها في عالم التمثيل، واستطاعت أن تتواصل مع جمهورها من خلال حساباتها النشطة على وسائل التواصل الاجتماعي. انتقلت أوبرا من حياة الفقر والمصاعب إلى عالم الشهرة والرفاهية، إلا أن ذلك لم يغيرها؛ إذ حرصت على تأسيس الكثير من الجمعيات الخيرية وساهمت في مبادرات أميركية وعالمية لدعم الأقل حظا، خصوصا النساء.
في كتابها الصادر في عام 2014 تحت عنوان «ما أعرفه على وجه اليقين» تشدد أوبرا أكثر من مرة على مدى تأثرها بالشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجيلو التي كانت من النساء الأفرو - أميركيات الرائدات في حركة المساواة. إذ كانت تعتبرها عرّابتها وقدوتها، وكانت تزورها باستمرار لسماع شعرها ليكون لها مصدر قوة وإلهام.

أوبرا... والسياسة
من ناحية ثانية، مع أن آراء أوبرا ومواقفها كانت واضحة جداً تجاه القضايا الإنسانية والاجتماعية، فإنها حرصت لفترة على الابتعاد عن السياسة، وما كانت تصرح بقناعاتها توجهاتها خلال سنوات نشاطها مقدمةَ برامج. لكن عندما خاض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حملته الانتخابية الأولى، قررت أوبرا أن تكسر عادتها للمرة الأولى، فدعمته علناً.
قررت أن تدعم أوباما بعد نحو ثمانية أشهر على انطلاق حملته الانتخابية التي لم تلق زخماً كافياً حتى ذلك الحين. لكنها قدّمت أوباما لهوليوود في سبتمبر (أيلول) 2007 خلال حفل خيري بلغت كلفته ثلاثة ملايين دولار. ثم أمضت نحو أربعة أيام معه في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته خلال جولته على عدد من الولايات، مناشدة الناخبين على التصويت له، وحشدت جماهيرها وراءه. عن ذلك، كشفت دراسة أجرتها جامعة ماريلاند بعد فوز أوباما في ولايته الأولى عن أن أوبرا وينفري كانت السبب وراء حصوله على نحو مليون صوت من جمهورها.

تكهنات وتأهبات
تدخّل أوبرا المباشر الوحيد في عالم السياسة الأميركية أثبت مدى تأثيرها على الرأي العام. ولذا؛ انطلقت دعوات من الشارع لترشحها منذ خطابها يوم الأحد الماضي، وطرحت تكهنات لـ«سيناريوهات» محتملة وسط تعطش الإعلام للحصول على تصريحات واضحة إزاء فرص انتقال: «ملكة الإعلام» إلى معترك السياسة وسباق الرئاسة.
استطاعت «لوس أنجليس تايمز» أن تحصل على تعليق من ستيدمان غراهام، شريك عمر أوبرا، الذي قال: إنها لم تفكر جدياً بالترشح «لكن إرادة الناس قد تدفعها لذلك». وبدورها، قالت غيل كينغ، وهي صديقة مقربة من أوبرا، لقناة «سي بي إس» إن «الترشح للرئاسة بات يستميل أوبرا، وإنها تدرسه بجدية». أما ليز برودي، التي قادت حملة المرشحة السابقة هيلاري كلينتون في ولاية نيو هامبشير عام 2008، فأعربت عن ثقتها بأن أوبرا ستقوم بدورها السياسي بالطريقة الصحيحة.
في المقابل، عندما سئل الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الثلاثاء الماضي، على هامش جلسة الكونغرس للهجرة، ما إن كان سيستطيع أن يهزم وينفري في حال نافسته على منصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، أجاب بلا تردد «بالطبع، بإمكاني أن أهزم أوبرا»، قبل أن يضيف «لكنني لا أعتقد أنها تنوي خوض السباق الرئاسي».
ولكن فيما يخص صاحبة العلاقة، نفسها، أوبرا فإنها لم تتخذ إلى الآن أي خطوات تشير إلى تحضيراتها لخوض انتخابات 2020. وهذا، مع تغريدة لها في 27 سبتمبر الماضي ربما تكشف نيتها خوض التحدي. فمن حسابها الشخصي غردت الإعلامية اللامعة مقال رأي للكاتب جون بودهوريتز في صحيفة «نيويورك بوست» تحت عنوان «أوبرا: أمل الديمقراطيين في 2020». وكتبت «شكراً لثقتك يا جون». وجاء هذا المقال بعدما أدارت أوبرا وينفري مناظرة للديمقراطيين ضمن برنامج «ستون دقيقة» في سبتمبر. وحسب بودهوريتز «أوبرا وينفري انعكاس (محسّن) لدونالد ترمب. فهي امرأة وهو ذكر. هي عمّة أميركا المعطاءة. وهو الخال المتسرّع. الاثنان ثريان، لكن مالها من تعب جبينها، لذا فهي تمثل الحلم الأميركي». واستطرد الكاتب: «شهر ترمب برنامجه التلفزيوني، وهي استمدت شهرتها من الشاشة أيضاً، إلا أن تجربتها ومسيرتها الإعلامية أنجح بأشواط؛ إذ استطاعت أن تزرع السعادة والإيجابية في قلوب المشاهدين، وقادتهم خلال حلقاتها عبر رحلة بحث عن الذات». واختتم مقاله بالقول: «أخذ ناخبو (ولاية) ميشيغن عشرين دقيقة من برنامج (ستون دقيقة) وهم يتذمرون من الفوارق السياسية التي تؤرقهم، وفي واقعنا المنقسم، استمدت المناظرة قوتها من الشخصية التي أدارتها، وهي أوبرا، القائدة التي يحتاج إليها الديمقراطيون في الانتخابات المقبلة».

رسالة من طفل
أخيراً، كتبت أوبرا وينفري في مستهل أحد فصول كتابها «لم أتوقع أبداً أن أقدم برنامجي على مدار 25 سنة»، قبل أن تقول في ذلك الفصل كيف فكرت في الاعتزال بعد 12 سنة، ثم بعد إقبال الجمهور قررت التمديد مرة واثنتين وثلاث. واختارت أخيراً التوقف عن تقديم برنامجها في عيده العشرين. لكن رسالة وصلتها غيّرت رأيها، بحسب قولها. تلك الرسالة كانت من الطفل ماثيو الذي حل ضيفاً بإحدى حلقات البرنامج.
ماثيو الذي لم يتعدَ الـ12 ربيعاً في حينها كان يعاني من مرض عضال. أعجبت أوبرا بنضجه واتخذته صديقاً بعد الحلقة. وفي يوم من الأيام كتب لها رسالة من المستشفى قال فيها: «سمعت أنك تنوين الاعتزال في عام البرنامج العشرين، لكن نصيحتي أن تمددي خمس سنوات أخرى». وأضاف «الرقم 25 رقم مثالي، هو تربيع مثالي ويرمز لاكتمال شيء ما، ومسيرتك مع هذا البرنامج لم تكتمل بعد». رسالة مؤثرة من طفل مريض بريء كانت كافية لتغيير رأي وينفري، وبالفعل، مدّدت البرنامج حتى سنته الـ25.
وثمة مَن يقول اليوم، إذا كان وقع كلمات بريئة من صديق عزيز على أوبرا بهذا الحجم، قد تكون رغبة الشارع الملحة منذ خطابها يوم الأحد السبب ما يدفعها أخيراً إلى دخول معترك السياسة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.