شغلت الإعلامية التلفزيونية الأميركية اللامعة أوبرا وينفري وظيفة أول مذيعة أخبار سوداء في قناة محلية بمدينة ناشفيل، عاصمة ولاية تينيسي بجنوب شرقي الولايات المتحدة، كما أصبحت أول امرأة تملك وتنتج برنامجاً حوارياً خاصاً بها. وفي عام 2003 صنّفتها مجلة «فوربز» أول امرأة سوداء تدخل «عالم المليارديرات». وجاء تكريمها يوم الأحد الماضي في لوس أنجليس خلال جوائز «غولدن غلوبز» – التي يقدّمها الإعلام السينمائي لصناعة السينما – كأحدث إنجاز لسيدة استثنائية. فهل سيتبعه نجاح سباق آخر في عام 2020؟ وهل يُقدّر لوينفري أن تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة الأميركية؟... الأمر الذي تمناه محبوها بإطلاقهم هاشتاغ «أوبرا 2020» و«أوبرا وينفري رئيسة» مطالبين إياها بالترشح للانتخابات المقبلة.
«في عام 1964، كنت فتاة صغيرة جالسة منزل أمي في ميلووكي، أشاهد (الممثلة) آن بانكروفت وهي تقدّم في حفل الأوسكار جائزة أفضل ممثل... لسيدني بواتييه. لم أرَ قبل ذلك قط رجلاً أسود يحظى بكل تلك الحفاوة. اليوم لن أنسى أن هناك بعض الفتيات الصغيرات يشاهدنني بصفتي أول امرأة سوداء تحصل على هذه الجائزة... أريد من جميع الفتيات أن يعرفن أن يوماً جديداً في الأفق».
كان هذا جزءاً من الخطاب الناري لـ«سيدة أميركا الإعلامية» أوبرا وينفري عند منحها جائزة «سيسيل بي دي ميل» الفخرية عن مجمل أعمالها، خلال توزيع جوائز «غولدن غلوبز» يوم الأحد الماضي. ولقد حرّك خطاب أوبرا الحضور، وأشعل مواقع وسائل التواصل الاجتماعي وفتح باب التساؤلات... ومنها «هل يا ترى ستكمل أوبرا وينفري مسيرتها على درب السبّاقين؟».
بدايات متواضعة
أيقظت الكلمة التي ألقتها وينفري مشاعر الحنين لدى جمهورها الذي اعتاد على إطلالتها من خلال برنامجها الشهير على مدار 25 سنة. وجاءت كلمتها في وقت حاسم بالنسبة للنساء اللاتي شاركن بالحفل، وبدت على وجوههن ملامح الاعتزاز برؤية امرأة لها «هالة» أوبرا تستعيد لهن حقوقهن، ولا سيما بعد فضائح التحرش التي ضربت الأوساط الهوليوودية.
المعروف عن أوبرا وينفري ذكاؤها الحاد، واختيارها الكلمة المناسبة في المقام الملائم. وكثيراً ما لجأت إلى الصراحة ومشاركة تجاربها الشخصية مع جمهورها. إنها إنسانة شفافة ومتواضعة، لم تخف بداياتها وماضيها، بل سخرته لدفعها إلى الأمام.
ولدت وينفري (اسمها الأصلي أوروبا غيل وينفري) يوم 29 يناير (كانون الثاني) عام 1954 في بلدة كوزيوسكو بولاية ميسيسيبي (بجنوب الولايات المتحدة) لأسرة سوداء شديدة الفقر. وبما أن أمها غير المتزوجة كانت تعمل خادمة منزلية، عاشت الطفلة مع جدّتها واضطرت إلى ارتداء فساتين مصنوعة من أكياس البطاطس.
وتنقلت أوبرا في سنوات عمرها الأولى بين منازل والدتها وجدتها ووالدها، وكما عاشت في ولايات عدة. وإلى جانب الفقر المدقع، تعرّضت لاعتداء جنسي من قبل أحد أقاربها وحملت في سن الـ13، إلا أن مولودها توفي ولم يكمل أسبوعه الأول.
لقد عاشت أوبرا ماضياً أليماً، وتجارب قاسية دفعتها إلى تعاطي المخدرات. إلا أنها على الرغم من كل الظروف القاسية والاختيارات السيئة استطاعت أن تقف على قدميها بثقة، وتكمل تعليمها، وتتخرج في جامعة تينيسي الحكومية Tennessee State University بتفوق.
كانت أوبرا وينفري من أوائل الطلاب المتحدرين من أصول أفريقية الذين حصلوا على منحة تعليمية في الفنون المسرحية. ومن ثم، بفضل شخصيتها القوية ونيلها لقب «ملكة جمال تينيسي السوداء» فتح أمامها باب العمل في محطة إذاعية محلية لتخطو أولى خطواتها في مجال الإعلام بسن الـ17، ثم انتقلت بعد سنتين للعمل في قناة تلفزيونية بمدينة ناشفيل، عاصمة تينيسي و«عاصمة الموسيقى الأميركية»، لتغدو أصغر المذيعات سناً في تاريخ المحطة. ووفق كتاب عن حياتها بقلم أوستن بروكس «بسبب عواطفها الصادقة أثناء النشرات أبعدوها عن الأخبار، وهكذا أتيحت لها تجربة البرامج (الحوارية)».
نجاحات كبيرة
كانت أولى تجارب أوبرا مع البرامج الحوارية في قناة بمدينة بولتيمور (ولاية ماريلاند) القريبة من العاصمة واشنطن في عام 1976. وهنا حققت نجاحاً كبيراً لفت إليها الأنظار، فاستقطبتها قناة أخرى في مدينة شيكاغو لتقديم برنامج صباحي استطاعت من خلاله كسب قلوب المتابعين.
بعدها، عام 1985 خاضت أوبرا تجربة سينمائية لها وكانت مع المخرج المبدع ستيفن سبيلبرغ في فيلم «اللون الأرجواني» Color Purple، واستحق أداؤها المتميز ترشيحها لجائزة أوسكار «أفضل ممثلة في دور مساند». غير أن النجاح الباهر بدأ حقاً عام 1989 عندما بدأت في تقديم البرنامج الحواري الأشهر عالمياً والذي يحمل اسمها «ذا أوبرا شو». البرنامج اليومي بدأ بتسليط الضوء على قضايا مجتمعية وتحول مع الوقت إلى جزء لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للولايات المتحدة.
من هذا المنبر أطلت أوبرا وينفري طلية 25 سنة على عائلات أميركا والعالم. حاورت شخصيات بارزة بحرفية وعفوية وحساسية لم يمتلكها سواها. كشفوا لها أسرارهم الشخصية بلا تردد، وأصبحت صديقتهم أمام الكاميرا وخلف الكواليس أيضاً.
وباختصار، كان لحلقاتها وقع وتأثير على جميع المشاهدين وصارت «أوبرا» علامة تجارية عالمية يعرض برنامجها في أكثر من مائة دولة. ولذا؛ قرّرت المحاورة البارعة والمتحدثة الطليقة أن تؤسس شركة إنتاج خاصة بها لإنتاج برنامجها في آخر تسعينات القرن الماضي، أسمتها «هاربو» - أي اسمها مع كتابة أحرفها من الخلف إلى الأمام. وبعد ذلك أصبحت أول أميركية متحدرة من أصول أفريقية تتجاوز ثروتها الشخصية حاجز المليار دولار.
«ملكة الإعلام»
برنامج أوبرا الحواري، لم يستقطب الملايين حول العالم ويحقق لها ثروة طائلة فحسب، بل حقق أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ التلفزيون وحصد عدداً من جوائز «إيمي». وعبره استحقت لقب «ملكة الإعلام» و«المرأة الأكثر تأثيراً في أميركا» وغيرها. ولكن، بعد 25 سنة من العطاء اليومي المتواصل، ودّعت أوبرا متابعي برنامجها في مايو (أيار) 2011 في آخر حلقة من البرنامج، وقررت الاعتزال والتفرغ لإدارة شبكة القنوات الفضائية التي تملكها «أو. دبليو. إن»..
إطلالتها اليومية انتهت، لكن مسيرتها الإعلامية لم تتضاءل، بل استطاعت نشر الكتب، وأطلقت مجلتها الخاصة، واستكملت تجاربها في عالم التمثيل، واستطاعت أن تتواصل مع جمهورها من خلال حساباتها النشطة على وسائل التواصل الاجتماعي. انتقلت أوبرا من حياة الفقر والمصاعب إلى عالم الشهرة والرفاهية، إلا أن ذلك لم يغيرها؛ إذ حرصت على تأسيس الكثير من الجمعيات الخيرية وساهمت في مبادرات أميركية وعالمية لدعم الأقل حظا، خصوصا النساء.
في كتابها الصادر في عام 2014 تحت عنوان «ما أعرفه على وجه اليقين» تشدد أوبرا أكثر من مرة على مدى تأثرها بالشاعرة الأميركية الراحلة مايا أنجيلو التي كانت من النساء الأفرو - أميركيات الرائدات في حركة المساواة. إذ كانت تعتبرها عرّابتها وقدوتها، وكانت تزورها باستمرار لسماع شعرها ليكون لها مصدر قوة وإلهام.
أوبرا... والسياسة
من ناحية ثانية، مع أن آراء أوبرا ومواقفها كانت واضحة جداً تجاه القضايا الإنسانية والاجتماعية، فإنها حرصت لفترة على الابتعاد عن السياسة، وما كانت تصرح بقناعاتها توجهاتها خلال سنوات نشاطها مقدمةَ برامج. لكن عندما خاض الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حملته الانتخابية الأولى، قررت أوبرا أن تكسر عادتها للمرة الأولى، فدعمته علناً.
قررت أن تدعم أوباما بعد نحو ثمانية أشهر على انطلاق حملته الانتخابية التي لم تلق زخماً كافياً حتى ذلك الحين. لكنها قدّمت أوباما لهوليوود في سبتمبر (أيلول) 2007 خلال حفل خيري بلغت كلفته ثلاثة ملايين دولار. ثم أمضت نحو أربعة أيام معه في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته خلال جولته على عدد من الولايات، مناشدة الناخبين على التصويت له، وحشدت جماهيرها وراءه. عن ذلك، كشفت دراسة أجرتها جامعة ماريلاند بعد فوز أوباما في ولايته الأولى عن أن أوبرا وينفري كانت السبب وراء حصوله على نحو مليون صوت من جمهورها.
تكهنات وتأهبات
تدخّل أوبرا المباشر الوحيد في عالم السياسة الأميركية أثبت مدى تأثيرها على الرأي العام. ولذا؛ انطلقت دعوات من الشارع لترشحها منذ خطابها يوم الأحد الماضي، وطرحت تكهنات لـ«سيناريوهات» محتملة وسط تعطش الإعلام للحصول على تصريحات واضحة إزاء فرص انتقال: «ملكة الإعلام» إلى معترك السياسة وسباق الرئاسة.
استطاعت «لوس أنجليس تايمز» أن تحصل على تعليق من ستيدمان غراهام، شريك عمر أوبرا، الذي قال: إنها لم تفكر جدياً بالترشح «لكن إرادة الناس قد تدفعها لذلك». وبدورها، قالت غيل كينغ، وهي صديقة مقربة من أوبرا، لقناة «سي بي إس» إن «الترشح للرئاسة بات يستميل أوبرا، وإنها تدرسه بجدية». أما ليز برودي، التي قادت حملة المرشحة السابقة هيلاري كلينتون في ولاية نيو هامبشير عام 2008، فأعربت عن ثقتها بأن أوبرا ستقوم بدورها السياسي بالطريقة الصحيحة.
في المقابل، عندما سئل الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الثلاثاء الماضي، على هامش جلسة الكونغرس للهجرة، ما إن كان سيستطيع أن يهزم وينفري في حال نافسته على منصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، أجاب بلا تردد «بالطبع، بإمكاني أن أهزم أوبرا»، قبل أن يضيف «لكنني لا أعتقد أنها تنوي خوض السباق الرئاسي».
ولكن فيما يخص صاحبة العلاقة، نفسها، أوبرا فإنها لم تتخذ إلى الآن أي خطوات تشير إلى تحضيراتها لخوض انتخابات 2020. وهذا، مع تغريدة لها في 27 سبتمبر الماضي ربما تكشف نيتها خوض التحدي. فمن حسابها الشخصي غردت الإعلامية اللامعة مقال رأي للكاتب جون بودهوريتز في صحيفة «نيويورك بوست» تحت عنوان «أوبرا: أمل الديمقراطيين في 2020». وكتبت «شكراً لثقتك يا جون». وجاء هذا المقال بعدما أدارت أوبرا وينفري مناظرة للديمقراطيين ضمن برنامج «ستون دقيقة» في سبتمبر. وحسب بودهوريتز «أوبرا وينفري انعكاس (محسّن) لدونالد ترمب. فهي امرأة وهو ذكر. هي عمّة أميركا المعطاءة. وهو الخال المتسرّع. الاثنان ثريان، لكن مالها من تعب جبينها، لذا فهي تمثل الحلم الأميركي». واستطرد الكاتب: «شهر ترمب برنامجه التلفزيوني، وهي استمدت شهرتها من الشاشة أيضاً، إلا أن تجربتها ومسيرتها الإعلامية أنجح بأشواط؛ إذ استطاعت أن تزرع السعادة والإيجابية في قلوب المشاهدين، وقادتهم خلال حلقاتها عبر رحلة بحث عن الذات». واختتم مقاله بالقول: «أخذ ناخبو (ولاية) ميشيغن عشرين دقيقة من برنامج (ستون دقيقة) وهم يتذمرون من الفوارق السياسية التي تؤرقهم، وفي واقعنا المنقسم، استمدت المناظرة قوتها من الشخصية التي أدارتها، وهي أوبرا، القائدة التي يحتاج إليها الديمقراطيون في الانتخابات المقبلة».
رسالة من طفل
أخيراً، كتبت أوبرا وينفري في مستهل أحد فصول كتابها «لم أتوقع أبداً أن أقدم برنامجي على مدار 25 سنة»، قبل أن تقول في ذلك الفصل كيف فكرت في الاعتزال بعد 12 سنة، ثم بعد إقبال الجمهور قررت التمديد مرة واثنتين وثلاث. واختارت أخيراً التوقف عن تقديم برنامجها في عيده العشرين. لكن رسالة وصلتها غيّرت رأيها، بحسب قولها. تلك الرسالة كانت من الطفل ماثيو الذي حل ضيفاً بإحدى حلقات البرنامج.
ماثيو الذي لم يتعدَ الـ12 ربيعاً في حينها كان يعاني من مرض عضال. أعجبت أوبرا بنضجه واتخذته صديقاً بعد الحلقة. وفي يوم من الأيام كتب لها رسالة من المستشفى قال فيها: «سمعت أنك تنوين الاعتزال في عام البرنامج العشرين، لكن نصيحتي أن تمددي خمس سنوات أخرى». وأضاف «الرقم 25 رقم مثالي، هو تربيع مثالي ويرمز لاكتمال شيء ما، ومسيرتك مع هذا البرنامج لم تكتمل بعد». رسالة مؤثرة من طفل مريض بريء كانت كافية لتغيير رأي وينفري، وبالفعل، مدّدت البرنامج حتى سنته الـ25.
وثمة مَن يقول اليوم، إذا كان وقع كلمات بريئة من صديق عزيز على أوبرا بهذا الحجم، قد تكون رغبة الشارع الملحة منذ خطابها يوم الأحد السبب ما يدفعها أخيراً إلى دخول معترك السياسة.